سلاطين القمة من خلال مواكب الجلال
إلى ما قبل ارتفاع اصوات الصافرات الزاعقات المبشرات بالمواكب ذات الجلالة، كان الجمع من العسس والموظفين، وزراء وكتبة وتشريفاتية، يبدون في صورة قريبة من البشر الطبيعيين، وان كان التجهم يحتل معظم مساحة الوجوه.
وبرغم التوقع القلق، ومحاولة التركيز في السمع والبصر للسبق الى الحركة واثبات الحضور والتنبه المطلق، فقد كان لهؤلاء المكلفين بشرف الاستقبال والمواكبة والمرافقة والتثبت من ان كل شيء »تمام التمام«، بعض الملامح الانسانية… ولربما تسللت ملامح انزعاج وألم في الظهر او هم التفكير بالذات الى الوجوه المحكومة بالصرامة، الممنوعة من الابتسام حتى لا يساء الى رهبة الموقف وجلال المناسبة وعظمة الآتين ليقرروا المصائر بقوة الحق الإلهي وتخصيصهم بحكمة الانبياء وشجاعة الفرسان ومخيلات الشعراء!
توالى وصول المواكب، سلطانا إثر سلطان.
كان الضجيج يتوارى مفسحا الطريق للهيبة التي ستترجل الآن من السيارة، ثم تتهادى فوق السجادة الحمراء التي ترسم الطريق الى »القمة«. على الأرض، وبعد خفوت صوت الهيبة، كان السلطان يتبدى بشرا عاديا، واحيانا أقل من العادي، ليس فقط بسبب من قصر قامته، او من اعتلال صحته، او من بعض التشوهات في وجهه، او من انطفاء عينيه، او من خفته الفضائحية، بل أساسا بسبب التناقض بين صورته الاصلية التي حفرتها انجازاته في الاذهان وموكب الفخامة الذي يحف به الآن ويقدمه وكأنه آخر العظماء!
تقاس العظمة بعدد المرافقين، وبكم طائرة جاؤوا، وكم سيارة مصفحة وصلت قبلهم لكي يستحيل معرفة تلك التي حظيت بأن يقتعدها قفا السلطان… ثم بكم ينفق المرافقون في كازينوهات القمار التي يمكن اعتبارها »خلفية القمة«، عدا عن كلفة الهدايا والمنح والاعطية التي يقدمها السلطان لهؤلاء الذين سيشهدون غدا بعظمته او بغفلته او بغبائه، بكرمه الذي يدل على سموه، او بخجله الذي يدل على قلة وطنيته!
في العادة يتعاظم الموكب لسلاطين الدول الصغيرة عددا، فالسلطان هو العوض والمعوض… وهكذا تضيع المعايير!
ثم ان السلاطين الاغنياء يجدون القمة فرصة للتباهي على اقرانهم الحاسدين والموتورين الفقراء، فيزيدون من إبهارهم بما يُظهر نعمة الله عليهم ليكشفوا كم ان الآخرين محرومون من هذه النعمة، مما يحسم الجدل حول انحياز خالق الكون الى ابنائه الاغنياء!
لا وقت لدى السلطان للكتابة قطعا،
وفي الغالب لا وقت لديه ايضا للقراءة.
هنا تتبدى العبقرية في اختيار الوزراء الذين يتقنون قبل الكتابة والقراءة، فن الايجاز، بحيث يشرحون العولمة بنكتة، ويلخصون الصراع العربي الاسرائيلي بجملة واحدة، ويوجزون موقف بلادهم من قضايا الكون بمطالعة مستفيضة تشرح هزة الرأس التي لولاها لنُسفت القمة.
كيف تصل الى السلطان وبينك وبينه هذا السد من فراغ العظمة الوهمية والتسامي على كل الخلق والارتفاع فوق الهموم والمشكلات والمسائل المعقدة ليتفرغ لإعادة صياغة الكون.
كيف يمكن ان تحب او تعجب او ترتاح الى اي من هؤلاء السلاطين الذين يلغون الله ويلغونك، فيحتلون سماءه وأرضك، ويصادرون قضاءه وقدرك، ويحكمونك من قلب الصمت والخرس؛ عليك ان تسمعهم صامتا وتصدع لإرادتهم مقتنعا بأنهم يفهمونك أكثر مما تفهم نفسك، ويعرفون ما لا تعرف عن معدتك وعن حاجيات اطفالك، ويقدرون على ما لا تعرف من رغبات زوجتك.
ومن يعرف كل هذا »الخاص« من اهتماماتك، فكيف تتهمه بأنه لا يعرف »العام« عن العباد والبلاد ومراكز القرار.
عند العودة من القمة التي يضطر السلاطين لأن يسلموا برئاسة كبيرهم، تحدثك الاذاعات والفضائيات عن عشرين قمة او يزيد… فكل سلطان يعيد صياغة الذي جرى ليبدو انه كان الاول والمركز، المرشد والموجه والمقرر، القائد والرائد والسائد، ولولاه لخربت البصرة.
أين البصرة، أيها المتحصنون خلف سد الألقاب التي لا تفعل غير فضح الحقيقة الموجعة، وهي ان هذه الأمة تكاد تبدو وكأنها فقدت رأسها، ففُرضت عليها »أقنعة بربارة« بعدد السلاطين الذين يتحكمون ولا يحكمون، ويقهرون رعاياهم بينما هم الاذلاء امام »العدو«، ويفرضون صمت الألسنة والاقلام لأنهم من أبناء الظلم والظلام.
رحمك الله يا محمد الدرة.
رسالة لن تقرأها خضراء العين واليد والقلب
ها قد سبقتنا الى »العمر الثاني«، يا خضراء القلب واليد والعين واللسان.
لا وداع، فلا يليق بك الرثاء، وتظل ابتسامتك التي تشع ذكاء وطيبة وحنانا، حاجزا للدمع ومانعا للحزن.
لأنت أقوى من الموت، لأنك لم تكوني تطلبين من الحياة بل تعطينها بلا منة، وبلا حساب، ولا تمييز بين المستحق وبين ناكر الجميل. الحساب لصاحب الحساب.
***
بدر حمادة تسري في أفناء جنتها الموعودة، الآن.
زاد الضوء ابتسامة.
***
دخلت البيت متعثرا بحياء القادم من »غربة«، قبل ثمان وثلاثين سنة، مسترشدا بعنوان مكتوب بحروف واضحة جدا على ورقة صغيرة والتوقيع رسم كاتبها. ومنذ ذلك اليوم صارت القاهرة العظيمة فضاء ذلك البيت الدافئ ومداه الفسيح.
لفترة ظللت أحسب ان »بهاجيجو« بظرفه، بقدرته الخارقة على الاقتحام وبناء الصداقات، بروحه العربية المرهفة، هو »مكمن السر« او مصدر الدفء في ذلك البيت الصغير بالمنيل الذي اتسع، على مدى عقود، للأمة جميعا.
كنا، نحن الامة، نتواعد فيه، ونتزاحم فنتناكب ونتكاتف ونتكاثف ويندمج بعضنا ببعض فنتوحد وترق حواشينا فتتسع لنا غرفة هشام ووليد، نتناوب على سريريها النظيفين، ونتبادل الكتب والتسجيلات والنكات والتشنيعات والاخبار وأثقال الخيبات وهموم الهزائم ليتم تعميمها من المشرق الى المغرب وبالعكس… فكان اليمني يأخذ من وعن المغربي، والعراقي من وعن الفلسطيني، والجزائري من وعن السوري، واللبناني يأخذ منه وعنه الجميع وكأنه »مختصرهم« او »ملخص« ما يسعون لأن يكونوه.. والسوداني لا يجد من يأخذ عنه، والأهم: ان المصري كان يلتقي المصري فيأخذ منه وعنه، ثم يأخذ من الجميع وعنهم ويعطيهم.
كان الطيف يترقرق امامنا ثم يذوب قبل ان نتبين ملامحه. على انني بعد فترة من التأمل اكتشفت ان لمسات الطيف قد جمّلتنا جميعا، وانها قد ارتقت بسلوكنا، وانها قد مسّت ارواحنا فإذا نحن نسبح في بحر قلبها البلاضفاف، ونتعلم بالتهجئة كيف نحب أنفسنا في الآخرين، بل لعلنا تعلمنا كيف نحب بالمطلق.
أحيانا، ونحن نزدحم في الصالة الصغيرة التي تصير باتساع الوطن العربي وجراحه وطموحاته جميعا، كنا نسمع نشيج »علاء«، او طرفا من اعترافات »نسيم« العاشق عن بعد، بينما يتوجع »آدم« العاشق عن قرب، حتى يهدهده صوت »فاطمة« فيهدج ويعود ليكمل منحوتته الجميلة بإزميل الأمل، بينما »عناية« و»ناجي« يحاولان إكمال تلك القصة الجميلة التي باشرها آدم وحواء ثم أُغلقت دونهما الجنة فاضطرا الى الغناء في بناء الجنة الثانية.
كان الطيف حاضنة الحب والمحبين.
وكان ذلك البيت الدافئ في الشارع الصغير المتفرع من ميدان الباشا بالمنيل، ملاذنا ومأوى أحلامنا، نجيء اليه فنستحم من أثقال شكاوانا، ثم نلقي أنفسنا في نهر الموسيقى المتدفق بالحنان، ونكحل العين بإبداعات الايادي والعقول والافكار المتوجهة لتلك الكوكبة اللامعة من الكتاب والفنانين التشكيليين الذين ستشردهم أيام البؤس الآتية في المنافي البعيدة، فإذا فريد يستقر مع ايرما في ايطاليا، واذا ديفيد يموت في لندن، واذا روما تضيق بعناية وناجي فيهرب كل منهما من نفسه في الاتجاه المضاد لنفسه، واذا الذين في القاهرة يبحثون عن مدينتهم فلا يجدونها ولا تجدهم، واذا بيروت لا تجد نفسها ولا أهلها، واذا العرب يبتعدون او يُبعدون عن لغتهم وروحهم ومصيرهم وارضهم وهويتهم وينتثرون هباء او كالهباء.
كيف العودة، يا بدر، الى ما كان وكنا؟
يبتسم الطيف ويشرق الوجه بحزن معتق وهي تقول: »دي عايز عمر تاني. البركة في الجايين«.
بلا وداع غادرتنا بدر.
اللقاء في العمر الثاني، ولا حزن.
سلاما يا خضراء العين واليد والقلب واللسان.
تهويمات
} صار للحجر عيون… متى يستعيد بعض البشر قدرتهم على الإبصار؟!
} البعض يقطع مسافات شاسعة سعيا الى ملامسة حجر يعتبره مقدسا، وينسى أن الحجر المقدس هو فقط ذلك الذي يحمي أرضه.
} حجر على حجر نبني وطنا!
} قد تدخل في عبارات الغزل قريبا: حبك حجري الذي يحميني. ليتني حجر تطلقه ثم تستعيده فتحضنه يمناك مرة أخرى وثالثة ورابعة حتى تصير الأرض جنانا للعشاق، فالأرض بناسها، وعلى أحجارهم، وبها يكتبون قصص الحب.
توغل في الظل
جاءت لا ترتدي غير جسدها،
وكانت ملابسه تحاول أن تتخذ شكل الجسد،
هرب ببصره إلى الأرض فإذا هي ممتلئة بظلها،
تبدّى له أن الظل أجمل من الأصل الذي خاف أن ينظره.
تدرج متسللاً بنظره من البطاح إلى الشواهق قبل أن يمضي صعدا في اتجاه الرواسي، ثم اندفع بقوة الجاذبية عبر السهوب والمنبسطات إلى الأودية التي تثوي فيها أباليس الكفر المعبودة.
توغل في الظل حتى أضاع باب الخروج.
وحدّقت تبحث عنه عبر شقوق القميص المتهدل، فلم تجد أحدا.
اطفأت النور وانصرفت لتطعمَ الحمام الذي كان هديله قد غطى الرواسي والأودية بشفيف الحزن الذي يسبق ويبشر بفرح عظيم.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب يقهر المستحيل. انه يقهر حتى الموت. هل سمعت عن موت حب؟ لكأنما يجدد الحب نفسه بالضوء والهواء، بالأمل والحلم، بكل ما هو انساني حتى تجاوز الشعر.
يستولد الحب نفسه ويستولد المحبين، ولا انتهاء. حياتنا الحب، والحياة ولود.