عن الذين يقهرون الصحراء بالوطن
في المبنى الأنيق المقام واحة من نور فوق رمال الصحراء، في ظاهر القاهرة، غير بعيد عن طريق الإسكندرية الصحراوي، لم يكن داخل القاعة الوحيدة المضاءة والتي تحتل واجهتها مجموعة من أجهزة الكومبيوتر، غير مهندس شاب لم يألف »المداهمات« الليلية، ولم يعتد الحديث إلا مع الصمت ومع تلك الخطوط الملونة بتعرجاتها وانحناءاتها الحادة فوق الشاشات الصغيرة.
كان ذلك مركز التحكّم بالقمر الصناعي »نايل سات«.
كنا عائدين من جولة مسائية في مدينة الانتاج الاعلامي قيد الانجاز، والتي يفترض أن تضم تسعة استديوهات للتصوير السينمائي والتلفزيوني، بينها أربع »مدن« للتصوير الخارجي: واحدة عربية إسلامية كالقاهرة والثانية فرعونية، والثالثة تمثل بعض أحياء الاسكندرية، والرابعة تمثل دار العمدة والمندرة ومنازل الفلاحين من أية من قرى الريف المصري بالغيط والساقية والترعة والجبانة الخ…
المدينة التي ما زال العمل جاريا فيها ستمتد على مساحة ثلاثة ملايين متر مربع، وستضم فندقا كبيرا بأجنحة متعددة على شكل فيلات ومسابح ومدينة ملاهٍ للأطفال (وذويهم)، وأودوتوريوم للتصوير تحت الماء، والمرافق اللازمة.
فأما المباني والاستديوهات وكل ما يتصل بالخدع السينمائية فلا تختلف كثيرا عما يمكن أن يرى الزائر لاستديوهات هوليوود، ولعلها ستستفيد من الجديد المبتكر حديثا.
ما يعنينا وما كان موضع اهتمامنا هو تلك النخبة من المهندسين والفنيين والعمال الذين يسهرون على إنجاز هذا المشروع الكبير، مستنبتين الحدائق والاطار البهي للأعمال الفنية في قلب الصحراء.
تحدث إلينا المهندس الأول في المشروع، الذي اقتحم الصحراء مفتتحا معركة التحدي قبل خمس عشرة سنة، بإمكانات متواضعة جدا: لم يكن هنا غير الرمل، وغير إرادتنا، وكان قرارنا أن ننجح!
طال الوقت بسبب ضآلة الإمكانات والتعقيدات الإدارية، ثم كان ان تحول المشروع الى شركة تملك المؤسسات الحكومية معظم أسهمها، ولكنها تخضع لنظام الشركات التجارية، خصوصا ان ثمة مساهمين من القطاع الخاص دخلوا ولو بنسب بسيطة.. في انتظار التحقق من الربحية فيقبلون على الجاهز، وربما نجحوا في »شرائه« بأرخص الأسعار على طريق تركة القطاع العام التي توزعها »الكبار« منهم محققين أعلى نسبة ربح في أي مكان أو زمان.
لا يتوقف الوطن خارج حدود الصحراء، فنقبل منه »المناطق السياحية« النظيفة، والأحياء الراقية، ثم نرفض ما عداها أو نسقطها من حسابنا ونتساهل في ضياعها أو مع من يحتلها بقوة السلاح (كما سيناء مع العدو الإسرائيلي).
قال كبير المهندسين في مركز التحكم في محطة »نايل سات«، حين لاحظ اهتمامنا بمستوى معلوماته، وبالتالي بالجامعة التي درس فيها وتخرّج منها:
نحن هنا عصابة عين شمس، معظمنا من خريجي كلية الهندسة في جامعة عين شمس وبيننا أقلية مضطهدة من جامعة القاهرة.
طاف بنا على الأجهزة التي تسمح بالمراقبة، ومن ثم بضبط مسار القمر الصناعي تعديلا أو تركيزا، لضمان الحصول على صورة نقية، أو تلك التي تمكن من تلقي ملايين الصور من مختلف محطات التلفزيون التي تعتمد »نايل سات« لإعادة بثها عبر محطات القمر الصناعي على القنوات المختلفة (الداخلية في مصر، وبينها أقنية تعليمية وأخرى ترفيهية وثالثة ثقافية الخ) ومن محطات التلفزة العربية لإطلاقها فضائيا الى مختلف أنحاء العالم.
قال وهو ينظر الى المهندس المعماري الذي رافقنا من موقع بناء الأجزاء الأخرى من مشروع المدينة الاعلامية: زملاؤنا يكدحون على الأرض، يسفون الرمل، وينزلون عميقا في قلب الرمل، بينما نحن نزرع عيوننا في هذه الشاشة الصغيرة فلا نرى إلا خطوطا متعرجة أو مستقيمة أو حادة التقاطع، بينما يستمتع الآخرون برؤية البرامج المسلية وهم يتكئون على مقاعدهم الوثيرة في بيوتهم!
قال المهندس المعماري: كلنا في الصحراء سواء.
استدرك زميله القادم من عين شمس: ولكننا نبني لمصر.
قال المهندس المعماري: طبعا نبني، لسنا أقل من غيرنا بل لعلنا في بعض الوجوه أكفأ وأقل جشعاً وأكثر استعداداً للعطاء.
كان الليل يلف الدنيا بعباءته السوداء، إلا حيث فتحت الارادة كوات للنور بالجهد والمثابرة والحماسة لبناء إنجاز يليق بالوطن.
وكانت عيون المهندسين الشبان تلمع في قلب الظلمة، وتلمع معها ابتساماتهم: إننا مؤهلون ونستطيع.
لا ادعاءات، لا خطب حماسية، لا تباهٍ، بل شيء من الفخر في النبرة: هم الآن أكثر ثقة بأنفسهم. ليسوا أقل كفاءة من »الخواجات«، ثم انهم فرحون بأنهم قد نالوا الفرصة لكي يؤكدوا حبهم لمصر.
متى تتاح لشبابنا فرصة أن يعيشوا في بلادهم ومن أجل بلادهم، بدل ان يهجروها حتى لا يقتلهم الشعور بالمهانة وهم يرون الأجنبي يسرق بلادهم بحجة بيعها التقدم في حين انه لا يبيعها غير ما لا يحتاجه من البضائع الاستهلاكية، ثم يعتذر عن تنفيذ مشروعات إنتاجية فيها بذريعة ان التقدم العلمي أكثر تعقيدا من ان يفهمه ويتعامل معه الطلاب الفقراء من خريجي الجامعات الحكومية؟!
العيب دائما فوق، لا تحت.
والحمد لله ان بعض عقولنا الشابة قد أصرت على البقاء، ولو ضمن ظروف بائسة، لتبني ما يتيسر أمر بنائه، فلم تهاجر لتبني بلاد الآخرين، الذين يعاملوننا بازدراء يليق بالمتخلفين.
حب بغير خاتمة لبلدة اسمها المتين
(من كتاب الأمكنة)
لم أعش في »المتين« إلا مدى القبلة الأولى في الحب الأول، ربما لهذا يصيبني الخدر وأنا أنظرها عن بُعد، فأراها بعين الفتى الذي جاءها غريباً فأسقطت عنه غربته، ودخلها مستوحداً فأخذته في أحضانها وغسلته بماء الزعتر ومنحته في ميدانها الذي كان محرماً على أهلها من الفلاحين البسطاء مثله، والذين ما عادوا إليه إلا بشق النفس والزمان، موقعاً وتركته يسعى خلف فراشاتها في خراجها الأوسع من كل البلدات والقرى ليتعرّف الى جمال اللون بل الى لون الجمال.
والمتين تقع على مفترق الوريدين بين المتنين، وعلى الطريق الروماني القديم بين الساحل والداخل (بعلبك)، وعاشت أيام عز الأمراء اللمعيين، ولو بالسمعة.
وككل حلم، لم تعمر العلاقة بالمتين طويلاً، فسرعان ما هبطتُ من عليائها إلى العاصمة المزدحمة أبحث لنفسي عن عمل يوفر لي فرصة إكمال الدراسة، وعن سكن يؤويني في غربتي الجديدة… وكان أن اهتديت إلى الصحافة فصارت سكني ومدرستي وملاذي الدافئ في أحضان شعب كامل من المتينيين.
أعرف وجوه الناس جميعاً، بإضافة الزمن إلى الملامح القديمة.
أعرف البيوت من نوافذها ومن قرميدها وأعشاش الدوري والسنونو فيها.
أعرف عين الضيعة، وأعرف ما تبقى من قصور الأمراء اللمعيين، التي تذكرنا بالصور الملونة في الكتب المدرسية عن البيوت التي ليست لنا.
أعرف »المخفر« والمدرسة، وبرج المسيقي بالكتابات ورسوم الآلهة والملوك من العهد الروماني وبرج الجوز، وأعرف النواويس المحفورة في الصخر والأقنية والأنفاق في بشلاما، والطرقات نزولاً إلى مشيخا، التي كان يرقاها يومها، بدأب شديد وبتهذيب عظيم يوزع معه تحيات الصباح على كل مَن يراه من المارة أو الجالسين الى ركوة القهوة، الزميل العزيز جورج بشير، وأعرف أيضاً الطرقات المعرّشة عبر الوعر إلى عينطورة، أما إن انحرفت الى اليسار قليلاً فإلى المروج وعيد مار تقلا فيها. ولأنني من عشاق اليسار فقد انحرفت أكثر وعملت طوال »صيفية« على باب السينما الملحقة بفندق بولونيا الكبير، أقطع التذاكر، ثم أتسلل الى داخل الصالة لأشاهد النهاية السعيدة للفيلم الذي بدأ حزيناً.. ويكون عليّ دائماً أن أتخيل البدايات، التي لم يتسنّ لي قطّ أن أراها من موقع المتفرج، مما أعطاني فرصة لتنمية ملكة الرواية بكثير من الخيال والتوهم… أليست السينما خيالاً ملوناً يجعله التمثيل البارع أجمل من الحقيقة، من غير أن يحرمنا فرصة التوهم أننا الأبطال، هذا إذا لم يجعلنا نصدق أننا أعظم قدرة من الأبطال.. باعتبارنا لبنانيين!
ولن أنسى أبداً ليلة الزلزال الذي ضرب لبنان، في العام 1956، وما تلاها من ليالي الرعب الذي ساد في كل مكان، ورد الناس الى الإيمان، وأخذهم الى التعاضد والتعاون وقد استشعروا ضعفهم في مواجهة غضب الطبيعة.
خرج الناس الى العراء، حملوا الحصر والفرش والمتيسر من الطعام، وتراصفوا بعيداً عن المنازل المهددة في تقديرهم بالسقوط.. فصاروا أسرة واحدة تقتسم الأرغفة والبطانيات وحليب الأطفال والقلق على الغد.
ولأن بيت العسكري على ظهره، وليس من حقه أن يسأل، فقد فوجئنا ذات يوم بقرار النقل الى جهة أخرى، من دون أن يكون لنا حق الاعتراض.
بترت حكايتنا مع المتين من قبل أن تكتمل.
ورحلنا يحف بنا الناس الطيبون، يلوّحون لنا بقلوبهم فوق أيديهم، فنكاد لا نميّز وجوهم بعيوننا المغشاة بالدمع.
وأعترف هنا بأنني عدت الى المتين، متسللاً، أكثر من مرة، متذرعاً بمهنتي سبباً وبالانتخابات النيابية مناسبة… ووقفت أراقب أترابي وقد غدوا ناخبين، يدعو كل منهم إلى مرشحه الأثير ويعمل في »تطبيق« الآخرين ليعطوه أصواتهم.
كنت من قبل في عين زحلتا طفلاً، وفي بعقلين يافعاً، قد تعرفت الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، من موقع الممتلئ فضولاً، والذي تحرك خياله الزوبعة.
ثم أمضيت في المختارة سنتين طالب علم في مدرستها الابتدائية التي حولتها الإرادة الصلبة للمعلمين الخمسة فيها الى تكميلية… وهناك تعرفت الى الحزب التقدمي الاشتراكي، وبهرني شعاره البسيط »وطن حر لشعب سعيد«، وعلمه المميز بأرضيته الحمراء والكرة الأرضية بالأزرق تتوسطها ويتقاطع فوقها المعول والريشة بالأبيض الناصع.
أما في المتين فقد شهدت أول فصول الصراع بين الزوبعة والمعول والريشة في مواجهة شعار الكتائب »الله، الوطن والعائلة« والأرزة المقطعة مثلثات إضافة الى حزب قوي آخر كنا نسمع به همساً، وبشيء من الرهبة ووسط عاصفة من الجدل بالتحبيذ أو الاعتراض، هو الحزب الشيوعي.
كل ذلك في أجواء الهدير المتعاظم لحركة القومية العربية وثورتها الموحدة التي انطلقت من القاهرة بقيادة جمال عبد الناصر فجمعت تحت لوائها نتف الحلم العربي وأكدت إمكان تحويله الى حقيقة معيشة.
وفي المتين ومن حولها، كما في عين زحلتا والمختارة من قبلها، بدأت أدرك وأدرس تأثير الإقطاع في استيلاد حركة الوعي الاجتماعي، عبر مقاومة التمييز الطبقي الذي اتخذ شكلاً كاريكاتورياً، إذ يقال ان الأمراء منعوا الفلاحين من أن يحتذوا »مشايات« حمراء اللون، لأنها تدل على مكانة المحتذي.
وهنا تعرفت الى معنى »المرشح الشعبي« حين لمست كيف ينظر الناس وكيف يتعاملون مع »الحكيم«، الذي لم يكن إلا ألبير مخيبر، مدّ الله في عمره، وقد كان ترشيحه حدثاً، لأنه بدا في لحظة وكأنه حزب في رجل…
لم أدخل المدرسة في المتين، ولكنني تعلمت فيها ومنها الكثير، برغم قصر المدة والقصور عن استيعاب كل الدروس التي كانت تجري وقائعها في الساحة بغير قناع، وأهمها: الائتلاف تحت جناح روح الجماعة.
ولم أمض في المتين غير صيفيتين، إضافة الى العطل الأسبوعية.
لكن المتين جعلتني أعرف المتن كله.. المتن في الجغرافيا حيث كانت البوسطة تمخره عرضاً من بيروت إليها، والمتن في السياسات المحلية حيث كانت المنافسات محتدمة دائما، والمتن في الألفة والتضامن حيث لم تذهب بهما لا المنافسة ولا المكايدة…
وما زال شذى الصعتر البري، بزهوره ذات الحبيبات البيضاء، ووريقاته المخضوضرة ذات الزغب الناعم، وأعشاشه بين الصخور، يعبق في صدري، ويحملني حيثما شممته الى المتين وإلى ذلك الوعد بالحب الذي ما زال مفتوحاً.
كذلك ما زالت ندية في ذاكرتي صورة نوبة المتين، التي عمّمت علينا الموسيقى الشعبية فأطربتنا، ثم بنشيد الموتى فأحزنتنا كثيراً…
تحية للمتين وأهلها الطيبين، وقد استذكروني فأرجعوني الى أيام الصبا الأول، وأعادوني إلى حبي الأول، الذي بعكس الأفلام التي عرفت خواتيمها من دون أن أعرف بداياتها في سينما الفندق الكبير بغابة بولونيا قد ظل من غير خاتمة… ولذلك فإنه الأجمل بين الذكريات.
وحبي للمتين بغير خاتمة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ليس مفرداً. الحب »جمع«. مَن لا يستطع أن يتضمن أو يحتوي الآخر، وأن يكون داخل الآخر، فليس محباً ولا يمكن أن يعرف الحب. من ظل حبيبه خارجه، ومن ظل خارج حبيبه لا يعرف الحب. الحب يحتاج إلى شجاعة الاعتراف بأنك من دون حبيبك ناقص، وبه تغدو الناس جميعاً…