سمير عطا الله ينعى الشرق… زمن شبريحا
منذ أن جلست خلف مكتبي في «السفير» لا أغادره إلا لطارئ خطير او حدث جلل في بلد قريب، صارت متعتي قراءة ما يكتبه البعض من زملائي الذين توفر لهم ظروف عملهم فرصة التجوال بين العواصم ولقاء «النجوم»، «قادة» لن يتأخروا في الرحيل ملتحقين بالطغاة الذين سبقوهم الى الحكم بالسيف او بالسم او بالسجن المؤبد، وآخرين حديثي الوصول إلى السدة… وكنت أرى في ذلك شيئاً من التعويض عن غيابي عن هذا «المجال الحيوي».
وأعترف، بحب، بأن أكثر من يثير «غيرتي» من رفاق الكلمة وعذابات المهنة اثنان:
سمير عطا الله بخزينه الهائل من المعارف والأصدقاء المتناثرين في أربع رياح الأرض، مع تركيز على المتحدرين من أصل لبناني والذين حققوا نجاحات باهرة في مختلف المجالات، الاقتصادية أو العلمية او الصناعية. أكاد أحسده على ذاكرته التي باتت ارشيفاً غنياً.
وغسان شربل الذي يشدني أسلوبه الممتع بلغته المميزة بفصاحتها الأنيقة والدلالات والإيماءات المضمنة في كلماتها حتى لتكاد تنزفها نزفاً، ثم محاوراته الناجحة مع «القادة» سواء منهم القائم بالأمر الذي استطاع حفظ حياته، ولو في المنفى، او «ورثتهم» بالانقلاب او بالثورة..
آخر ما أتحفنا به سمير عطا الله كتابه الجديد، «مقال الأربعاء» الذي يقدم مقالاته في الزميلة «النهار» خلال السنتين 2012 ـ 2013 بعنوان حزين: «انقضاء الشرق».
وسمير عطا الله عرف الشرق العربي بدوله جميعاً، بملوكه ورؤسائه والأمراء والوزراء والوجهاء، وعرف كثيراً من جهات الغرب الأوروبي أساسا والاميركي بدءاً من كندا مروراً بالولايات المتحدة، لا سيما بعاصمتها الرسمية واشنطن، ثم بعاصمتها الدولية نيويورك والحديقة الكونية فيها، الأمم المتحدة، بضيوفها الطارئين والسفراء العابرين والمندوبين الدائمين، وانتهاء بأميركا اللاتينية بثوراتها، منتصرة أو خائبة، وبالمهاجرين اللبنانيين القدامى فيها إلى حد نسيان أسمائهم الأصلية، او الجدد المحدثين والذين عرفوا الطريق السريع إلى الثروة..
كذلك فإن هذا الزميل العريق قد جاب الوطن العربي بالطول والعرض، وعمل في تحرير صحف عديدة ، خارج لبنان.. إذ عشنا معاً لفترة قصيرة في الكويت في بداية الستينيات، كما عاش لفترة اقصر في ليبيا أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، قبل أن تمنحه المصادفات وقدراته فرصة العمل كمراسل متجول ليستقر أخيرا في بيروت في الفترات الفاصلة بين طائرتين… ثم انه يكتب مقالاً يومياً في «الشرق الأوسط» ومقالاً أسبوعيا في «النهار».
وبين مزايا سمير عطا الله اعتزازه بمسقط رأسه، بتدين اللقش، في جوار المصيف الفخم جزين بشلالها الذي يكاد يتوقف عن التدفق من شاهق نتيجة التحايل على منابع المياه ومجاريها في زمن الفوضى الممتد إلى ما شاء الله..
أما المزية الأخطر فهي اختزانه للشاعر الكبير بولس سلامه الذي احتضن تراث الإمام علي بن أبي طالب واصدر ديواناً مميزاً عن هذا المبدع فكراً وثقافة وحكمة سبق بها مجايليه والكثير من المعاصرين في تثبيت أسس الحكمة واستشراف الغد والتفسير المميز للدين الحنيف الذي طمسه الصراع على السلطة.
وإذا كان سمير عطا الله قد اعتبرني «الشريك في أجمل الأوهام» فانه قد ميز رجا صيداوي فجعله «أخاً وصديقاً»… والفارق هو ذاته الذي بين أبناء الصحافة ورجال الأعمال الذين كلما ازدادوا ثروة أنقصوا عدد أصدقائهم، وميزة رجا انه ليس من هؤلاء.
مطلع الكتاب «دموي»، إذ يستهله بعمليات الاغتيال، ما نجح منها كليا وما خاب جزئياً، خصوصاً وان إحدى هذه العمليات وقعت في «حي المستورين» كما يسمي شارع إبراهيم المنذر، وهو يعرف كل ما يتصل بالحي من حلاقه ايلي فضول الذي يبلغه أخبار موسم الاكي دنيا في شرق صيدا ويقرأ عنده المجلات الفنية.
عناوين سمير مميزة في قدرتها على تلخيص المشهد، ولو كان تاريخياً، وبينها: «الشرق الأوسط القديم»، و«أسوأ وظيفة في اميركا»، و«ألم تر فرعون على حمالة»، «بيت لحم تبحث عن نجمة الهجرة»، «ولماذا قتل القيصر بلجيكا والخفر الأعظم»، و«المشترك وضعا والمفترق صعقا»، ثم «على طريق شرحبيل»… وهذا ما أحب أن أتوقف عنده.
يصعب تلخيص سمير عطا الله لأن الاستشهاد بحكاية يستولد حكايات عديدة، ثم انه حريص على التوصيف الكامل للمكان وموقعه على خريطة أصدقائه القدامى وتاريخ الذين أرشدوه إليه ثم غابوا، مع تنويه بالذين ذهبوا مشياً عبر الأطلسي فلما أصابوا الثروة انتبهوا إلى أن العودة إلى الأهل وجيران الأهل وأصدقاء الأهل قد تذهب بها فبعثوا بالسلام شفاهة محتفظين بالورق لدفاتر حساباتهم.
يكتب سمير عطا الله بقلبه لا بقلمه هذه الكلمات عن الدرب إلى قريته تحت عنوان «على طريق شرحبيل»:
«الاربعاء الماضي كان علينا، من اجل الوصول إلى بيوتنا وما تبقى من ارزاقنا في منطقة جزين، ألا نتخذ الطريق التي نعرفها منذ مئة عام، لان احمد الاسير يتظاهر في عبرا. لذلك كان علينا أن نسلك طريق «البرامية، شرحبيل، كرخا، الصالحية». مناسبة جميلة أن نتعرف إلى أن ثمة شيئاً في المنطقة يدعى شرحبيل، وكرخا ترحب بكم في أي حال.
«ما يسمى الآن جوار الشيخ الأسير كان في أيامنا القرى المسيحية التي شريانها الحيوي جوار صيدا. وخالي كان مدرساً في المدينة وأولاده طلاب في المقاصد. وصيدا كانت الطريق، وليس قاطع الطريق.
«بعد الحرب تغيرت أمور كثيرة في ما تغير. صارت صيدا، بأملاك الشيخ الأسير، على حدود صفاريه. حقها ومالها مقابل ذوبان الفكر المسيحي عند المنقذين، أولا «القوات»، واخيراً التيار. اعتدنا أن يتولى المرشح الكاثوليكي مصاريف اللائحة او الليسته. رجال من فئة بيار فرعون وجورج ابو عضل ونقولا سالم، الذين منهم مصاريف اللائحة. فاز صوايا بمقعده وطار إلى الولايات المتحدة، حيث تجارته ورزقه، ولم يعد. ولم يظهر مرة في البرلمان، ولا في عرس، ولا في أحسن الله عزاكم».
أحزاننا يعقوبية، يا سمير. ليس احد منا في مكانه، ولكل منا شبيح طائفي صادر أرضه وحريته. لكننا نقاوم كي يبقى لنا وطن، ليس فقط كي ندفن فيه بل كي يكون فيه أبناؤنا ويكون بأبنائنا.. والغلط إلى زوال.
«عائدة» تكتب عن «عفيف» الذي لا يغيب
يوماً بعد يوم يتزايد إعجابي بهذه السيدة تنطق بصمتها ثم بقلمها: عائدة خداج ابي فراج.
عرفتها، بداية، شريكة فرح للصديق الذي غادرنا مبكرا الدكتور عفيف فراج، وهو من أغنى مكتبتنا بالعديد من مؤلفاته التي عالجت قضايانا بالتقدمي من الفكر، وبالقراءة المميزة للتاريخ وبالثقافة العريضة إذ كان ـ رحمه الله ـ مكتبة متنقلة.. إلا في رأيه.
ولقد أشرفت عائدة خداج، تصحيحاً واستكمالاً وانتاجاً، على تظهير ما كتبه رفيق عمرها وإعادة طبع ما كان طبع منه… ثم جلست تجمع ما كان تبقى من نتاجه الذي لم ينشر وتكتب قصصاً قصيرة يطل طيفه منها، في حله وترحاله معها.
آخر ما أنتجته عائدة خداج مجموعة قصص قصيرة بعنوان «الشرخ وقصص أخرى» وقد أهدتها، بالطبع، إلى روح رفيق عمرها الغالي عفيف والذرية الصالحة.
وقد يكون من الظلم أن ابتسر القصص، لكنني سأكتفي بمقاطع دالة من القصة التي أعطت عنوانها للمجموعة:
«نظرت إلى وجهي في المرآة فلم أكن هي أنا ولم يكن وجهي هو وجهي.
« كيف لي أن أعيش نصفين؟! نصف وجهي يتساقط ومن ثم تلاه نصف جسدي، وتساءلت : كيف لي أن أعيش نصف إنسان؟!
«تلمست وجهي فنظرت ثانية إلى المرآة وأخذت أجيل النظر بين وجهي والمرآة لاكتشف أن الشرخ أصاب الاثنين في آن، واحد في اللحم وآخر في الزجاج، فإذا شفي اللحم فكيف للزجاج أن يشفى ومتى كان الزجاج يلتحم».
في الكتاب 16 قصة قصيرة، بعضها مستمد من حياتها مع عفيف، حتى وهو في باريس، وتسافر في بعضها مع الفلسطينيين في تشردهم… وتختم بقصة مهداة إلى الأحفاد تسبقها قصة «المشهد الأخير»:
«ودون أن تنطق بكلمة أمسكت بيده وسارت نحو غرفة الطعام، فتهيأ الجميع. أضاءت النور فرأى شمعة تنتصب وسط قالب من الحلوى، تتمايل فرحاً لكنها تبكي. أدرك انه عيد ميلاده الذي لم يتذكر يوماً موعده. بدأ الجميع بالغناء طالبين له الصحة… امسك احد الأحفاد بيده وقاده إلى حيث تراكمت الهدايا. اخذ يفتحها واحدة تلو الأخرى شاكراً ومتودداً وسط صراخ الصغار وقهقهاتهم. فتح هديته الأخيرة فإذا هي قبعة جميلة. حملها بيده، نظر إليها مطولاً وقال في نفسه: «إنهم يعلمون! لم أنجح في إخفاء مرضي..»»
لتكن لكِ الصحة والمزيد من الإنتاج أيتها الرفيقة الأمينة، وليحفظ الله الأبناء والأحفاد الذين يعتزون بالتأكيد بجدهم.
تهويمات
^ قال الشاعر: عشقت الكلمة، وفي الكلمة ألف امرأة، وفي كل امرأة ألف آه، وفــي كــل آه ألف شاعر.
قالت المرأة الألف: وأنا أسمع الآهات ويضيع مني صوتي فإذا الهمس يعوض ما خسرت فيفتح أبواباً لم أطرقها.
^ قال الرجل: يستطيع الرجل أن يصنع جنته على الأرض بالشيطان الذي فيه.
قالت المرأة: وتستطيع امرأة واحدة أن تقيم جحيماً بتفاحة.
^ قالت المرأة : حبيبي يطيل الصمت أكثر مما أطيق… لكنني أسمعه بقلبي، ويصلني صوته كالحريق.
قال الرجل: لكنك النار ولست الماء، بل انا الهشيم.
من أقوال نسمة
قال لي: «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ــ لا تبالغ في توجيه العقاب إلى حبيبك، لماذا تأخرت، لماذا لم تجب على الهاتف؟ لماذا بكرت في الحضور؟ لماذا تلبس هذا القميص المزركش؟ لماذا اخترت ربطة العنق الجميلة هذه ؟!
ــ العتاب كالجمر، قليل منه على بعد كافٍ، يعطيك الدفء، وكثيره يحرق القلب والمحبين جميعاً.