عن الإعلام والسلطة واستشراف المستقبل
»اقرأ، فأنت في الشارقة!«
ليست القراءة بديلاً من الابتسامة التي كانت تحرض عليها اللافتات الدالة على هذه الإمارة المحرومة من النفط والمشغوفة كحاكمها بالثقافة، والتي تحاول أن تعوض بكل ما هو »معنوي« افتقارها الى مصادر الثروة الطبيعية.
هي رحلة بين »القلم« في بيروت و»الكتاب« الذي أقامت له شارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي نصباً تذكارياً يتوسل القرآن الكريم لتوثيق الصلة بين العين والحرف، ولإعادة الاعتبار إلى النص المكتوب بعدما طغت وسائط الجذب والإغراء المرئية فأخذت الناس بعيدا عن الذاكرة الجماعية وبعيدا عن الموروث الثقافي وعلقتهم في الهواء المتخم بالثرثرة والصور المعربدة…
المناسبة دعوة كريمة للمشاركة في ندوة حول: دور وسائل الإعلام في استشراف صورة المستقبل والولوج إلى القرن المقبل..
والندوة أقيمت على هامش المعرض السنوي للكتاب، وقد تزايدت أجنحته على امتداد الأعوام الثمانية عشر الماضية، وتعاظم عدد المشاركين فيه واغتنى بالنتاج الثقافي، فصارت خيمته الأولى مضرباً لقبيلة الكتّاب والمبدعين والمترجمين والشعراء الذين يتبعهم أمثالنا من الغاوين.
ولقد أسعدتني مشاركة »الاستشهادية« اليمنية الدكتورة أمة العليم سوسوه وكيلة وزارة الثقافة والاعلام في صنعاء، والداعية النهضوية المتميزة التي تقتحم صفوف الرجال بشجاعة صاحب الحق المهدور منذ قرون، فصرنا صوتين لدعوة واحدة تتخطى قيود الأنظمة لتقول ما يجب أن يقال عنها، وفي وجهها.
على انه كان طبيعياً ان نبدأ الكلام بالتحفظ على عنوان الندوة…
ذلك ان الناس، في وطننا العربي على وجه الخصوص، كثيرا ما يحاسبون الإعلام وكأنه »السلطة«. ولعلهم، لأنهم تعوّدوه أن يكون »رسمياً« وناطقاً باسم »السلطة« ومدافعاً عن أخطائها وخطاياها، باتوا يحاسبونه وينسونها، أو يحاسبونها عبره وينسون أو يتناسون انهم هم »المغيّبون«، وأن إدانتهم للإعلام تظل قاصرة فلا تطال المسؤول الحقيقي، بل هي قد تمنحهم فرصة للتبرؤ منه بتغيير رؤساء التحرير أو المشرفين عليهم، وكفى الله »الحاكمين« شر المحاكمة..
وأحياناً يجري الحديث عن الإعلام، بكل وسائله، وكأنه عالم قائم بذاته، منفصل عن مجتمعه، وعن القوانين الناظمة للعلاقات فيه، وعن النظام أو الأنظمة التي تصدره أو يصدر في ظلها، فيحاسَب وكأنه صاحب القرار، وكأنه يفعل أو لا يفعل بإرادته الحرة، أو بمزاج أصحابه ومسيّري العمل فيه، وبمعزل عن وتيرة التقدم العام والوضع الاقتصادي والقيود الإدارية والقانونية التي تنظم الحياة العامة بما فيها وسائط الاتصال والمواصلات في ظل الثورة الهائلة في هذا المجال.
والأخطر أننا نحاكم وسائل الإعلام، أحيانا، على ما ترتكبه الأنظمة، ونحمّلها مسؤوليات أصحاب القرار، وننسى أو نتناسى أن وسائل الاعلام في معظم البلاد العربية إدارات حكومية، أو دون ذلك، وفي القليل الخارج على الملكية العامة هي مجموعة من المؤسسات الخاصة تحاول بإمكانياتها المحدودة، وفي ظل ظروف صعبة وشديدة التعقيد، أن تضمن استمرارها أولاً، وتطوير ذاتها ثانياً، وأداء ما تعتبره رسالتها بالحفاظ على لغتها وهويتها وسلامة توجهها من الضياع في محيطات المعلومات المستوردة، دائماً، وذات الغرض غالباً، والمزوّرة في ما يعنينا كعرب في العديد من الحالات، أبرزها ما يتصل بإسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي.
ولنتفق: ان وسائل الاعلام هي في أحسن التوصيف منابر وليست قيادات سياسية، اما في مجملها، ونعني بالذات الأخطر منها، أي التلفزيون وفضائياته، فهي مؤسسات حكومية أو شبه حكومية، حتى لو سجلت في عواصم أجنبية كشركات يملكها أفراد لهم ألقاب سامية، أو موّهت بجعلها هيئات مستقلة، ينتهي استقلالها عند باب الوزير.
والاعلام فرع من أصل، والأصل هي ثقافة الأمة.
والإعلام، وسيلة، أما الأساس أو المنطلق فهو السياسة.
وأي إعلام يكون في غياب الديموقراطية؟! في غياب حرية الرأي والمعتقد وحرية الحصول على المعلومات؟
بل أي إعلام يكون في غياب المشاركة الشعبية في القرار السياسي.
إننا قد نتورط في الطريق الخطأ فنحاسب أفراداً يملكون أو يعملون في مؤسسات إعلامية محدودة الإمكانات والتأثير، بينما المحاسبة يجب أن تتجه إلى أصحاب القرار السياسي.
إن الصحافة العربية تكاد تلقي السلاح خارجة من ميدان الصراع، لأسباب عديدة أقلها يتصل بها ومعظمها يتصل بالظروف التي تعيشها الأمة.
إن التطورات السياسية الخطيرة التي عشناها في العقود الثلاثة الأخيرة، عمقت الانقسام وحفرت للروح الانفصالية ومكنتها في النفس العربية، فتهاوت وشائج القربى وروابط القضية، وصار العرب أمماً شتى، ولم يعودوا وحدة بأي معيار سياسي، ناهيك بالمعايير الاقتصادية.
تراجعت القومية حتى باتت أقرب إلى الذكريات، بل ان البعض بات ينظر إليها الآن كسبة وينسب إليها كل ما أصاب الأمة من هزائم وتراجعات… وبعض هذا البعض لم يكن قومياً في أي يوم، وكان يداري ويتظاهر أيام النهوض القومي متمنياً أن تجيء لحظة الخلاص ولو على يد الإسرائيلي أو الأجنبي عموما، وهي قد جاءت مع الأسف فحررته من قوميته المفروضة فرضاً بقوة الإجماع!
وللتراجع آثاره المادية المباشرة: صارت الحدود بين الأقطار العربية سدوداً، وادعى كل نظام ان لشعبه قيماً غير التي لشعوب الأنظمة الأخرى!! فمنع التواصل والاتصال، وصار الحصول على تأشيرة لزيارة بعض الأقطار في مستوى الأمنية (بينما تأشيرات الدول الأجنبية متاحة، ضمن الشروط المعلنة).
كذلك استشرت الرقابة على كل شيء: من حركة الأفراد، الى حركة المعلومات، إلى مجالات الثقافة والنتاج الثقافي، وبينها الكتب والصحف والمطبوعات (والتسجيلات) عموماً… ولعل بين المشاركين في معرض الكتاب الثامن عشر القائم هنا من يستطيع الإدلاء بشهادات مفجعة عن حجم المصادرات ومبرراتها المفزعة، وهي غالباً ما تتصل بالاسم وبغض النظر عن المضمون، وأحيانا ما تتذرع باللافتة الدينية على حساب الدين والإيمان!
صار التواصل صعباً بل مستحيلاً إلا بإذن،
والإذن يلغي الحرية،
والإذن يسقط »العروبة«، والانتماء القومي،
كل هذا قبل أن نتحدث عن فواجع ما بعد أسطورة السلام مع العدو الإسرائيلي واتفاقات الإذعان التي عقدتها معه بعض الأنظمة العربية، بكل شروطها الناهية للقومية والمعطلة للترابط أو للتضامن العربي.
فإذا أضيفت الى هذا كله الكلفة العالية للإنتاج والنقل تبدّى جلياً ان الصحافة العربية مهددة بالانقراض: لقد حلت الصحيفة المحلية محل الصحيفة العربية، ولذلك أسباب مفهوم.
صارت الأخبار العربية »باباً« في الصحيفة العربية.
الأولوية المطلقة للمحليات، بكل تفاصيلها المملة.
ثم تأتي الدوليات، فمركز القرار العالمي أميركي، والأخبار تجيء من هناك، سواء أكانت على شكل قرار بالهجوم على العراق أم بالإغارة على السودان أم بفرض الحصار على ليبيا، أم بآخر مبتكرات الجنس الشفوي مع مونيكا لوينسكي في الغرف والممرات المعتمة في البيت الأبيض بواشنطن.
نادراً ما نعرف الوقائع العربية من مصدر عربي.
كيف نستشرف كوسائل إعلام صورة المستقبل إذا كنا لا نعرف حقائق الحاضر؟!
إن بمقدورنا أن نشتري أحدث أجهزة الاتصال: أكبر أجهزة الكومبيوتر وأعظمها تعقيدا. ويمكننا أن ندخل الى مختلف مواقع المعلومات على الأنترنت. وبوسعنا الحصول على الصور الخاصة والفورية من آخر نقطة في الأرض بعد أكلاف نقلها بالأقمار الصناعية.
بل ها نحن قد اكتسحنا الفضاء بقنواتنا ذات الإمكانات المفتوحة، فصارت محطاتنا فيه أكثر عددا من المحطات الأرضية، ولعلها تتكلف مجتمعة أكثر مما تتكلف البي. بي. سي، مثلاً، أو حتى السي. ان. ان.
ولكن السؤال: ماذا تقول هذه الأقنية، وهل هي إسهام فعلي بما ينفعنا في غدنا؟!
ولعل سؤالاً آخر يفرض نفسه، بداية: هل هذه الأقنية عربية فعلاً؟! هل هو دخول عربي إلى العصر؟! وهل يكون الدخول بالمسلسل المكسيكي وفيلم الكاوبوي الأميركي، وبإعلانات السلع ذات الجاذبية الجنسية، أو بالمسرحية المصرية العتيقة، أو بالفيديو كليب للمغنية اللبنانية وهي تشدو بلحن خليجي أعاد تركيبه آلاتي مصري وتم تصويره في استديو يوناني أو إيطالي؟!
ان ولوجنا الى القرن المقبل لا يمكن أن يتم بأدوات مستعارة.
إن لم نكن الآن نحن، فلن نكون غداً إلا ما نحن اليوم.
مَن نحن؟!
لم يعد مثل هذا السؤال عبثياً، أو مجرد ترف وجودي.
لم نعد مَن كنا. (فدخول إسرائيل فينا غيّر ويغيّر وسيغيّر الكثير مما كنا نعتبره من البديهيات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فلم يعد كثيرون منا يستعملون تعبير الوطن العربي للدلالة على أرضنا، منطقتنا، أمتنا، بل صار التعبير الغالب والمشروع: الشرق الأوسط… وهذا تغيير في المضمون وليس في الشكل، ويعني في جملة ما يعنيه أن إسرائيل قد باتت شرعية، مثلنا وأكثر، وأن شرعيتها من القوة ما يقتضي تغيير اسم المنطقة، التي تهيمن الآن عليها ومن حقها بالتالي أن تغير لها اسمها وهويتها وقاطنيها..).
إن استشراف صورة المستقبل مهمة جليلة وخطيرة جدا، بحيث لا يجوز أن تُترك لجهة واحدة.
إن وسائل الإعلام العربية وسائل وليست قيادات ولا هي مراكز للقرار.
لكن الأساس هو المجتمع ومدى ما يتمتع به من حريات عامة.
فحرية الصحافة، أو وسائل الإعلام عموماً، عنوان، مجرد عنوان للحريات في هذا المجتمع أو ذاك: حيث تصدر الصحف نشرات متشابهة قد تخطئ بينها فلا تميز إحداها عن الأخرى، فمعنى ذلك أن لا حرية ولا صحافة على الإطلاق.
وبالتالي فلا تطلب حريتك من المقيّد،
ولا تطلب لمن عصبت عيناه، حتى لا يرى، أن يقودك إلى مستقبلك الممتلئة جنباته بنور المعرفة.
تهويمات
قرأ عليَّ الرجل العجوز من كراسة صباه:
»بين الرغبة والرغبة جدار من العيون
والخوف وحش مفترس يفرض عليك رصانة البلادة وإنكار آدميتك.
لماذا أخفتني يا أمي من يدي؟!
لماذا أخبرتني أن جسدي هو مصدر اللعنة وأن »البركة« في قتله كل ساعة!
لماذا نهرتني يا أبي حين فاجأك شبابي، ففرضت عليَّ أن أنكره، وأن أترك رأسي يتدحرج مع الصبية التي أفرحتني باكتشافه.
مَن يعوّضني يدي وجسدي ورأسي والصبية المشغوفة باكتشاف القارات المجهولة؟!
عيني كتاب للرغبات،
وعيون الآخرين تخترق الصفحات وتمحو الكتابة.
لكن اسمك يعود فينبت على يدي عشباً أخضر،
ويعلمني أحرف الهجاء من جديد..«.
* * *
تقتربين لتؤكدي البُعد،
وأنا الآتي من الخاطر، والذي تلغيه المصافحة
نلتقي خلف الظن
ونفترق لنتحاضن في الأسرة الفارغة.
تومئين إلى صديقتك أن اتركينا لعلنا…
لكن الصديقة تستوطن »لعل«، فلا تذهب إلا معها.
يتحلق الأصدقاء حول الاحتمال، فينفيه وجودهم ويلغيه الغياب
كأننا لا نتلاقى إلا غائبين،
كأننا لا نغيب إلا متى تلاقينا
وكأننا لا نكون واحدا إلا في تيه التمني
لهفي على التيه في ما وراء »لعل«…
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
قبل الحب كنت ضعيفاً، جباناً، متردداً، أعجز عن اتخاذ أي قرار. أما اليوم، وبالقوة التي أمدّني بها الحب، فإنني أحس بأنني أملك مفاتيح أسرار الكون.
بالحب تستطيع أن تعيد بناء الحياة.
فالحب مشاع كالعطر ونور الشمس، لا يغيّرك وحدك، ولكنه يُظهر أجمل ما في الآخرين.
في الحب بعض أسرار الخالق، وبعض قدراته.
أليس الخالق هو المحب الأعظم؟!