ندوات »الأدمغة المهاجرة« وكيف تصير مؤسسات؟
خلال أقل من شهر »أسعدني حظي« بالمشاركة في ثلاث ندوات عربية موزعة بين الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، والقاهرة في جمهورية مصر العربية، والكويت على التخوم الملغمة للعراق »رهينة المحبسين«: حاكمه والحصار الدولي.
ولأن الندوات، في الغالب الأعم، مناسبات للكلام، ولأن للكلام أهله، ولأن أهل الكلام باتوا أعلاماً معروفين في عصر الفضائيات التي زيّنت لنا وكادت تقنعنا بأن الكلام أهم من الفعل، فقد استمتعت بصحبة هؤلاء النجوم من الأعلام، ونعمت بأن أحظى بصور صحافية وتلفزيونية تجمعني وإياهم مما يرضي الغرور ويفرح الأحفاد.
ولقد لاحظت، وكان لا بد لي من أن ألاحظ، أن عددا من هؤلاء النجوم، وبينهم مَن استُقدم من الخارج الأميركي البعيد إضافة إلى »الداخل« الأوروبي، و»المحلي« العربي الذي بات هو الأبعد، قد وُجهت إليهم الدعوات فجاؤوا متعجلين في مقاعد الدرجة الأولى من الطائرات الفخمة، وأُنزلوا في فنادق الرفاه الحديثة المعززة بملاعب التنس والمسابح (مبردة ومدفأة)، وأُركبوا السيارات التي ما زالت مقاعدها مغلفة بالنايلون توكيداً لتكريمهم بأن يكونوا أول من دخل نعيمها المبرد..
طبعاً، لا يعني هذا الاعتراض لا على مبدأ عقد الندوات، ولا على دعوة هؤلاء الذين هربوا من فقرنا فلم يغتنوا لأن التدريس والمحاضرات والعمل الثقافي أو الأكاديمي عموماً ليس هو مصدر الغنى بأي حال… وإنما للغنى مصادر أخرى نتمنى ألا يقعوا في شباكها أو شبكاتها!
كذلك لا يعني كلامي الطعن في كفاءة معظم هؤلاء الذين فتح الله بصيرتهم على الغد فصاروا يتطلعون إلينا بوصفنا الماضي (غير المجيد)، والذين صاروا ينطقون العربية بلكنة أميركية (حتى لو كانوا من أهل الصعيد الجواني) أو يتأتئون تدليلاً على عمق التفكير والدقة في اختيار الكلمات.
لكن اعتراضي هو على أن تكون هذه الندوات مجرد لقاءات عابرة، وكأنها صالات ترانزيت في مطار، ليس لها قبل وليس لها وهذا هو الأهم بعد، وأن يتبادل »الأخوة المحاضرون« البطاقات الحاملة ألقابهم والعناوين ثم يفترقون على أمل اللقاء مجددا، ذات يوم، في مناسبة ما، في هذه أو تلك من العواصم العربية القادرة على تحمل نفقات استقدام البعيد، والقادرة أيضا وأساسا على تحمل النقل من القريب أولاً (والناطق بلغة الضاد) قبل البعيد الذي يرطن بلغة امبراطور العصر.
في سابق العصر والأوان كان ثمة »منظمة الطلبة العرب« في الولايات المتحدة الأميركية التي صارت على امتداد الستينيات مؤسسة محترمة، وشكلت إطارا نضاليا سياسيا وأرض لقاء ثقافي ومنتدى للحوار والتفاهم وتوحيد الرؤية بين هذه النخبة من شبابنا الدارسين في الجامعات الأميركية.
وليس سراً أن كثيراً من وجوه الصف الثاني من رجال السلطة في بعض البلاد العربية، أو من المستشارين الممتازين، أو من رجال الأعمال المبرزين، هم من بين خريجي تلك المنظمة الطلابية التي لم تكن فعاليتها في شرح القضايا العربية وفي دعمها لتقل عن فعالية أي حزب أساسي في الداخل العربي (البعث، حركة القوميين العرب ومنظمات العمل الوطني الفلسطيني)… وبهذا فقد أعطت للعمل القومي بعداً ممتازاً في ما وراء البحار.
اليوم لا في الداخل ولا في الخارج؟!
أنظر إلى البطاقات حاملة الألقاب فأفرح بشبابنا الجديد المؤهل، ثم أسمع اعترافاتهم الشخصية عن »استحالة« العودة وحيثياتها المنطقية العديدة والتي تبدأ بانتفاء الديموقراطية في الوطن العربي ثم تنعطف الى الشكوى من انعدام مراكز الأبحاث والتخطيط وضعف التعليم الجامعي وهشاشة الدراسات العليا، لتنتهي بالتذمر من قلة الدخل الذي لا يتناسب مع كلفة التحصيل العلمي العالي، فتغمرني موجة كثيفة من الحزن.
ها هو غدنا يضيع وتعجز أيدينا عن حمله وحمايته.
ها هي زهرة شبابنا تعمل لغيرنا، ولعل بينهم من وضعته ظروفه في موقع العمل ضدنا.
والعذر جاهز… بل لعل العذر هو »المركب« الذي أخذه الى حيث هو وإلى من يعمل لهم.
لا قضية موحِّدة، ولا مصلحة مشتركة، ولا أرض لقاء مع الوطن وأهله حيث بات الحاكم هو التجسيد الحي »للوطن والدولة والشعب«، أما خارجه فلا شيء غير الهباء والعدم والغضب الساطع والاتهامات الخطيرة بالضلال أو بالتآمر أو بالخيانة العظمى والعياذ بالله.
لا فلسطين، لا وحدة، لا اتحاد، لا إطار للعمل المشترك.
والمؤسسات ذات »الطابع العربي« شكلية مفرغة من مضمونها وتنتمي إلى الأمس وليس الى الغد (خذ جامعة الدول العربية، مثلاً، والهيئات والمجالس المنبثقة عنها، عدا عن مكاتبها في العالم التي باتت مجرد فرص أو امتيازات لعدد من المحظوظين الذين يفضلون الحياة الهادئة في بلد نظيف لكي يرفعوا من هناك رأس العرب الذي لا مجال لرفعه إلا من على البعد وعبر منصب عظيم الدولارات ومعدوم التبعات إلا من تبرع بحضور الكوكتيلات والإفاضة في أحاديث المناسبات الموجهة إلينا من هناك، وليس إلى من أُوفد يقنعهم فوجد أن الصهيونية قد سبقت فارتاح وأراح..).
لنبسط الموضوع…
مَن هو المعني بهذه النخبة من شبابنا التي كانت رصيدا لغدنا فتناثرت أو هي مهددة بالتناثر هباء، إن لم نقل إنها باتت بعضا من رصيد الخارج، وهو إجمالاً غير صديق، أو إذا شئنا الدقة غير حريص على تقدمنا، وغير معني بمستقبلنا إن لم نقل إنه معاد؟!
مَن يفكر بهؤلاء، أصلاً؟! مَن يعمل لاستعادتهم وتأمين مواقع لهم بحيث يفيدون بلادهم بخبراتهم معززة بحماستهم وبمعرفتهم بهذا الذي يجري في »العالم الجديد«؟
وليس منطقيا ولا عمليا أن نطلب منهم هم ما يتجاوز طاقاتهم وظروفهم… وارتباطاتهم.
وليس ثمة جهة قادرة ومؤهلة وموثوقة، هنا وهناك، أي من »حكوماتنا« ومن هؤلاء المتميزين، على اختلاف نزعاتهم وتوجهاتهم، لإعادة تجميع أو تأطير هؤلاء »الأدمغة المهاجرة«… علما بأن من يجيء منهم هم المسيسون نسبيا أو المعنيون والمهتمون بالشأن العام، في حين يندر أن يُدعى (فضلاً عن أن يُحتضن) أولئك الذين أنهوا تخصصهم في مجالات التقدم العلمي وثورة الاتصالات والمواصلات، يستوي في ذلك ما يتصل بالكومبيوتر والأنترنت أو بالطيران والفضاء والذرة وصولاً الى السلاح، من غير أن ننسى المعاهد الممولة من أجهزة المخابرات ومن مراكز الأبحاث التي تعمل لتنوير صناع القرار… الذي كثيرا ما يكون ضدنا!
إن اللقاءات العارضة في الندوات المنظمة مفيدة باعتبارها »أضعف الإيمان«، إذ تبقي خيطا من الود وقناة للتواصل (وربما للتعارف) ولكنها لا تكفي، خصوصا وأن الندوة غالبا ما تنتهي بفراغ المتحدث الأخير من قراءة ورقته، أو بالبيان النداء الختامي الذي يصدر عنها فلا ينشر إلا نادرا ولا يقرأه غير المشاركين فيها..
لمن نوجه الكلام؟!
لا أعرف… ولا أنتظر له نتيجة عملية!
لكنني أفعل هذا من باب الواجب وتبرئة الذمة وعلى طريقة »قد بلّغت، اللهم فاشهد«.
وإن كان مما يشجع أن حاكم الشارقة، الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسم قد تبرع من ماله الخاص بمليون دولار من أجل المباشرة في بناء مؤسسة رائدة هدفها تجميع »الأدمغة المهاجرة« في مؤسسة عربية للعلوم والتكنولوجيا، ومباشرة السعي لاستعادة مَن يرغب منهم، لكي ينفعنا بعقله، نحن الذين رمينا عقولنا التي أتعبتنا وكادت تحرمنا لذائذ الحياة الدنيا، بما في ذلك متع السفر في بحر الكلام الذي له فنادقه الفخمة الواسعة الجنبات وجمهوره القليل الذي تعوّد أن يقول فلا يسمع إلا الرقيقَ من الأصوات والدافئَ من همسات المصادفات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه غفور رحيم مجيب الدعوات!
لماذا كانت المرة الأولى أيها العابر بي بين يأسين؟!
لا هواء، والضوء باهر، والشباك مفتوح على الليل، والبحر يعتلي السطح، والصحراء تكتسح الفضاء برملها المنطفئ، بينما يشرد القمر بشحوبه ذات اليمين وذات اليسار باحثا عن نجمة يحتمي بها من قيظ السَحَر الميت.
تكسَّر الصمت بضحكات قصيرة متحفظة، وبفضول اللقاء الأول، قبل أن تمهد القهقهة للتعارف، ثم لاكتشاف روابط وصداقات مشتركة تعود إلى ما قبل الميلاد.
الأسماء أقنعة للتنكر يفضل نسيانها عند المباشرة في علاقة جدية.
الماضي مأساة مجهولة، إلا لمن يقرأ العيون ويسمع ما خلف جلجلة الضحك الذي لا تبرره الطرفة المعادة أو التي استولدتها المفارقة، والحاضر مجرد فاصل موسيقي تملأ به أم كلثوم القاعة التي تشبه ركنا في صالة ترانزيت في مطار محلي. أما المستقبل فوغد غامض تتقطع خيوطه الواهية كلما حاولت أن تمسك به يد طالبة النجدة.
اللقاء عند تقاطع الطرق مصدر للمرارة، لكن بذرة الحلم سريعة النمو في كأس مترع بصورة الذات وبوعد التعويض، ولو بعد حين.
لا نملك لأنفسنا غير الوعود، فإذا جاء وافد جديد أضفنا اسمه إلى القائمة، وغمرنا الشعور بأننا قد اغتنينا وبات يمكننا أن ننفق عن سعة…
لكنه سيف الوقت.
وأنت شهب يهوي عند هذا الطرف من الصحراء، ثم يرتد مرتفعا الى كبدي، وأنا فوق تلك الدوامة في قلب البحر، وليس بيننا إلا فضاء أحمر كلون عيني الآن، وذبذبات صوت لا يصل معناه إلى صاحبه فيتشح بأنين الوداع.
لن تكون لنا مرة أخرى، فلماذا كانت الأولى أيها العابر بي من يأس الأمس إلى يأس اليوم… أنت الذي يتقدمك ادعاؤك، حيثما كنت، بأنك نهر الأمل؟!
تهويمات
} حين اتهمته بالغرور أجابها مزهواً:
الحب جعلني كبيراً، لقد أضافك إليّ فصرت عظيماً!
وردت بقسوة:
أنت لا تعرف الحب. وحبي أوسع بكثير من أن يكون إضافة. ثم انك تضيق بذاتك فكيف تتسع لغيرك؟
} قالت: لا تذكّرني بنفسي، إنما أنا هاربة منها إليك.
قال: وأنا أبحث عن ذاتي، فأين أرض اللقاء؟
} الكون فسيح جداً، ولكنه قد يضيق بحبيبين إذا التقيا في المكان ضاع منهما الزمان، وان هما تلاقيا في الزمان سقط عليهما المكان!
} قالت: لا تتحداني فتفقدني!
ورد معتذراً: معك أنا أقوى من التحدي، ومن دونك أنا أضعف من الاعتذار!
} قالت وهي تودعه:
لكل منا حياتان، على ما يقولون. أما أنت فلك ثالثة في برزخ ابتنيته لنفسك، لا أنت تقوى على مغادرته ولا تريد لك شريكا فيه، فكيف تريدني معك وأنا خارجك؟
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
بعض المحبين لا يهنأون ولا يطمئنون إلى حبهم إلا إذا عصفت بهم دوامة العذاب والتوجس. لا تثقل على حبك بمطالبك المستحيلة. نحيا بحبنا ولا نموت فيه، ونقبله بذاته ولا نفرض عليه شروطنا. يفسد الحب مَن يريده مشروطا وعلى مقاسه. الحب أكبر منا والنعمة أن نكون فيه لا أن نقطعه فنهلكه ليصير على المقاس.