السلطان المقدس يمد يده إلى الرعية بديموقراطية السيف!
لم يكد يستقر على مقعده أمامي حتى تفجر غضبه قذائف حارقة.. قال:
كنت أتابع نشرة الأخبار على شاشة بعض الفضائيات حين جاء ذلك المشهد الذي لا يمكن قبوله بالعقل او تحمله بالضغط على الأعصاب. كان أحد السلاطين الصغار يقف ممتلئا بذاته، نافخا صدره والغرور يشد قامته القصيرة لعلها تطول، بينما النخب او الطلائع من رعيته يتقدمون منه واحدا واحدا فيمد يده الكريمة لكي يتناوبوا على تقبيلها!. لم أصدق عينيّ بداية، فلم نألف مثل هذا المشهد في بلادنا… تعرف أننا قبائل عربية عاشت حياتها على امتداد الدهور في قلب البساطة، بل البدائية، واننا مسلمون اعتنقنا الدين الحنيف عن إيمان لأنه أكد المساواة بين الناس، ولأنه حصر القداسة بالله وحده، ولأنه عزّز في الإنسان شعوره بالكرامة، فكلنا من عباد الله وخلقه ممن كرّمهم بالإسلام.
حاولت أن أهدئ من سورة غضب الصديق الخليجي عبثا، كان مستفزّا كمن طُعن في كبرياء انسانيته… عاد يقول:
اننا من الارض التي أنجبت آخر رسل الله وخاتم أنبيائه. وقد عاش محمد بن عبد الله حياته، بعد الرسالة، كما قبلها: بين أهله، لا يفصل بينه وبينهم سور او حاشية او حرس او حجاب، وظل الناس حتى آخر أيامه ينادونه باسمه بسيطا، ولم تذكر كتب السيرة او الحديث ان رجلا، او امرأة او طفلا قد هم بتقبيل يده، او انه ارتضى او قبل ممن آمنوا وسلموا بأنه »رسول الله« بأن يجعلوه »مقدسا«، بل ان القرآن الكريم ذكّره وذكّر المؤمنين بأنه »بشر مثلهم« يصيب وقد يخطئ، وانه ليس عليهم بولي، وانه خاضع للحساب بمعنى انه ليس فوق البشر، برغم التكريم الالهي له باختياره حاملا لكلمة الله ومبشّرا برسالة الهداية.
قلت مأخوذاً بحماسته: لكنه لم يكن سلطاناً…
قال: ومن هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم سلاطين بالقياس إليه؟! لقد أخذوا الحكم غالبا بالسيف، وارتضى الناس هذا الامر او انهم سلّموا بالامر الواقع. لكن القداسة موضوع آخر. ثم ان آباءهم ظلوا يعيشون معنا ببساطتنا وكان البدوي الآتي من عمق الصحراء يدخل بيت الملك بعصاه ويناديه باسمه مجردا فلا يغضب ولا يأمر بقطع عنقه.
مضيت أحرك السكين في جرحه وجرحي، قلت:
ولكنهم أولياء الأمر، وطاعتهم واجبة..
انتفض كالملسوع وهو يرد بما يشبه الصراخ:
تتحدث عنهم وكأنهم وصلوا الى مواقع السلطة بانتخاب شعبي حر أجمع فيه الناس عليهم، او انهم قد نذروا أنفسهم لخدمة الناس ونهضة بلادهم فيسروا أمر اللحاق بركب التقدم الانساني، وعززوا شأن العلم والعلماء وأوقفوا هجرة الأدمغة، واستعادوا الحقوق الوطنية المغتصبة. انهم وكلاء الاجنبي يحكموننا بقوته ويخضعوننا لإرادته، وبعد ذلك يطلبون منا ان نقبّل أياديهم وكأنهم »مباركون« ومن أولياء الله الذين لا يقربهم الباطل ولا تغويهم مغريات الدنيا فتأخذهم الى الخطيئة!
قلت: فلنفكر بالأمر بهدوء. الغضب سيأخذنا الى الخطأ.
قال وهو يحاول لجم غضبه: تفضل فاشرح لي كيف يمكن ان أقبل هذه المهانة لكرامتي الانسانية وهذا الالغاء البات لمواطنيتي. كيف تريدني أن أسلّم بأن هذا الذي اغتصب الحكم او أخذه بالمصادفة، في لحظة معيّنة لم يكن للناس فيها حضور او رأي، قد غدا فوق الناس، لا يحق لهم مناقشته ولا رفض أي أمر يصدر عنه لأنه في موقعه السامي قد انتزع لنفسه بعض صفات الله عزّ وجلّ. لقد جعلنا في مرتبة العبيد. اننا في عينيه قطيع من الماشية يقرر لنا فنصدع بأمره بغير نقاش. ان يده المباركة هذه التي يفرض علينا ان نقبّلها هي التي تحمل السيف لقطع رأس العاصي او المتمرد، وهي التي قد تحمل الذهب لرشوة المعترض، وهي التي توقّع المراسيم والقرارات التي ترسم صورة حياتنا وتقرر مصائر أجيالنا الآتية… ولقد تكرم مؤخرا فوقّع بهذه اليد التي تتراكم فوقها قبلات العبيد المرسوم القاضي بإنشاء مجلس للشورى تتمثل فيه كل الأقليات المستوردة وتمنع عنه الاكثرية من أبناء »شعبه« المخلص والمطيع!
قلت: لعل أغرب ما في الامر ان هؤلاء السلاطين مصابون بالعمى. لكأنهم لا يرون ولا يعرفون شيئا عن عالم اليوم، عالم الشعوب، عالم حقوق الانسان. عالم الثورات العلمية التي هدمت الاسوار وألغت المسافات وأتاحت المعلومات والمعرفة لكل الناس، حيثما وجدوا. انهم يمشون الى الخلف، ويحاولون إجبار الناس على التقهقر عائدين الى ظلمة الجاهلية والغربة عن العصر.
قال بشيء من السخرية: انهم لم ينتبهوا، مثلا، الى ان الولايات المتحدة الاميركية ظلت تائهة عن اسم رئيسها المنتخب لمدة تزيد على شهر، وتحملت سخرية العالم كله وهي تحاول عبر مؤسساتها القضائية والسياسية والادارية ان تحمي نظامها الديموقراطي، وان تظهر احترامها لإرادة الناخب والتزامها بالاصول الدستورية، حتى لو كانت موضع طعن او اعتراض، مرجئة اعادة النظر فيها الى ما بعد استكمال بناء المؤسسات: المرجع الصالح لمثل هذا الامر الجليل.
قلت مسجلا المفارقة: هناك يدور الرئيس على الناس مقبّلا أياديهم، ولو بالمعنى المجازي، ليقروا انتخابه، وعندنا يمد السلطان يده الى الناس ليقبّلوها لكي يحفظوا رؤوسهم فوق أجسادهم. انها ديموقراطية السيف!
وقف لينصرف محبطا… وعند الباب التفت إليّ مودعاً وهو يقول:
انهم يجبروننا على استخدام السيف للوصول الى الديموقراطية. في الماضي كان الخليفة يبسط يده ليتلقى مبايعة الناس. ويوم صارت البيعة بالسيف غاب الاسلام كما غابت الديموقراطية. لعل علينا الآن ان نستعيد حقنا في الاختيار لكي نعيد الى الإسلام اعتباره، ولكي نعيد الى محمد بن عبد الله حقه في مكانته كآخر الرسل وخاتم أنبياء الله.
المدينة تستعيد ريفيَّتها لفرح العيد
العيد للفقراء، لذا فأيام الأعياد خلال السنة معدودة. اما الاغنياء فكل أيامهم أعياد.
ينتظر أطفال الفقراء العيد لكي يحظوا بثوب جديد، بهدية مشتهاة قد تكون لعبة وقد تكون بعض اللحم والحلوى ونادرا ما تكون كتاباً ملون الصور طريف الحكايات، وقد تكون رحلة الى موقع سياحي كانوا يتطلعون الى زيارته.
عيد الأغنياء إجازة في البلاد البعيدة للراحة من عناء خدمة الفقراء.
أما عيد الفقراء فتلاقٍ واجتماع في قلب واقعهم الاجتماعي، الريفي الطابع، حتى لو كانوا أبناء المدن. تعود المدن، في العيد، إلى أحياء، كل حي منها أشبه بقرية قائمة بذاتها. تختفي المدينة ككتلة ضخمة من المباني والشوارع والسيارات والمداخن والهموم والمطامح والمتاجر والسماسرة، وتستعيد صورتها الأولى قبل التضخم: يخرج منها اكثرية سكانها عائدين الى قراهم في الأرياف طلبا لدفء الانتماء الى مكان، ويستقل بها أبناؤها الأصليون فيعيدون تقطيعها كأحياء، لكل حي أهله وتقاليده الخاصة المرتبطة بالأصول التي يتحدرون منها.
يلغي العيد المدينة، ربما لأنه يستحضر العائلة.
ويُسقط العيد الشعور بالغربة، ربما لأن الناس يعودون الى مسقط الرأس، حتى لو كانوا قد باتوا فيه أشبه بالأغراب.
العيد فرح الفقراء.
يصعب على العيد ان يدخل القصور التي يقف أمامها الحراس، وتمتلئ جنباتها بالخدم، والتي تزداد فيها البهجة بقدر ما يتناقص الفرح في الأحياء المجاورة لها.
العيد خبز الفقراء. الاغنياء لا يأكلون الخبز التزاماً بالحمْية.
العيد فرح الأطفال. الاغنياء يلدون أطفالهم حكاما فتذهب طفولتهم فدية لطلب السلطان.
عندما يريد الاغنياء ان يشركوا أطفالهم. في فرح العيد يذهبون بهم الى أبناء خدمهم، لأن الفرح الاصلي لا يعيش في القصور المذهبة القاعات والباردة برغم ازدحامها بوسائل التدفئة الصناعية.
امرأة بالتفصيل، امرأة مجمّعة!
قالت لصديقتها بكلمات محترقة أطرافها باللوعة:
غريب أمر هؤلاء الرجال، لكأنهم برغم اتساع عيونهم أحيانا لا يرون. انهم يبحلقون فيّ، وأشعر بعيونهم تجوس عبر جسدي فتتفقده بكامل تفاصيله ثم يمضون في طريقهم لا يلوون على شيء، وأبقى في برد الوحدة أتلهى بنفض آثار النظرات الفاحصة عن جسدي.
قالت الصديقة التي تتقن فن الغواية:
أما أنا فقد أنجح في استدراج أحدهم الى لقاء. ونجلس في المقهى نتجاذب أطراف الحديث وأنا أحاول عبثا جذبه الى موضوعي، فيفترض أنني أفتح له الباب فيباشر مراودتي عن نفسي، حتى إذا فهم أنني أطلب ارتباطا لا مغامرة قام متعجّلا الى موعد كاد يتأخر عنه!
عادت الاولى الى الكلام بيديها وعينيها قبل لسانها، قالت:
أحيانا أجد من يبهره منظري، فيتأملني مليّا، ويطلق نظره ليجوس في أنحاء جسدي. يبدأ بشعري فعنقي، ثم يهبط الى صدري وخصري وساقي، ثم يلفني بنظرة شاملة قبل أن يمضي في طريقه لا يلوي على شيء! انني امرأة مكتملة النضوج فلماذا يهربون؟!
قالت الثانية: لنجرّب أن نتجاهلهم، لعلهم ينتبهون.
قامتا للانصراف، وعند باب المقهى وجدتا أكثر من رجل يتأملهما بالتفصيل ثم يستدير منصرفا عنهما الى »امرأة مجمعة« أخرى تعبر الطريق!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
يبحث الناس عن أعيادهم خارج نفوسهم. الحب هو العيد، وهو داخلك لا خارجك. لا تأتيك الزينة بالعيد، ولا تأخذك البطاقات المزركشة اليه. العيد فرحك بالناس، الدفء الذي تستمده منهم، ثم تلك النظرات الوادعة التي يغمرك بها حبيبك فتفتح لك أبواب قلوب الناس جميعا. افتح قلبك للحب يسكنك العيد.