نعلمهم فيخسرهم الوطن أو نتركهم للجهل فنخسر المستقبل!
بدأ الحوار وسط جو من المرارة والخيبة والتحسر على الماضي: كان المشاركون خمسة تلاقوا مصادفة في بيروت لندوة يلامس موضوعها مستوى التعليم في البلاد العربية.
نقطة البداية: الجامعات العربية ومراكز الأبحاث، مع مقارنة أولية وسريعة بمثيلاتها لدى العدو الاسرائيلي، والنتيجة مفجعة!
النقطة الثانية: أوضاع الجامعات ومستوى التعليم فيها، بدءا بمدرسيها والعمداء وصولا الى الرؤساء وانتهاء بالمناهج وعلاقتها بالحياة وبمجالات الانتاج المختلفة.
النقطة الثالثة: مستوى التعليم عموما، الرسمي منه أساسا ثم الخاص، وسر ظاهرة الدروس الخصوصية التي تستشري حتى لتكاد تصبح »مؤسسة« أقوى من مؤسسات التعليم العام.
النقطة الرابعة: محاولة لتفسير هذه الظاهرة بتوقيتها، وهل هي مصادفة أم أنها بقرار سياسي مدروس مبنى ومعنى وزمانا؟!
انهمرت محاولات التفسير المختلفة المصادر والاستشهادات والموحدة في دلالاتها وبالاستنتاج: لا يمكن أن يقع ذلك كله وفي معظم البلاد العربية، على اختلاف نظمها السياسية، وفي توقيت واحد إلا نتيجة لخطة محكمة عهد بتنفيذها الى »بعض السلطة« هنا والى »جماعة ضغط« هناك والى استغلال قصور الحكم وعدائيته لشعبه في أقطار أخرى!
كان بين الخلاصات: انه بينما يحقق العالم المتقدم قفزات مذهلة على طريق الثورة العلمية، يتراجع مستوى التعليم في معظم البلاد العربية كأنما من ضمن خطة وضعها ويتابع تنفيذها من لا يريد لهذه الأمة الخير.
قال البعض إن مستوى الجامعات في بلاده في الستينات كان أفضل منه اليوم، وإن جامعة القاهرة على سبيل المثال كانت تضم مراكز أبحاث ممتازة، وإن نواة لمعاهد عليا متخصصة كانت قد بدأت تقوم في ظل جو من الدعم الرسمي والتشجيع ويعزز حماسة القيمين عليها توفر حد مقبول من الامكانات مع استعداد عال لمواجهة التحدي المفتوح ليس فقط مع اسرائيل وانما مع الدول المصدرة للتقدم في الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية.
وقال آخر: لنبدأ بالبداية، أي بالتعليم الابتدائي. لم يكن لدينا الا المدرسة الرسمية، أما المدارس الخاصة فكانت للمقصرين أو للمعاقين أو المرفهين من أبناء الذوات الذين يفضلون شراء الشهادات على الدرس المضني والذي قد يذهب بنور العيون.
زاد زميل فقال: في كل بلد عربي الآن المزيد من المدارس، والمزيد من المعلمين، وثمة فائض محترم في بعض الأقطار، والتجهيز نسبيا أفضل، ومع ذلك فمستوى التدريس في انخفاض دائم، وظاهرة »المدرس الخصوصي« و»الدروس الخصوصية« تستشري برغم كلفتها العالية التي تلتهم أحيانا أرغفة الفقراء.
عاد السؤال يلح على الجميع: هل هي مصادفة أن يفرض علينا الغرق في مستنقع التخلف بينما العالم من حولنا يحقق قفزات مذهلة على صعيد التقدم العلمي الذي بواسطته يعيدون الآن صياغة المستقبل والحياة الانسانية جميعا، وليس فقط الواقع الاجتماعي والسياسي الراهن.
التمعت في العيون أسئلة يصعب إطلاقها مؤداها: هل حكامنا متآمرون علينا؟! هل يتقصدون إيذاءنا في مستقبلنا؟! هل يعقل أنهم لا يعرفون؟! هل يمكن تصديق الأسطورة التي تقول إن المدير يخفي الحقيقة عن الوزير فيعمد هذا، بعد أن »يكتشفها« الى اخفائها عن السلطان حتى لا يطير رأسه… ثم الى متى تستمر هذه اللعبة الجهنمية؟!
استذكر كل من الذين جمعتهم المصادفة والهموم من يعرفون من العلماء والطلبة النابهين من تركوا بلادهم واستقروا في الولايات المتحدة يعطونها نتاج عقولهم، فإذا العدد هائل يكفي لإحداث نهضة بل ثورة علمية شاملة في معظم الأقطار العربية.
ناقش الجمع احتمالات عودة هؤلاء الأبناء العباقرة، وانتهوا الى نتيجة محزنة مفادها: ان ذلك مستحيل ما لم تتغير العقلية الحاكمة والأوضاع السياسية الشاذة التي يبررها الغلط ويحميها التحصن بمزيد من الغلط!
قال واحدهم إنه يفخر بأنه خريج مدرسة رسمية، وجامعة وطنية، ولكنه حرم نفسه وزوجته من الكثير لكي يعلم أبناءه في مدارس خاصة وفي جامعات خاصة قبل إيفادهم لإكمال تحصيلهم العالي في جامعات أجنبية مع خوفه الشديد من أن الأفضل من بينهم قد لا يعود، وخصوصا انه سيجد من المغريات هناك ما يشده للبقاء، فضلا عن أن »العوامل الطاردة« في بلاده أكثر من أن تحصى.
وعلق أكبرهم سنا وأعمقهم تجربة: لقد نشأنا على حب الوطن، وغرفنا من العلم غرفا بوصفه أمضى الأسلحة في مواجهة المستعمر الاجنبي والمحتل الاسرائيلي… ها هم أبناؤنا يجبرون على الخيار بين وطن يحكمه الجهل فيطرد علماءه وبين اختيار علمهم على حساب وطنهم. إن أبناءنا يواجهوننا من على الضفة الثانية لكأننا الآن نقاتل أنفسنا ولا نقاتل الاجنبي. إن تعلمنا فله وإن بقينا على جهلنا أُخذنا بغير جهد!
تكاثفت أحزان الاصدقاء الذين كانوا يفترضون أن اللقاء سيكون فرصة لاقتناص لحظات من السعادة ولو عبر الذكريات.
قال كبيرهم: حكامنا أعداؤنا ولا مفر من مواجهتهم، ولكن كيف وبمن وبماذا؟!
واعترف بعضهم: لقد خان بعضنا قضيتنا، فعمل لهم، وساعدهم بعلمه وكفاءته على إذلال شعبه. لا تنسوا دور المثقفين في خدمة السلاطين. لقد كان بعضنا أسوأ منهم، فزين أخطاءهم وجعل خطاياهم إنجازات.
حاول أحدهم أن يخفف من إحساسه بالذنب فقال إن الأمل في الأجيال الجديدة التي ستعرف برغم كل شيء طريقها عبر التحدي.
وختم كبيرهم بالقول: بشرط أن نزيح من طريقهم فلا نضللهم ولا نتسبب بضياعهم عن طريق مخادعتهم أو أخذهم إلى السلطان بقيود من ذهب!
وروى أظرفهم واقعة مفادها أن السلطان سأل أحد معاونيه عن ابنه الذي يدرس الطب النووي في الخارج ومتى يعود، فأبلغه الموعد… وعند سلم الطائرة وجد الطبيب موفدا من السلطان يرحب به ويبلغه تهاني السلطان ثم يقوده بسيارة فارهة الى بيته وعند الباب يسلمه مفاتيحها كهدية بسيطة من جلالته، مع إبلاغه بموعد المقابلة السنية بعد أن يفرغ من واجباته العائلية!
في الموعد قال السلطان كمن يتذكر أمرا كان قد نسيه: للمناسبة، لأهلك أرض واسعة كانت أوراق ملكيتها ضائعة، وقد أمرت بها فوجدت، وأمرت بأن يبنى لك عليها بيت صغير وأنيق، فتم بناؤه وسيسلمك رئيس الديوان مفتاحه عند خروجك من عندي وقبل أن تتسلم وظيفتك في ديواني كمستشار لشؤون الزراعة.
وهكذا كان، وهدأ الطبيب العائد ليقود الثورة!
ران الحزن على الجميع، ثم اقترح أحدهم أن يقصد خيمة رمضانية ليغيروا الجو ويفرفشوا قليلا بعد عناء العمل الكثيف وإنجازاته الكثيرة. وقاموا مخلفين وراءهم بواقي ثرثرة على المستقبل المهدد بالضياع بعد الحاضر الذي ضاع فعلا!
سعيد عقل: موعدنا بعد عام، خلف الفجر!
تعودنا أن يهل علينا سعيد عقل، بين حين وآخر، بغير أن يغادر علياءه ومفاخر انتمائه الى »الكون الفينيقي« الذي يحيا في وجدانه ويريد أن يحييه في واقع حياتنا الثقافية، ومن ثم السياسية، مستندا الى تاريخ يؤسطره ليليق بالمدن السبع وببعلبك التي طالما جعلها عروس شعره وعنوان العزة في الانتماء الى مؤسسي الحضارة الانسانية.
لا وجود للحاضر، للراهن، في حديث سعيد عقل واهتماماته.
إنه يقرأ الحاضر من خلال عظمة الماضي فيحس بفجيعة المقارنة ويزيد من احتقاره ليوميات السياسة المحلية وصغارة السياسيين.
هو يسكن بين عظمتين لا يطالان: أجداد يرانا وكأننا لا نليق بهم في حجمهم الأسطوري، وشعر يكاد لا يدانيه في سموه، معنى ومبنى، إلا الرواد الذين أوكلوا اليه هذه المهمة الجليلة ثم مضوا الى رحاب ربهم بينما دنيانا ما تزال تضج بعبق آثارهم التي لا تموت.
أمس، هلّ علينا سعيد عقل وفي يده هدية غالية هي أحدث إصداراته: ديوان مزدوج الأول »نحت في الضوء«، والثاني »شرر«، وقد نشرته جامعة سيدة اللويزة لهذا الأستاذ الذي تكبر به ويكبر به طلابها الذين يأخذون عنه تذوق الموسيقى وروعة اللغة العربية وعبق المجد الذي يريد تجديده في حاضر ضاع عن آثار السلف الصالح.
وعبر الحديث أعطانا سعيد عقل، الذي يقارب التسعين، موعدا بعد عام… لكأنه يتحكم بالزمن هذا الرجل الذي يؤمن انه »بكلمات« يصنع أمبراطوريات وأباطرة ويهدم وقائع وكيانات وقادة يحكمون أو يتحكمون بالاحداث والمصائر.
لكأن مفتاح الزمن، الحياة والموت، في يد هذا الذي لا يمتعه العيش الا بين الخالدين، والذي يحاكم وقائع الحاضر بعقل رياضي قوامه المعادلات التي لا تقبل المساومة، والذي يحبس في صدره ألف ملك وملك ثم تأسره »رشا« بطرفة عين أو يسكره خصر أو يفجّر عبقريته »ثغر ظالم وظمي«.
ومما يسعد »السفير« أن تكون قد نشرت معظم النتاج الشعري الجديد لسعيد عقل، في »كلماته« التي تتحلق من حول بيتين من »الشعر الشعر« ثلاث مرات في الأسبوع…
فأما »نحت في الضوء« فيتضمن عددا من القصائد في رفاق عمر وفي فرسان الشعر (أو النثر) الذين أحبهم أو أكبر أدوارهم فحياهم، أمواتا وأحياء، ورفعهم الى الذروة التي يتربع فوقها الآن وحيدا أو كالوحيد، ومن بينهم الشيخ عبد الله العلايلي وفؤاد أفرام البستاني، محمد مهدي الجواهري، الياس أبو شكة، ونجيب جمال الدين.
ولأن المدن الخالدات لا تقل عظمة، ففي الديوان قصائد لبعلبك وطرابلس وصور والنبطية الخ..
على أنني قد »ضبطت« في الديوان أرجوزة تقدم ملامح بسيطة لسعيد عقل تقربه من صورتنا نحن الصعاليك الذين نحب الحياة بسيطة وحارقة، هي »أغنية البصر« وقد شرحها بأنها عن »الغجر منهم من كانوا يعيشون في جوار زحلة ونحبهم«، ويقول فيها:
»مزركشو الثياب شاردو الفكر
من رقصوا للحياة رقّصوا الحجر
للنسر هم فضا للعود هم وتر
والليل هم له النجوم والقمر
لهوا بها المنى لهوك بالأُكر
يفدي مقلمو أظافر الخطر«
سعيد عقل… لو تعبث قليلا بالعاديات لنعرفك أكثر ونقترب منك أكثر!
من أقوال »نسمة«
قالي لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب أعلى ذرى الشعر. تشف معه لغة الأمي والجاهل بأصول اللغة وترق حتى لتكاد تختزل، بهمسة أو بلمسة أو بكلمات مبتورة ،قصائد عشاق الدهور جميعا، وتسري عبر صوت الفلاح الغليظ أنغام يترنم بها الهواء ويغنّيها الرعاة وتطرب لها الفراشات والطيور ويرددها المجانين الذين علّمونا كيف تكون الحياة مساحة من النشوة والأمل والحب النبيل.