كم تكلّفنا الطبقة السياسية التي تحكمنا؟!
سألني الصديق الذي يمضي معظم وقته خارج البلاد:
هل تعرف كم تكلّفنا هذه التي تسمونها الطبقة السياسية؟
بدت على وجهي الحيرة، وأدرك الصديق أنني لم أفهم سؤاله فزادني إيضاحا… قال بلهجة مدرّس ابتدائي يشرح بديهية لأطفال:
في بلاد العالم المختلفة يدفع الشعب لهؤلاء الذين يتناوبون على حكمه، والذين نرمز إليهم في بلادنا بالطبقة السياسية. أي الفئة التي يفترض أنها تمثل »نخبة«، بمعنى ما، والتي منها يأتينا الرؤساء والوزراء والنواب فيتولون حكمنا وقيادة البلاد، اقتصادا وإدارة وإنتاجا.
هززت برأسي علامة انني أعي ما يقول، فأضاف مزيدا من الشروح، قال:
في الولايات المتحدة الأميركية، مثلا، تتكلف هذه الطبقة أو النخبة ما نسبته واحد في المئة من إجمالي ميزانية الدولة، على شكل رواتب ومخصصات ومنافع وصفقات »شرعية« أو »مشرعنة« لتعزيز المواقع وتحصين المسؤول في وجه الارتكابات وإغراءات مد اليد الى المال العام.
بدا على أنني بدأت أفهم موضوع حديثه فزادني علما، قال:
في أوروبا تزيد النسبة قليلا، إذ ان النخبة الأوروبية مترفة قياسا بالأميركية، وحياتها أعلى كلفة، فالصيف غير الشتاء، والعشيقة أكثر أكلافاً من الزوجة، والبيت الريفي ضرورة، واليخت بحاجة إلى من يخدمه وهكذا دواليك.
باختصار، يمكن القول إن »النخبة« التي يكلفها الأوروبيون، أو أنهم ينتدبونها لحكمهم، تكبدهم ما قد يصل الى اثنين في المائة من ميزانية الدولة.
تعجلتُ الوصول الى بلادنا، فسألت بلهفة: وماذا عنا؟!
قال صاحبي الذي يعشق تفسير الظواهر الاجتماعية بالأرقام المالية:
كيف نبدأ الحساب عندنا، وكيف نختمه؟! تلك هي المعضلة.
قلت بسذاجة: نجمع رواتبهم وتعويضاتهم فتكون الحصيلة.
ردّ ساخرا: وماذا عن المنافع؟ عن المصالح؟ عن التوظيفات الفائضة على الحاجة؟! ماذا عن الخدمات التي يقدمونها على حساب الدولة فتبني لهم ركائز زعامتهم؟
رجوته ألا يعقد المسألة وأن يبسّطها ما أمكن لكي أفهم فردّ بقوله:
سجّل على ورقة، بداية، الرواتب والتعويضات.
حسنا أضف إليها الآن السيارة والسائق والمرافق والسكرتيرة.
أضف إليها أن نوابنا يظلون يتقاضون تعويضا حتى بعد سقوطهم في الدورات التالية. وبعد الوفاة يتقاضى ورثتهم تعويضات مجزية تمتد من الأصل الى الفرع… وهذا، نسبيا، بسيط.
أضف الى ذلك العمولات والسمسرات التي تُجنى من مشاريع شق الطرق وبناء المستشفيات والمدارس، ومعدلها العام في بلاد الناس لا يزيد على 10 15 في المئة، أما في بلادنا فقد تصل الى مائة في المائة وقد تزيد.
ثم يمكنك، وأنت مغمض العينين، أن تفترض ان كل نافذ من مستوى »رئيس« أو »زعيم«، بالمعايير اللبنانية، قد فرض على المؤسسات العامة أو الخاصة التي قد تحتاج إلى موافقات وتواقيع بينها توقيعه أو »تغطيته«، بضع عشرات أو مئات أحيانا من الموظفين الزائدين عن الحاجة، وهؤلاء برواتب تزيد مع الأيام، وتعويضات نقل واستشفاء وإجازات أو بدل إجازات، وساعات أو أيام عمل إضافية.
بعضهم أجراء، او متعاقدون، بعض بالفاتورة، وبعض »خبراء« وبعض أخير كمستشارين!
ان مجموع هؤلاء الموظفين المفروضين يصل إلى آلاف، قد تتجاوز العشرة وربما قاربت العشرين ألفا… وهي »حقوق« واجبة الأداء ولا مجال لإنقاصها أو وقف تضخمها أو التهرب من دفعها!
اجمع هذا كله تحصل على الكلفة شبه الاجمالية للطبقة السياسية!
قلت وأنا في شبه ذهول: قياسا إلى إنجازاتهم فإنهم يستحقون أكثر بكثير!.. ولولا أفضالهم هذه لازدادت الضائقة المعيشية حدة!
قال باستغراب: أظن أننا ندفع أعلى كلفة للبطالة المقنعة.
قلت كمن يختم الكلام بحكمة: البطالة المكشوفة تغذّي البطالة المقنعة، والبطالة المقنعة تعيد إنتاج البطالة المكشوفة.
لم يعجبه استخلاصي لمثل هذا الاستنتاج، فصحّح:
الفساد يعيد إنتاج ذاته، ولا ممر للإصلاح. مبروك.
وسرحت بذهني إلى البعيد أفكر: إذا كانت هذه كلفة الطبقة الحاكمة في بلد فقير في لبنان فكم تتكلف البلاد الغنية على حكامها العديدين؟!
محمد كريِّم: ولاّدة الحلم المسرحي
ليست كثيرة الكتب التي تروي حكاية المسرح العربي، وتقدم خبرات الرواد أو الدارسين أو المجتهدين في هذا الحقل الذي لما يحتل مكانه الطبيعي في العمل الثقافي العربي.
محمد كريِّم أضاف إلى المكتبة العربية ما يمكن اعتباره محاولة لتأريخ الحركة المسرحية في لبنان، عبر رواية تجربته الشخصية الغنية في هذا المجال، بكل من عرف من شخصياتها، كتّابا ومخرجين وممثلين وممثلات، ومن محاولات للانتاج وتوفير الفرصة لقيام »مسرح دائم« في المدينة التي طالما اعتُبرت عاصمة للثقافة العربية: بيروت.
ومحمد كريِّم، الغني بأخلاقه غناه بتجربته التي امتدت من الإذاعة إلى المسرح، والذي يمكن اعتباره بحق »ولاَّدة« جيل أو جيلين من الممثلين، وراعية لمعظم الأعمال المسرحية التي أنعشت الجو الثقافي في بيروت في الستينيات وبداية السبعينيات، وحتى انفجار الحرب الأهلية، لم يستعرض عضلاته الفنية وهو يقدم رؤيته وروايته للتجربة الغنية التي عاشها، بل ظل على دماثته وتواضعه وأمانته تجاه الآخرين.
ولقد عرفتُ محمد كريِّم في الإذاعة اللبنانية، يوم غدت إذاعة فعلاً، أي في أواخر الخمسينيات. كان مخرجا إذاعيا، ولكنه عمليا نجح في »إدارة« وفي »تخريج« جيل كامل من كتّاب النص الاذاعي، وفي »إنتاج« جيل أو جيلين من الممثلين الإذاعيين الذين صاروا في ما بعد وما زال بعضهم نجوم الحياة الفنية في برامج التلفزيون، وبعض الأعمال السينمائية.
مع الحرب تهاوت آمال محمد كريّم وأحلامه، التي كان ضربها من قبل الإهمال الرسمي وعدم التقدير… فشهد الاذاعة تُنهب، وشهد الفنانين الذين كانوا قد وجدوا طريقهم إلى الشهرة في مناخ وطني جامع يتوزعون على إذاعات الميليشيات، ثم محطاتها التلفزيونية، ويبدلون جلودهم ونصوصهم وفق مقتضيات الحال.
وخاض محمد كريِّم تجربة أخرى في محطات »صوت الوطن«.
لكن حلمه الأصلي ظل حلمه: المسرح في لبنان.
ولأنه لم يستطع تحقيق حلمه على الخشبة، وفي مسرح دائم، فقد حاول أن يؤكد الإمكان، وأن يثبت القدرة عبر الاستعانة بتجارب الماضي ودروسه.
محمد كريِّم ظل أقوى بأحلامه من الواقع فلم يسقط.
والكتاب يجدد الحلم وينقله إلى جيل جديد، راسما الطريق إلى إنجاز ثقافي ينتظر من يؤمن به ويقدر عليه.
لقد بلّغ محمد كريِّم رسالته.. ونحن نشهد.
ومع محمد كريِّم تكون التحية لفنان الشعب »شوشو« ضرورية.
امرأة النسيان
من حقك أن تنساني، لقد مرّ عليّ دهر من اليباس نسيت فيه نفسي.
انتبه من غفلته، وحاول الاعتذار من هذه التي أخرجت نفسها من النسيان وتسللت من كهف الأحزان عائدة إلى بهجة الحياة…
جاءه صوتها من جديد:
انتبهت متأخرة إلى أن الحب ليس أن أموت معه، بل أن يعيش معي بعد الرحيل. كنت أسمعه، وأنا بين اليقظة والغفلة، يحرضني على أن أستمتع بشبابي. كان يقول لي: عوضيني بالفرح. ليس البكاء طريقا قصيرا لكي تستعيديني. إنه الطريق إلى الكراهية. سأغدو شبحا مخيفا تنفرين منه وقد تعملين على قتله للتحرر منه. يكفيني موت واحد!
نطق بأول كلمة استقرت على لسانه: صحيح.
نطقت عيناها بشيء من الخيبة، فاستدرك يسألها وقد استعاد صوته شيئا من الحرارة: يُفرحني أن الحياة قد استعادتك الى أحضانها، علينا أن نكون أقوياء لنحيا.
أحس بأنه غليظ كواعظ، وكاد يكره عاطفته التي تأخذه إلى المجاملة السمجة. التفت فإذا هي تبتسم وكأنها قد قرأت أفكاره. قالت: لا عليك، أنا أقوى منك..
زاد ارتباكه ثم تمالك نفسه ليقول: الذكرى توجع.
اتسعت ابتسامتها، وأشرقت عيناها بمزيج من السخرية والبهجة، ثم سمعها تقول:
أعرف أنك كنت تحبه… لكن الحب حياة. ولا مرة كان الموت حبا، ولا كان الحب موتا.
انتبه الآن إلى أنه أمام امرأة أخرى، فأخذ يتأملها وكأنه يراها للمرة الأولى: لقد أنقصت وزنها فاستعاد جسدها رشاقته، وباتت أكثر خبرة بالألوان التي تناسبها، وها هي في ذروة الأناقة. لا بأس من الاعتراف بأنها جميلة، بل لعلها أكثر جمالا مما كانت في أي يوم مضى. ثم إنها ناضجة، بل هي شهية… إنها امرأة سقطت عنها ملامح الزوجة، وغاب طيف مَن كان، فلا أثر له لا على شفتيها ولا على وجنتيها ولا في عينيها ولا…
ضبط عينيه تتدرجان نزولاً من عنقها إلى الصدر وما دونه، فخجل من تسرعه وعاد ينظرها في عينيها، فإذا هي تتابع أفكاره وتقرأها بوضوح. قالت: لي حياتي.
لاحظت أنه لم يفهم تماما، فقالت: هل سنظل واقفين على الحافة بين ماض لن يعود ومستقبل لا نعرف عنه ما يكفي. ألن تدعوني إلى قهوة في هذا المقهى الذي نقف عند بابه… أكاد أموت عطشا.
ودخلا وهي تكمل المعنى بقولها: تعال نستذكره معا لنتمكن من نسيانه كما فعلت قبلك.
وفي مقهى النسيان لم يستذكر إلا ما كان قبله، وما سيكون بعد الآن.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة غير الحب:
في الحب لحظات انكسار تؤكد جبروته الذي لا يُحد.
يقول لي حبيبي إنه يريد أن يحميني مني، وأقول له إنني أحب أن يكسرني ثم يجمع فتاتي فيعيد خلقي. لكنه يظل يخاف عليّ حتى ينكسر فأنكسِر ونعيد تجميع الكسور ويعيد الحب خلقَنا من جديد.