في انتظار شمس 14 نيسان
اليوم أحد، والطقس صحو، وشمس نيسان تنشر الدفء، ونسمات ربيعية تلاعب وريقات الشجر التي تحتضن حبيبات الثمار المخبوءة بين حناياها، هو الوقت المثالي لكي يصحب الأهل أطفالهم في نزهة تخرج بهم إلى أفياء الطبيعة في القرى الجبلية القريبة.
لم يسمع رب الأسرة، ولا أي فرد منها، دويّ الرصاص الذي سيفتح أبواب جهنم في الوطن الصغير الذي سيصير، فجأة، مركز الكون. وحدهم سكان ذلك الشارع الفرعي وغير المطروق إلا للهاربين من ازدحام الشوارع بسياراتها المتنوعة الأصناف والأشكال، طولاً وعرضا، سمعوا الدويّ، فلم يهتموا كثيرا، ولعل بعضهم قد هزوا أكتافهم بشيء من التبرم بالفوضى المسلحة التي كثيرا ما تستولد إشكالات تتفجر اشتباكاً، سرعان ما توقفه المداخلات السياسية.
عند العودة إلى بيروت، مع الغروب، كان الاشتباك قد صار «خبراً» للصفحات الأولى من الصحف، خصوصاً وقد تكاملت عناصر تحوله إلى «حدث جلل»: «فالبوسطة» تقل مجموعات من مقاتلي بعض المنظمات الفلسطينية المسلحة الذين كانوا قد استقروا في بيروت بديلاً من تجشم عناء المرابطة على الجبهة عند خط الحدود مع فلسطين، و«الشارع» ليس «صديقاً» وليس مقفلاً بل هو مفتوح على العواصم البعيدة حيث كانت السياسة قد فتحت نفقاً عميقاً لدفن ذكريات حرب العبور (1973) تمهيداً لاستيلاد «عصر سلام الأوهام» بانتقال مصر السادات إلى الضفة الأخرى.
[[[
في الصباح التالي كان المشهد يتكامل منذراً بمخاطر غير محدودة على لبنان وعلى الفلسطينيين فيه، بل على قدسية القضية الفلسطينية التي كانت أولى ضحايا الاشتباك في ذلك الحي السكني من ضواحي بيروت الشرقية: عين الرمانة.
كان منزلي يقع على الضفة المقابلة: شارع أسعد الأسعد في الشياح. ولقد خطر ببالي، بداهة، أن أقصد منزل الزميل الذي سيغدو أديباً عالمياً: أمين معلوف، الذي كان يقيم على مبعدة مئات الأمتار من نقطة التقاطع، لكن بعض الفتية الذين كانوا قد احتلوا نواصي الشوارع، زجروني بلطف، طالبين أن أعود من حيث أتيت، فقررت أن أكتفي باتصال هاتفي كي أطمئن عليه وعلى عروسه، وقد كانا بعد «في العسل»… وعلقت غصة في حنجرتي وأنا أتبين أن مسافة البعد ستتزايد اتساعاً بين العين والعين في الوجه الواحد.
[[[
بعد أيام، صار لزاماً عليّ أن أختار «طريقا آمنا» إلى بيتي، بحيث لا يلمحني قناص ولا يشتبه بي من تمترس في مكمن لحراسة الحي السكني الذي يزدحم فيه موظفون وتجار صغار وأصحاب مهن حرة، تماماً مثل أولئك الذين يسكنون في امتداده الذي يتميز عنه بشيء من النظافة والانضباط المديني.
وبسحر ساحر انتشر السلاح على الضفتين، مثيراً شبق الفتية الذين كانت تبهرهم ملصقات «الشهيد البطل» التي كانت تغطي واجهات المحال التجارية وأعمدة الكهرباء والهاتف، واللافتات المخلدة ذكرى هذه المعركة أو تلك من العمليات الفدائية على تخوم الأرض الفلسطينية المحتلة، والتي كثيرا ما تكون خسائرها في القرى الحدودية في جنوب لبنان أفدح بما لا يقاس من إضرارها بالعدو الاسرائيلي.
وبعد شهر، كان عليّ أن أحمل عائلتي إلى بيت صيفي كنا نستأجره في كيفون، خوفاً على الأطفال، وحماية لما كنا أنشأناهم عليه، والدتهم وأنا، من حب للوطن وإيمان بقداسة فلسطين، أرضاً وقضية وحقوقاً لشعبها المظلوم.
^^حرب تتجاوز لبنان إلى الصلح المنفرد
الآن، ومن على مبعدة خمس وثلاثين سنة، بات سهلاً إصدار الأحكام ملطخة بالغرض، أو مدموغة بمنطق النتائج التي أزعم أن أحداً لم يكن بوسعه ان يصل في استخلاصها من وقائع البدايات، تمهيداً للادعاء أنه كان يعرف النهايات وأن أحكامه كانت صحيحة.
كان التبسيط الذي شمل الأطراف جميعاً خاطئاً كما القتل الجماعي الذي أدى إليه، كمثل القول: ان كل العرب، لا سيما أهل النظام العربي، كانوا مع الثورة الفلسطينية، ولا يعادل تأييدهم لها إلا حرصهم على لبنان، دولة بنظامها المعتل وشعبه المنقسم على ذاته.
لكن العرب لم يكونوا موحدين مطلقاً، بل ان الانشقاق الذي ضرب مشهد توحدهم في حرب تشرين ـ رمضان ـ العبور 1973 قد بعثرهم جبهات متواجهة: كان السادات قد تخلى عن رفاق سلاحه السوريين وسائر من شارك في المجهود الحربي والذين لولاهم لما نجح الجيش المصري في إنجاز عمليته البطولية، عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف، فذهب في طريق الصلح المنفرد مجتاحاً شركاءه الذين دفعوا غالياً ثمن القرار الشجاع بأن يكون لهم ـ لمرة ـ شرف فتح الجبهة مع العدو الذي طالما فرض عليهم، من قبل، زمان الحرب ومكانها، وباغتهم بها فهزمهم مجتمعين شكلاً بينما الفرقة تشتت جمعهم وتجعل بعضهم في مواجهة البعض الآخر.
ولسوف تتردد أصداء التصريح الشهير لأنور السادات، حول أحداث لبنان، في تلك الأثناء: «سيغرق لبنان في بحيرة من الدماء»… وان تردد كثيرون في الربط بين مباحثاته من أجل صلح منفرد مع العدو الاسرائيلي و«الحرب الأهلية» في لبنان التي ستتسع لتشمل دول الأرض جميعاً، من أدنى الشرق إلى أقصى الغرب.
.. وإشعال الحرب الأهلية سهل نسبياً في لبنان، عن طريق تحويل مزاياه إلى أسباب للتفجير: بسرعة يمكن تحوّل الأحزاب إلى طوائف، والمناطق إلى كانتونات، وتهجير «الأقليات» بتخويفها من الكثرة… وهكذا تصير فلسطين «قضية إسلامية»، ويصير المسيحيون خصوماً، وتُستعاد «تقاليد» المناطق صافية اللون الطائفي بعد طرد «الآخرين» الذين يتحولون، بمثل السحر، إلى «أعداء» أولى بالقتال من العدو الأصلي: الإسرائيلي.
الآن، ومن على بعد كاف يتيح رؤية أوضح يمكن الربط ـ بغير قسر ـ بين بوسطة عين الرمانة في ربيع 1975 والاجتياح الاسرائيلي للبنان وصولاً إلى عاصمته بيروت التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء في مطلع صيف 1982، وفك الاشتباك بين مصر السادات واسرائيل الذي سيتحول استسلاماً مع «زيارته»، التي لا يمكن وصفها بأقل من «الخيانة»، إلى القدس المحتلة في العام 1977، تمهيداً لأن يتكرس «الصلح» منفرداً خرج به النظام المصري من ميدان القضية الفلسطينية نهائياً.
والآن، ومن على هذا البعد، يمكن استذكار كلام صريح لرئيس حزب الكتائب قال فيه إن ميليشيا حزبه بدأت تدريباتها الجدية على السلاح، واستحضرت كميات كبيرة منه في العام 1968، قبل دخول أي «فدائي فلسطيني» إلى لبنان، وقبل أول صدام دموي بين الجمهور المتعاطف مع الثورة الفلسطينية وقوى الأمن اللبنانية في 23 نيسان 1969، وهو الاشتباك الذي مهد لاتفاق القاهرة، بين السلطة اللبنانية والثورة الفلسطينية، برعاية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في خريف ذلك العام.
[[[
بعد أربعة شهور من الصدام الدموي بين مقاتلين فلسطينيين كانوا عائدين من احتفال في مخيمي صبرا وشاتيلا وجمهور غاضب لمشهد المسلحين وهم يعبرون حيه في عين الرمانة بالسلاح، ستكون «الهدنة الأولى»، التي سيرى فيها المرحوم الرئيس رشيد كرامي نهاية الحرب، غافلاً عن الأبعاد العربية ـ الاسرائيلية لذلك الاشتباك وموقعه في الصراع العربي ـ الاسرائيلي.
لكن الاشتباك سيتجدد في خريف ذلك العام وسيعنف وتتمدد جبهاته، ساحلاً وجبلاً، شاطراً بيروت بل لبنان كله، بحواجز من الدم والنار حتى يجيء القرار العربي بدخول قوات الردع العربية للفصل بين المحتربين في لبنان، أواخر العام 1976… لكن هذه المحطة لم تكن النهاية بل ستجد الحرب الأخرى ميدانها فوق الأرض اللبنانية حتى إخراج الثورة الفلسطينية من لبنان في صيف العام 1982.
بعدها ستنشب حروب أخرى، وستنفتح جبهات جديدة ضد «قوات الردع العربية» التي سرعان ما سوف تصير سورية خالصة… ولسوف يظل الطابع الطائفي هو السائد، وإن كانت صورة «الضحية» ستلحق بالمسيحيين أساساً عبر تنظيماتهم التي ستلحق بها دائماً شبهة العلاقة بإسرائيل.
^^^ حرب على الحاضر والغد العربي
أين كان يتلطى كل ذلك العنف في نفوس اللبنانيين الذي تفجر حرباً مدمرة أضاعت وطنهم الجميل، وأضاعت معه قداسة القضية الفلسطينية وثورة شعبها المظلوم، ووفرت لإسرائيل الفرصة لانتصار تاريخي يتجاوز النتائج العسكرية لحروبها، إلى تحقيق ما لم تكن تحلم به من انتزاع الاعتراف بشرعية وجودها، ثم الإقرار بدورها القيادي في هذه المنطقة التي أفقدت هويتها العربية وبات لها اسم جغرافي يتصل بالغير، وليس بأهلها: «الشرق الأوسط»؟!
إن مراجعة هادئة للأحداث التي انطلقت شرارتها في «حادث البوسطة في عين الرمانة» يكشف مقدار السذاجة التي تعامل بها اللبنانيون والفلسطينيون مع تلك المحطة التي سيقدر لها أن تكون فاصلة في سياق الحرب العربية ـ الاسرائيلية، اذ ستنقل ميدان هذه الحرب إلى الصف العربي الذي ستشتبك أطرافه في حروب تدمر الهوية وروابط الأخوة وأصل القضية.
وبين أبسط ما تكشفه النتائج ان الانتصار الاسرائيلي لا يكون إلا بهزيمة عربية داخلية. لقد ضيعت الحروب الأهلية العربية الحاضر العربي والغد العربي.
فأول الحروب الأهلية، التي تحولت حرباً على القضية الفلسطينية، بدأت في المهد الطبيعي للثورة الفلسطينية، الأردن، حيث أكثرية المطرودين من وطنهم ـ رافضي الوطن البديل، والمصممين على العودة بالثورة الى ديارهم، متخذين من مقار إقامتهم قواعد خلفية.
أما أخطر الحروب الأهلية التي رمت بدمائها العرب جميعاً فهي تلك التي تفجرت في لبنان فدمرته ودمرت معه الثورة الفلسطينية والتضامن العربي ومهدت للاجتياح الاسرائيلي، ومكّنته من احتلال أول عاصمة عربية في صيف العام 1982، ومن ارتكاب واحدة من أبشع المجازر الجماعية في مخيمي صبرا وشاتيلا لم يحاسبه عليها أحد.
.. والأخطر: أن المنطقة فقدت هويتها الجامعة، وغرقت في مستنقع الطائفيات والمذهبيات المقتتلة التي ستبرر الانقسام ثم المواجهات بالسلاح أو بالموقف السياسي بين من كانوا أو يفترض أن يكونوا شركاء مصير.
ذلك أن لبنان الصغير يتسع للعرب جميعا، وللعالم جميعا، بما فيه اسرائيل. وهكذا فإن الحرب الأهلية فيه هي بالضرورة حرب أهلية عربية… ولقد ظلت كذلك بعد خروج الثورة الفلسطينيةأو إخراجها منه. بل لعلها عبر الاحتلال الاسرائيلي لبيروت وتحكم إسرائيل باختيار رئيس الجمهورية في ثكنة الفياضية بينما الدبابات الاسرائيلية تحاصرها، ثم في اختيار الرئيس الثاني بعد اغتيال شقيقه، وفي الثكنة نفسها، كان إعلاناً بهزيمة عربية شاملة ستكون المدخل إلى مسلسل من الحروب الأهلية في لبنان، اندفع الى المشاركة فيها، بذريعة الدفاع عن النفس أو للانتقام من الأشقاء ـ الأعداء، جميع العرب تقريباً، بالمال والسلاح والرجال أحياناً، وقد توفر لهم المسرح الأممي المثالي: لبنان.
صار لبنان نبع الحروب الأهلية العربية، متفجرة أو صامتة، يحاول أبطالها تمويه أسبابها السياسية وانحرافاتها إلى مصالحة إسرائيل بالكيانية المصفحة بالطائفية أو المذهبية.
^^^^ النسيان أكثر من جريمة
خمس وثلاثون سنة: رحلت أجيال عن دنيانا، وكبر الأطفال الذين ولدوا في 13 نيسان سنة 1975 وبعد ذلك، فصاروا آباء وأمهات. وتبدل العالم كله، سقط الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي العظيم، أغلق كل نظام عربي الأبواب على نفسه بعدما أخرجت مصر نفسها من الصراع وتقوقعت داخل صدفتها تحاصر إسرائيل قرارها وتمنعها من دورها الطبيعي الذي يعطيها قيمتها ودورها. وسقطت الثورة الفلسطينية صريعة عجز قيادتها التي تحولت إلى نظام عربي مسترهن، فارتضت اتفاقاً يعيد نعوش راياتها وشعاراتها وأهدافها المقدسة لتدفن في أرض الوطن التي تذوب تدريجاً في المستوطنات الإسرائيلية.
أما لبنان فقد غرق في المستنقع الطائفي الذي ستوسعه الخلافات السياسية وتمده إلى المنطقة جميعاً، وستنشأ تحالفات جديدة كما سيتم استيلاد خطر جديد عبر اختراع «الهلال الشيعي» من أجل حرب أهلية عربية بامتداد هذا الوطن الكبير الذي كان يؤمل أن يصير واحداً فصار أشتاتاً وطوائف ومذاهب وعناصر مقتتلة.
النسيان أكثر من جريمة: إنه خطأ سياسي قاتل… سواء على مستوى لبنان وشعبه الذي اختلطت عليه الأمور فتعددت أدواره بين ضحية وجانٍ، بين غافل أو مستغفل، بين صاحب قضية ومتسبب في إضاعة قضية تجاهلت قيادتها قداستها وخطورتها وتعاملت معها بما لا يتناسب مع مستواها فصارت «قضايا» انفرد كل طرف ببعضها، واستحال الترميم، فكيف باستعادة وحدتها.
لا حساب: فمن أين يأتي الغفران؟
… ومن أين سوف يأتي مستقبل الأمان لأولئك الأجيال الذين نشأوا في أحضان الكراهية والأحقاد والخوف من الأخ الشقيق وإسقاط العداوة عن العدو الذي كان وبقي وسيبقى العدو الأول والأخير، لهذه الأمة جميعاً، اليوم وغداً كما كان بالأمس.
لنأمل أن تشرق شمس 14 نيسان… ذات يوم!
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا يكتفي حبيبك بأن تقول له إنك تراه بقلبك..
الحب هو مجموع تلك التصرفات البسيطة: الكلمة، اللمسة، الهمسة، اللفتة، التنبه إلى المواعيد التي لا يجوز أن تنسى.
حبيبي هو قصيدتي… فمعه تعلمت الشعر.