الصين تهدم سورها وتخرج من الكهف إلى الكومبيوتر
الخاتمة بيجين، وفي نانجين مرحلة الانتقال بين الأزمان والعقائد والأنظمة، أما في شانغهاي فالبداية التي تكرر نفسها الآن بصيغة عصرية.
يقول الدليل بلهجة فخر تنم عن اعتزازه بالانتماء إلى التجربة التي انتصرت بالأمس وتمشي نحو »انتصارها« الجديد الآن:
هنا، في بيت صغير، وبمجموعة لم يزد عددها على خمسة أفراد بينهم امرأة واحدة، بدأ ماو تسي تونغ رحلته الثورية العظمى نحو بناء الصين الجديدة. هنا في الأول من آب 1921، كانت نقطة الانطلاق بإعلان قيام الحزب الشيوعي الصينشي.
تحاول أن تسأل فيقطع عليك سؤالك قبل اكتمال نصه:
لم يكن ماو تسي تونغ قد سافر إلى الخارج، أبداً. لم يكن على الأرجح قد قرأ الماركسية. ربما كان قد سمع نتفاً عنها بعد انتصار لينين والحزب الشيوعي في إسقاط الامبراطورية الروسية وإعلان قيام الاتحاد السوفياتي. كان ماو تسي تونغ ومعنى اسمه: »الرجل الذي يحمل الماء إلى الناس في الجنوب«، قد قرأ كثيراً في كتب الفلاسفة وحكماء الصين، فنسق بعضاً من الأفكار التي تصلح ميثاقاً أو ما يشبه البرنامج وأطلق النداء لتأسيس حزب الفقراء والمظلومين والمضطهدين. كان الدكتور صن يات صن قد قاد الانتفاضة الأولى التي أسقطت الامبراطورية التي عاشت حوالى ألفي عام، فخلع آخر أباطرة أسرة مينغ، وأعلن إقامة الجمهورية بعد ثورة امتدت لثلاث سنوات 1908 1911، لكن الصينيين كانوا في أبأس حال. وليس مبالغة القول إنهم كانوا يموتون جوعاً… فلقد كانت الصين ممزقة الأرجاء، ينهش لحمها المستعمرون الكُثُر… خذ هذه المدينة مثلاً، شانغهاي، كان يتوزعها الفرنسيون والبريطانيون والأميركيون والروس وآخرون من الأجانب… لقد وجدوا مَن يبيعهم مساحات شاسعة من أرض المدينة فابتنوا فيها أحياء لجالياتهم، لذلك كان ثمة حي بُني على طراز فرنسي وآخر بريطاني وثالث روسي وهكذا. أما أبناء المدينة فكانوا أغراباً فيها؛ خيرات أرضهم وبحرهم ومينائهم ليست لهم، فالأجانب يمسكون بكل أسباب الحياة ولا يتبقّى للأهالي غير أكواخ الصفيح والجوع والإذلال اليومي، معيشياً ووطنياً.
»التفتْ من حولك، الآن، ونحن نقف في أعلى هذا البرج، الذي يُعتبر ثالث أعلى عمارة في الكون، بعد البرجين الحديثين في كوالالمبور بماليزيا، وبرج حديث زاد ارتفاعه على كل من »الامباير ستايت« وبنايتي »وورلد ترايد سنتر« في نيويورك… إن الصينيين يؤكدون أنهم لا يقلون أهلية وقدرة عن أرقى الدول في العالم«.
»شانغهاي عاصمة الانفتاح في الصين..«.
نسمع هذا التعريف فنخاف على الصين وثوراتها السابقة وعلى اشتراكيتها، فالجنوح تحت راية الانفتاح بات مألوفاً… وفي النماذج العربية فإن الانفتاح لم يكن يعني غير تسليم ثروة البلاد الوطنية ومواردها وطاقتها العاملة إلى الأجنبي بأبخس الأسعار، ثم استبدال كل ما هو صناعة وطنية بمثيلتها الأجنبية، ليس فقط لأنها أجود أو أرخص سعراً بل لأنها تحظى بحماية سياسية من الدولة المهيمنة التي ترعى الانفتاح باعتباره أقصر الطرق إلى التبعية.. للأميركان.
يعود الدليل المسطح الوجه الصغير العينين من خلال ابتسامة قصيرة سرعان ما تتحول إلى قهقهة، الى الكلام فيقول:
أترى ناطحات السحاب هذه؟! إنها تقوم على أرض شبه جزيرة كانت في السابق شبه مهجورة، ليس فيها إلا غابات من الشجر البري ومستنقعات، بحيث يتخذ منها اللصوص والخارجون على القانون ملجأ، إنها الآن أحد رموز نجاحات الثورة الثالثة في الصين.
لنفترض أن الثورة الأولى كانت بإسقاط الحاكم الامبراطوري الهزيل الذي باع أو فتح البلاد للاحتلال وللنفوذ الأجنبي، وهي تلك التي قادها صن يات صن ونجحت بإعلان الجمهورية في العام 1911. وإن الثورة الثانية، والعظمى، هي التي حققها عبر نضال طويل، وعبر قتال مجيد ضد الاحتلال الياباني، ثم عبر الحرب الأهلية التي دامت أربع سنوات، الحزبُ الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ، والتي انتصرت بأن أعلنت »جمهورية الصين الشعبية«، قبل خمسين عاماً بالتمام، في الأول من تشرين أول 1949.
أما الثورة الثالثة التي لا تقدّرونها حق قدرها فهي تلك التي باشرها في العام 1978، وبعد حقبة من الفوضى الدموية والضياع والقتل المجاني امتدت طويلاً وأهلكت ملايين الصينيين (الثورة في الثورة. أرملة ماو وعصابة الأربعة والكتاب الأحمر الخ)… باشرها عبر الإصلاح من قلب الحزب الشيوعي وبقيادته دائماً، هسياو بنغ، والتي نسميها الانفتاح على العالم. كانت الصين معزولة، بل هي عزلت نفسها لزمن طويل، بل أطول مما يجوز. فأما عزلتها في زمن الامبراطورية فلم تحمها من الاحتلال الأجنبي، بل جاء عليها وقت كانت معظم مناطقها تخضع للاحتلال إذ تقاسمتها سبع دول أجنبية… وأما عزلتها في بدايات عصر الثورة الاشتراكية، فهي على ضرورتها من أجل ترسيخ النظام وتأمين الحماية وتأكيد مبدأ الاعتماد على الذات في إعادة البناء ومحاولة اللحاق بالعصر، فهي قد حققت نجاحاً سياسياً بارزاً، لكنها ويجب أن نعترف قد فشلت في المجال الاقتصادي. لم نكن ندري شيئاً عما يحدث خارج حدودنا. كان العالم يتقدم بخطوات واسعة، مستفيداً من ثورات علمية متكررة، وكنا نواصل اعتمادنا على النصوص الجامدة والتي أثبتت أنها متخلفة أو غير مؤهلة لأن تستوعب منطق الطور الرأسمالي الجديد، خصوصاً في ظل ثورة الاتصالات والمواصلات التي حوّلت الكرة الأرضية إلى قرية كونية صغيرة.
نفث الدليل المدرب دخان لفافته، مهوّناً من شأن اللافتة الصغيرة التي تقول بمنع التدخين، ثم أضاف:
كان علينا أن نهدم بأيدينا سور الصين العظيم الذي بناه الأباطرة بأجساد الصينيين لحماية عرشهم، وأن نخرج إلى الدنيا لنعرف ما يجري فيها ولنتعرّف إليها… وأخذتنا الدهشة، وبدونا كأهل الكهف! يا لضيعة العمر الذي قضيناه متقوقعين على أنفسنا، نخاف أن نطل على الدنيا، أو نستصغر شأن الآخرين مستعظمين شأننا بسبب من عددنا الهائل، (أكثر من مليار ومئتي مليون)، والذي اضطرنا منذ الستينيات إلى اتخاذ قرارات غير إنسانية بتحديد النسل، فلا يكون للأسرة إلا ولد واحد، إذا جاء المولود الأول صبياً، أو ولدان إن كان المولود الأول بنتاً… وهذا ما جعل كثيرا من الصينيين، لا سيما في الأرياف، يلجأون إلى وأد البنات لعلهم، بعد »ترحيلهن«، يُرزقون بالبنين، ولو واحداً لكل أسرة!
خلال مناقشة مع مسؤول كبير في الحزب الشيوعي قال إنه اضطر في حوار مع بعض الأميركيين حول غياب العدالة عن قرار تحديد النسل في الصين، لأن يقول له بشيء من الحدة: لو تركنا النسل حراً لكانت الزيادة المتوقعة في السنة ثلاثين مليوناً، أي لكنا أنجبنا في عشر سنوات ما يزيد على سكان الولايات المتحدة الأميركية… فأُفحم وسكت!!).
نعود إلى دليلنا في شانغهاي، وإلى شرحه المنطقي لسياسة الانفتاح… قال وهو يعزز كلامه بالأرقام، الآن:
هذه المنطقة التي تكاد لا تُرى أرضها الآن بسبب من ناطحات السحاب والشوارع والجسور الحديثة والحدائق وبنايات السكن المريح، كانت، كما سبق ان ذكرت لك، مستنقعات وغابات وأكواخا من الصفيح. هل تعرف ماذا فيها الآن؟!
إن حجم الاستثمارات الأجنبية فيها يناهز ثلاثين مليار دولار أميركي. وبين سنة 1990، بل قل 1994 ويومنا هذا أُنشئت فيها أكثر من 5700 شركة مختلطة (جوين فانشر)، وفيها فروع ل33 من كبريات البنوك العالمية.
ستسألني عن الشركات المختلطة. إنها رساميل أجنبية تأتي بحثاً عن الربح. نعم، هذا صحيح. وهي معنا تربح ربما بمعدلات عالية. هذا أيضاً صحيح. لكننا بحاجة إليها. إننا نشتري منها العلم. نشتري التكنولوجيا الحديثة. في البداية عرضنا على شركة تويوتا أن تجيء، طلبت إعداد البنية التحتية للمشروع وقدّرت الزمن اللازم للتأهيل بثلاثة شهور. أنجزنا العمل في شهر ونصف شهر. تدللتْ وأخذت تزيد من شروطها فانصرفنا عنها. ذهبنا إلى فولكس فاكن في ألمانيا، وافقوا، بنوا المصنع. في البداية كنا نستورد حتى البراغي من الشركة الأم. الآن نحن نصنِّع هنا، وبأيد صينية، اكتسبت الخبرة من عملها، حوالى 96$ من القطع اللازمة لصنع السيارات. بعدها جاءت جنرال موتورز من أميركا (نصنّع الآن، هنا سيارة بويك، وجيب شيروكي). وجاءت من فرنسا سيتروين، ومن اليابان هوندا، والبقية سوف تأتي. النجاح مغر ومدرار. عندنا سيمنز، وعندنا موتورولا، وعندنا بوش، وعندنا سوزوكي. أهم نسبة من الاستثمارات جاءت من هونغ كونغ… بعدها تأتي الولايات المتحدة ثم اليابان فسنغافورة وبريطانيا وتايوان و…
لقد عدّلنا القوانين بحسب الأصول: اللجنة المركزية، المكتب السياسي للحزب الشيوعي، مجلس الشعب (أربعة آلاف عضو)… احتدم النقاش طويلاً، ثم حسمته الوقائع: لا بد لنا من التكنولوجيا. لا بد من شراء المعرفة، لا بد من اكتساب الخبرة… ثم لا بد من حماية الاشتراكية. وهكذا تمّ التحوّل بطريقة مدروسة جداً وعلمية جداً وعملية جداً.
لا شراكة تنشأ إلا بقرار، توافق عليه الهيئات القيادية في الحزب. ولا شركة إلا ولنا، نحن الصين، أي الحكومة أو المؤسسات والشركات الحكومية الصينية، 51$ من أسهمها على الأقل.
نعم، لقد قدمنا لهم بعض الإغراءات، وتساهلنا في بعض الشروط، ولكن دائماً كدولة، وبقرار، وليس نتيجة لرشوة أو لارتكاب.
استدرك محدثي فقال: الآن سمعت في الأخبار عن إقالة بعض أعضاء اللجنة المركزية وطردهم منها، بسبب الفساد. ومن قبل طُرد أعضاء آخرون في الحكومة المحلية للعاصمة بيجين من اللجنة المركزية للحزب وحوكموا وسُجنوا بتهمة الفساد.
إن لنا في هذه المدينة تحديداً تجربة غنية مع الأجانب، وهي تجربة لا تُنسى. ربما لهذا، بين أسباب كثيرة أخرى، بينها ثبات العقيدة والإيمان بأن الاشتراكية ضرورة حياتية لشعب هائل العدد مثل شعبنا، وشرط من شروط توفير حقوق الإنسان، لا نخاف الأجنبي، لا بشخصه ولا بماله.
إن ما يُبنى هنا سيبقى لنا. ربما سيربحون أكثر مما يجب. لكنه قانون العصر، لا أحد يأتي ليستثمر ماله متبرعاً أو تحت راية عمل الخير. هم يكسبون مالاً ونحن نكسب ما ينقصنا: التكنولوجيا، العلم، الخبرة. إننا نصنّع الآن الكومبيوتر، ومعظم مؤسساتنا دخلها الكومبيوتر.
ليس سهلاً ابتلاع الصين. إنها أكبر وأقوى وأمنع من أن تضيع في زحمة الصراع داخل الرأسمالية المتوحشة.
أجيالنا الجديدة؟! نعم قد تجد بعض فتيتنا معجبين بطريقة الحياة الأميركية وبعض »صرعاتها« في اللباس والمأكل والموسيقى والرقص.. لكن مجتمعنا شديد التماسك، والأسرة شبه مقدسة، ونحن نحترم تاريخنا وتراثنا الثقافي العظيم.
قد لا تصدق، لكن السنوات الأخيرة شهدت ما يمكن اعتباره هجرة معاكسة. لقد عاد الألوف من الطلاب والشبان الصينيين الذين كانوا قد هاجروا فاستقروا في الولايات المتحدة. كانت روح المغامرة قد أخذت بعضهم إلى المهاجر، ثم تبيّنوا بعد نجاح سياسة الانفتاح أن فرص الربح متوفرة هنا أكثر، فعادوا ليربحوا وليس فقط بدواع وطنية. ولقد رحبنا بهم، لكننا لم نتساهل أبداً في الضرائب على سياراتهم ومنقولاتهم.
لقد هدمنا السور. إننا نكتشف العالم الجديد، ولن نضيع فيه. لقد انتهى زمان الضياع، وها هي التجربة السوفياتية تهدينا: لا يكون الإصلاح بالهجرة من عقيدة إلى عقيدة، بل بمراجعة التجربة وتعويض النقص فيها. إذا لم تكن الحلول الماركسية ناجعة في حل الأزمة الاقتصادية فلا مانع من أن نعدّل فيها ونطوّرها بحيث تغدو عصرية. هذا تصحيح وليس هجرة إلى عالم الليبرالية المتوحشة.
وللحديث صلة.
تهويمات
} في السهرة الأولى تبدّت جميلة وبعيدة.
في السهرة الثانية قرّبتها الخمرة وزادتها سحراً.
في السهرة الثالثة بادأته الهجوم فداخله شيء من الخوف. ولأن الخوف يفتح العينين فقد رآها وقرأ على وجهها حكايات العابرين.
في السهرة الرابعة كانت تروي لمن جاء بعده حكايته التي لم تكتمل.
ذات عصر التقيا. لم يكن لهما من الليل ثالث، ولم يكن لها من الخمرة نصير، فقررا أنهما غريبان ومن الصعب أن يدخلا الحكاية.
} هتفت له صباحاً: أحبك.
هتفت له ليلاً: ضجرت من حبك.
في اليوم التالي كان الصمت يحدّث نفسه فيقول: مَن يتكلمْ كثيراً فلن يتّسع وقته للحب. أنا زمن المحبين ولغتهم. تعالوا إليَّ أجعلْكم تسمعون كل ما لا يُقال.
} كتب إليها يقول: في بلاد ما وراء النهر يتخذون من التنين وطائر الفينيق شعاراً للقوة والمنعة والحياة التي لا موت بعدها. جميل أن يُرمز إلى الحب باستحالتين تتقاربان حتى التفاني، وتصنعان من تباعدهما الأبدي الخلود المنشود.
من الصعب أن يربط الحب بين طائر خرافته رقيقة كما الشعر، وبين حيوان أسطوري تتكاثر رؤوسه ولا مكان في امتداده ذي المخالب لقلب بحجم قبضة اليد!
} في المصعد الذي كان يرقى به إلى حافة السماء سمع همساً يشبه وجهها. خاف أن يلتفت فيصاب بالدوار، وخاف أن يغمض عينيه فتأخذه إلى النوم.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ليس المحب بلا ذاكرة، لكن الحب غفور رحيم. إنه لا يحاسب حبيبه على كل خطأ أو هفوة، لأنه يدرك بقلبه أن القصد يتخطى الإساءة. الحب أعظم من أن يُضعفه أو ينال منه أو يهدمه غلط أو سوء تفسير. عامل حبيبك بقلبك. قلبك أغنى من عقلك. أترك عقلك لعملك وللآخرين، أما حبيبك فجنتك، وفي الجنة لا تحتاج الى كثيرمن العقل.
طلال سلمان