حوار داخلي مع لغة بائدة في عصر متبدل
لكل عصر ناسه. لكل عصر لغته. يغادر العصر الناس إلى أجيال جديدة فتتهاوى اللغة القديمة راحلة مع أولئك الذين أتقنوها فسكنوها واستهلكوها لأنهم عجزوا عن تحقيقها.
العصر بناسه، قال لي، وناسي قد غادروا العصر أو انه تخلى عنهم لأنهم ضعفوا فلم يستطيعوا مجاراته والتقدم به وفيه ومعه. إن ناسي هم البائدون، وها أنا أقف وحيدا في محطة هجرتها القطارات، فلم يعد ينطلق منها الزمن ولا تبدأ منها دورة جديدة للحياة.
أخذتني رنة الحزن في كلماته إلى ذكريات الزمن الجميل، لكنني لم أكن في مثل يأسه فاستغربت هذا »التشييع« لنفسه ولزمنه. ولعله قد لاحظ ذلك فعاد يقول:
لم يعد قاموسي صالحا للتفاهم. تتساقط الكلمات من فمي كأسنان مهشمة، أو هكذا يراها الآخرون. خذ عندك، مثلاً، كلمات مثل: فلسطين، العروبة، الامبريالية، الاشتراكية، العدو الصهيوني، الطغمة المالية، الاحتكار، رأس المال المستغل، الرأسمالية المتوحشة الخ… كل هذه التعابير التي كانت لها دلالات واضحة جدا، ومحرضة جدا، ومعبئة جدا، تخرج التظاهرات وتلهم الشعراء فيكتبون القصائد الثورية… آه، نسينا أن نحتسب كلمة »ثورة« مع الكلمات البائدة… تُنشئ الأحزاب، تُسقط الحكام والأنظمة، تستبدل ملوكا دستوريين بدساتير لجمهوريات ملكية.
خذ عندك، يا سيدي، فلسطين الآن لم تعد تعنيك مطلقا، وإن تحدثت عنها فإنما أنت تتدخل في الشؤون الداخلية لدولة إسرائيل. لم تعد »القضية«. وبائسة هي »السلطة« لكي تعوض القضية. وأوسلو خارج فلسطين، لكن فلسطين صارت منثورة ومقطعة الأوصال، بعضها في واشنطن، بعضها في أوسلو، ومعظمها في تل أبيب، وأقلها على أرصفتها التي تشغلها المستوطنات »الشرعية« لليهود غير الشرعيين! كانت فلسطين تعني الصراع مع دولة الكيان الصهيوني، صارت فلسطين تعني الحرب الأهلية العربية. بوسع أي من أتباع السلطة الآن أن يمنعك من الحديث عن »فلسطينه« بذريعة أنك »متدخل أجنبي« تريد حرمانه من وطنه.
تريد أمثلة أخرى؟ حاضر… العروبة. ماذا تعني الآن؟! هل هي الرابط القومي؟! لم يعد ثمة ما هو مشترك بين العرب غير اللغة.. واللغة في أبأس حالاتها. فهي لا تُستخدم إلا في التخاطب المنزلي. حتى في السوق تسمع لغة هجينة، اقتحمتها المفردات الأجنبية ولو مكسرة، لكنها لم تعد عربية خالصة. أما في الشركات والمصارف والمؤسسات الكبرى فتكاد الإنكليزية (والفرنسية بنسبة أقل) تكون هي لغة المراسلات والتخاطب الداخلي أيضا. العربية مع الساعي والسائق والقهوجي فحسب. كذلك هي حال العروبة… لم تعد تعني بالتأكيد وحدة الانتماء، فكثرة من العرب يرفضون تصنيفهم عربا، ومن تبقى يفضلون أن تسميهم بأقطارهم المتفرقة على أن توحدهم لفظا تحت اسم العرب: عراقي، ليبي، مصري، سوري، مغربي، موريتاني، يمني… بل ربما فضلوا تسميات جهوية من نوع: حلبي، بغدادي، موصلي، طرابلسي، بيروتي، قاهري، مراكشي، أو عرقية أو طائفية مثل بربري، كردي، سرياني، أشوري، أرامي، أو ربما قبطي، شيعي، درزي، سني، ماروني أو بروتستنتي الخ!
تريد أمثلة أكثر وضوحا، خذ عندك يا سيدي: الاشتراكية.. إلى ما قبل بداية التسعينيات كان الانتماء الى تيار اشتراكي، أو يساري عموما، موضع مباهاة وفخر ومفاخرة. وكانت الخلافات »مذهبية«، بمعنى التمايز والتمييز بين الشيوعي والاشتراكي والتقدمي، بين »الماوي« و»الغيفاري« و»السوفياتي«، و»اليسار الجديد«. وكان لكل مذهب إضافة إلى الأتباع »طقوسُه« التي تمتد من نوع السجائر إلى اللباس إلى المقاهي إلى المفردات الأثيرة والشعر المفضل وطريقة الغزل »المقررة« وطبيعة العلاقات الجنسية الخ..
أين يذهب هؤلاء جميعا؟! وكيف لم يقم بينهم من يعترض أو يحاسب على مسؤولية السقوط فيشهر سيفه ويطارد المتسببين والمنتفعين بالسقوط؟!
ثم من أين لهؤلاء هذا الإتقان المفاجئ للغة الإنكليزية؟! في حدود علمنا فإن أكثريتهم الساحقة كانوا يرطنون بالفرنسية.. متى، إذاً، تعلموا الإنكليزية حتى باتوا لا يستشهدون إلا بما قرأوه في »الهيرالد تريبيون« أو بما سمعوه في الاC.N.Nب؟!
صمت صديقي قليلاً وأخذته الذكريات الحزينة بعيدا، واحترمتُ مشاعره فظللت أنتظر عودته إليّ، فلما عاد إلى نفسه قال:
أبشع ما في الأمر هو حلول إسرائيل محل فلسطين في موقع النموذج. كانت فلسطين هي القضية المقدسة، هي المحرّك، هي الحافز، هي معقد الآمال، هي »مجمع« الأحلام في التحرر والوحدة والتقدم.
الآن، يا صديقي، إسرائيل هي النموذج. هي نموذج »الدولة القومية الجامعة« (أقله لليهود). وهي نموذج التحرير والعودة. ثم إنها نموذج التقدم الاقتصادي والعلمي، إضافة إلى أنها مركز استقطاب. إنها قوة عظمى، تماما كتلك التي كان يحلم بها العرب عبر انتصارهم في تحرير فلسطين والتحرر والتقدم والمنعة بالوحدة!
أما الديموقراطية فحدث ولا حرج… أليست هي الواحة الديموقراطية في صحراء أنظمة القمع العربية؟!
رآني ساهماً فعاد يقول:
الفاجعة الأخرى انتقال مركز الحلم من الاشتراكية إلى النظام الرأسمالي، فهو الآن رمز الحداثة والقدرة غير المحدودة، بل كذلك الطريق إلى العدالة الاجتماعية… العدالة في الغنى، أو في الكفاية، وليس في الفقر. ان للرأسمالية الآن شعبيتها في أوساط الفقراء. إننا نقبِّل حد السيف الذي به سننتحر!
أخذتني نبرة الخطابة في كلماته الأخيرة، فقلت بلا وعي:
لكن التاريخ ليس يوما واحدا. لا يمكن أن تعود الشعوب إلى قيودها التي دفعت الكثير من الدم للتحرر منها!
أدهشته ثوريتي المتأخرة، فاكتفى بأن قال:
الحمد لله أنني لست وحدي من البائدين!
حكاية امرأة كونية
قالت وهي تضحك: أنا من أصل هندي. من سيريلنكا، حقيقةً. أهلي من الهندوس، وزوجي صيني بوذي، أصلاً، اعتنق الكاثوليكية. لست متعلقة بالأديان. أعرف أن ثمة إلهاً يعطيه كل منا اسماً. وفي الديانات الهندية يتخذ الإله أشكالاً كثيرة، وله حالات عديدة، وله في كل حالة رسم. ما دام الله »مجردا« فلماذا نختلف من حوله، وفي الطريق إليه؟! أطرب لصوت المؤذِّن المسلم، ويأخذني صوت الجرس في الكنيسة القريبة إلى مروج خضر تسرح فيها قطعان من الغزلان. العالم صغير، والناس متشابهون. أنظر إليهم وهم في حالة فرح… إنهم متشابهون لكأنهم واحد. أنظر إليهم وهم حزانى. كلهم واحد. لماذا التعصب. كل الطرق توصل إلى »إله« ما، تجتمع فيه »آلهتنا« جميعاً. أعطانا الله الحياة، بغير تفريق، فلماذا نختلف فيها عليه؟!
المهم الرزق. المهم الصحة. المهم البيت الدافئ.
في البيت البارد لا بد من أن ينشب الخلاف.
الضِّيق سبب الخلاف، ثم يأتي المتاجرون بالضيق.
هل سمعت عن ثريين اختلفا على طبيعة الله.
الحب لا يحتاج إلى مكان فسيح. مَن امتلأ قلبه حباً وجد الله في قلبه. أليس الحب من أسماء الله الحسنى؟!
أغشى المثلثات!
قال وهو ينفث غضبه رياحاً: لقد أنهكتني المثلثات! أنى ألتفت، في الطريق، في المكتب، في الحافلة، تتعلق عيني بتلك المثلثات التي أستطيع أن أقيس بها النساء! أما حين أجلس في المقهى وتخطر أمامي الفتيات العابثات، أو تتهادى السيدات المتأنقات فإنني أجتهد في أن أمنع عيني عن الذهاب رأساً الى ذلك المثلث الذي يشكل بالنسبة إليها مركز الدائرة. سمعت مرارا مَن يتحدث عن تربيع الدائرة! لقد اجتهدت في أن أربع المثلث، أو في أن أدوره، لكن خلاصة ما نجحت فيه أنني جمعت كماً هائلاً من المثلثات، بعضها مسطح رقيق، وبعضها الآخر سمين عفي، ثم لم أستطع كسر سورها المصفح والخروج من دائرتها المغلقة من زواياها الثلاث!
تنهّد بعمق ثم أضاف: أنا مصاب بمرض التثليث! حتى الشمس أرى في قلب دائرتها مثلثاً، والقمر أرى المثلث محفوراً في منتصفه والباقي أشعة منه، كل مهمتها إبراز المثلث!
لم أعلق فالتفت إليّ وقال ساخراً: أعرف أنك من أنصار تربيع الدائرة وتدوير الزوايا. أنا مع الزوايا. الزوايا مثلثات، وأنفك مثلث، وهو يشطر وجهك إلى مثلثات. أما المرأة فهي مثلث واحد وما تبقى هباء!
تهويمات
} قالت معاتبة: يحرقني شوقي إليك حتى تحضر، فأفتقدك!
لم يعرف بماذا يرد، فأضافت موضحة: بائس مَن يحب في الغياب ثم يخفي حبه متى حضر. أفضّلك غائباً لأستبقي حبي حاضراً!
} لم يكن قد انتبه إلى وجودها حين غمرته موجة عطر.
التفت معتذراً فدهمته بحّتها الهامسة: أينك أيها الشقي؟!
قال بسرعة: هنا، معك.
حاصره الهمس المحموم: كذبتان كبيرتان في جملة قصيرة!
ارتبك وهمّ بالانصراف مدحوراً، فردته الهمسة الأخيرة: قدري أن أحب كذاباً! ألستَ تعرف أن الحب أجمل كذبة إنسانية مشروعة؟!
همّ بأن يرد، لكن مسحوق الهمس عاجله من جديد: لا تكذب أنت. ستفسد اللعبة. شرطها أن يكذب واحد ويدعي الثاني أنه قد صدَّق!
} كانت تبكي وحيدة، في الغرفة الفسيحة الفارغة من الهواء.
بوغت بوجودها، وأحس بذنب مَن اقتحم خلوة حميمة، وهمّ بأن ينصرف، فسمعها تقول: لا بأس، ليست الدموع عورة، وليست الخيبة في الحب جريمة، ولن تستطيع أن تقاسمني حزناً. أحبك أن تبقى إذا تخلصت من شفقتك. أنا أقوى من خيبتي، فهل أنت أقوى من ذكراه؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة غير الحب:
يجيئني حبيبي مع الشعر. أحياناً أستغرب أن يستطيع غيري أن يعقد أطواق الياسمين من حول عنق حبيبي، وأن يصطنع من همساته قلائد وأقراطا وقوارير عطر. أحب بلسان شاعر وقلب أم وعشق فراشة للضوء ورهافة يد رسام!
طلال سلمان