عن الشيخ عبد القادر القباني وجريدته الرائدة »ثمرات الفنون«
أسعدني أنني وجدت أخيراً من اهتم فأعاد الى دائرة الضوء أحد رواد الصحافة العربية في لبنان، بل أحد رواد التنوير علماً واجتماعاً ودعوة، وهو الشيخ عبد القادر قباني.
في ليلة واحدة قرأت معظم فصول الدراسة التي أعدتها إيمان محي الدين المناصفي بإشراف الدكتور هشام نشابة، وأصدرتها دار العلم للملايين في بيروت، لتشوقي الى معرفة كل ما يتصل بهذا الشيخ الجليل الذي استطاع النهوض بدور عظيم في زمن العتمة: إذ إنه غامر بتحمل المسؤولية عن إصدار واحدة من الصحف العربية الأولى في بيروت، تحت اسم »ثمرات الفنون« ـ العدد الأول يحمل تاريخ 20 نيسان ,,1875. كما كان بين تلك المجموعة القليلة التي عملت لإسقاط حجاب الجهل والأمية فسعت حتى حالفها التوفيق فأنشأت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وقد شرف برئاستها.
أفدت من المقدمة أن الشيخ عبد القادر قباني (1848 ـ 1935) قد شهد الحقبة الأخيرة من تاريخ الدولة العثمانية، كما عاصر كبار رجال الإصلاح كجمال الدين الإفغاني والشيخ محمد عبده بدوره المهم في النهضة الإسلامية في لبنان وبلاد الشام.
في تلك الحقبة كانت قد انتشرت المدارس والإرساليات، في حين »كان المسلمون يعيشون في غفلة عن ذلك«.. وبدأ نشاط القباني على الصعيد الصحافي والتربوي فانخرط في »جمعية الفنون الإسلامية« التي أسسها سعد الدين حمادة، وهي التي أصدرت »ثروات الفنون« ثم تنازل له المساهمون عن أسهمهم فيها، فتولى مسؤوليتها بالكامل في زمن الشح.. وكانت ثاني صحيفة إسلامية بعد »الجوائب« التي كانت تصدر في الاستانة.
تذكر إيمان محي الدين المناصفي في كتابها أنه لم يكن للصحافة مكان في لبنان قبل ،1864 ولا في أي مكان خاضع للسلطنة. وفي العام 1865 أصدر السلطان عبد العزيز قانوناً للصحافة وأعلن تأسيس مكتب للرقابة وتنفيذ القانون. وصدرت صحف »المقتطف« و»البشير« ثم »ثمرات الفنون«. وبعد اعتلاء السلطان عبد الحميد الثاني العرش وإعلان الدستور في 1876 صدر قانون للمطبوعات يطلق الحرية في دائرة القانون، مع إلزام كل جريدة أو نشرة بأن يكون لها مدير مسؤول، وفرض على صاحب امتياز الجريدة أن يؤدي على وجه التأمين خمسمئة ذهباً في دار السلطنة، ومئة في الولايات…
لكن نعمة الحرية لم ترفرف طويلا، إذ بعد سنة واحدة أعلنت الإدارة العرفية وقف العمل بالقوانين.
فأما افتتاحية العدد الأول فقد استهلها الشيخ عبد القادر القباني بالدعاء للسلطات والحكومة ثم أضاف: »وقد استدعيت من ملجأ في ولاية سورية البهية لإنهاء الى نظارة المعارف الزهية بطلب الرخصة الرسمية، فحصل ذلك وحضر الأمر من الاستانة«.
وكان الشيخ قد أنشأ مطبعة 1874 جلب معداتها من لندن… وبعد إقفال الجريدة آل أمر المطبعة الى يوسف صادر الذي اشتراها وأضافها الى مطبعته العلمية.
ولقد عانى الشيخ القباني الأمرّين من الوضع المالي للجريدة التي لم يكن بإمكانها أن تغطي تكاليفها من مردود البيع والاشتراكات، خصوصا أن المشتركين »لا يدفعون، كأنما الجريدة تطبع بماء الغمام على صحف الهواء، لا بمواد وورق بثمن يدفع سلفاً الى معامل أوروبا، فضلا عن تعب تحريرها وأجرة طبعها وكلفة إرسالها…«.
في البداية كانت »ثمرات الفنون« تصدر الثلاثاء من كل أسبوع، ثم صار يوم الخميس، وذلك لظروف من جملتها البرد… ثم صارت تصدر كل اثنين وخميس.. وبعد حين عادت لتصدر مرة واحدة في الأسبوع.
وقد استمرت هذه الصحيفة في الصدور من 8 نيسان 1875 وحتى 2 ت2 ،1908 وتضمنت مجموعتها 1686 عددا، لا سيما أنها توقفت مرات عدة عن الصدور لأسباب مادية.
وبين ما كتب الشيخ: »ما استعمر الأوروبيون قرية أو بلدة إلا واستبدلوا أخلاق أهلها واستنزفوا ثرواتهم، إن لم نقل دماءهم، وارتكبوا فيها أنواعا من الفظائع المنكرة«.
وقد عالجت »ثمرات الفنون« موضوع المرأة وحقوقها وواجب تعليمها.. وكان ذلك مطروحا منذ أيام رفاعة الطهطاوي والمعلم بطرس البستاني.. كذلك دعت الى إنشاء المدارس، ونشرت الأخبار عن الجديد منها، فذكرت افتتاح المدرسة الحميدية في عكار ،1893 والمدرسة السلطانية في بيروت ،1908 وقانون دار الفنون السلطانية… كما نشرات العديد من الموضوعات عن الاقتصاد والتقدم العلمي والتاريخ الإسلامي (العثماني فقط)، ودعت الى الإصلاح السياسي والجامعة الإسلامية، متلاقية مع جمال الدين الأفغاني، والى الإصلاح الإداري، والإصلاح الاجتماعي والتربوي.
وكان بين أبرز كتّابها: الإمام محمد عبده من مصر، الأديب محمد نور الكيلاني من حماه، ومن كتاب الأدب الشيخ إبراهيم الأحدب (وهو من أركان النهضة العلمية)، الحاج حسين بيهم، رئيس الجمعية العلمية السورية، الشيخ مصطفى الرافعي، الشيخ مصطفى الغلاييني، أسعد داغر، الشيخ عبد الباسط فتح الله، عبد الوهاب التنير، وفؤاد شهاب.
وقد اهتم الشيخ القباني بالتربية والتعليم لما لهما من أثر في النهضة والإصلاح الأخلاقي والمدني فأصدر كتاب »الهجاء لتعليم الأطفال«.. وهو يتألف من أربع وستين صفحة ويخلو من أي مقدمة أو أي تقسيم منهجي.
مما يستوقف في محفوظات هذا الشيخ، الذي عهدت اليه من بعد رئاسة بلدية بيروت، أنه بعث برسالة الى السيدة عنبرة سلام إثر قراءته كتابات لها في مجلة »الكشاف«، تحدثت فيها عن رحلتها الى بلاد الانكليز وتظهر إعجابها بالمدنية التي توصلوا اليها من خلال العمل المنظم والتهذيب الراقي والصحافة المتطورة، كما تناولت الحديث عن الفتاة الإنكيلزية، والعائلة الانكليزية.. (ومقالات السيدة عنبرة خمس وان كان الشيخ يرد على مقالتها بعنوان »شرقية في إنكلترا«). يقول الشيخ في رسالته: »لعل الله، يا حضرة الفاضلة قد ادّخر هذه الفضيلة، فضيلة ظفر الأمة المرحومة بالضالة المنشودة الى أمثالك الذين يطلبون القيام بخدمة نهضة الأمة عن طريق العمل والفكر… ولكن، ولا بد بالطبع من ولكن..
»… وقد حالت العاطفة المدرسية بينك وبين تتبع البحث لكشف حقائق تدلنا على أن الانكليزي هو تبع لأغراضه، شبح وطنه الاقتصادي والسياسي… وسعادة البلاد وشقاؤهما هما تبع لأبنائها فالإنسان هو العامل الرئيسي. والبلاد بفضائلها ورذائلها ومناضرها ومعائبها عائدة لعمل الإنسان«.
عن صحافي كل العرب: صلاح حافظ
عندما انتبه الى أنها الثالثة صباحاً وقف منهياً ساعات السمر وهو يقول ضاحكا: لعلهم قد اعتقلوا الفجر ايضاً ضمن حملتهم لمصادرة كل ما هو مضيء ـ كالأفكار والأحلام وحتى النكات التي نستخدمها كمسكنات..
ودّع الجميع معتذراً بالميعاد المبكر لطائرته، ثم سحبني من يدي نحو المصعد… قال وعيناه تشعان ابتساماً: عدني بنعي لائق! أعرف أن »الهلافيت« الذين لا يطيقون وجودي معهم حياً لن يحزنوا لرحيلي، وسيكتبون ما يعبر عن سعادتهم لاختفائي..
قلت مندفعاً مع سخريته: ليكن الوعد متبادلاً..
اكتسى وجه صلاح الدين حافظ ملامح جدية وهو يقول: أعرف أن مقامي لن يطول! إنه ينهش صدري! والمعركة غير متكافئة كما تعرف. لست أملك غير إرادتي وإيماني، وأخبث ما في السرطان أنه يستمر في التهامك برغم العلاج! ولقد قرأت مصيري في آخر رحلات العلاج.
حاولت أن أكسر الجو باستذكار بعض تشنيعاته عن السرطان، وقد شبهه مرارا بإسرائيل: إذا كان أمكن لـ »حزب الله« أن يهزمها، فإن الله معك وهو قادر على نصرتك عليه..
قال بهدوء: عند الله مهام أخرى… أما النعي فعليك!
عانقني مجدداً، ثم اختفى في المصعد بسرعة حتى لا ألمح دموعه!
ظللت على عادتي: أتفقده بين حين وآخر، وأطمئن حين يصلنا مقال جديد له والكلمات فيه تشع بإرادة المقاومة ورفض الاستسلام للأمر الواقع، في فلسطين كما في العراق، وفي لبنان كما في مصر، وفي اليمن كما في موريتانيا في أقصى المغرب.
ذات يوم دهمني خبر المأساة التي ألمّت بصلاح الدين حافظ: لقد فقد نجله إيهاب الذي قتله سائق أرعن!
لم أجد كلمات تستطيع حمل عاطفتي… كنت أحس أنني أكتب نعيا مزدوجاً بذوب روحي.
[[[
من زمان خسرت الصحافة المصرية وهجها. بقيت فيها بضع جزر متوهجة بأمل قد يكون مكابراً، لكنه كان يحمي شرف الكلمة وشرف الصحافة في مصر، وقد تتلمذنا عليها وأخذنا منها، ثم أنكرتنا وأنكرناها.
صلاح الدين حافظ كان منارة تشع في قلب الاستكانة والخمود والتنكر للتاريخ النضالي العظيم لشعب مصر ولصحافة مصر. وكان كلما فاض به اليأس ذهب ـ مثلنا ـ الى تلك القلعة الحصينة: محمد حسنين هيكل، فعاد منها أكثر عزماً على المتابعة.
أما في اتحاد الصحافيين العرب فكان صلاح الدين حافظ هو رمز الاتحاد وطاقته الجامعة والحارس الأمين على دوره القومي الذي طالما استهدفه الكيانيون وكارهو أي رابط قومي بين العرب ولو في إطار بحث مهني.
استطاع صلاح الدين حافظ أن يربط بشخصه الذي أعطى الموقع معناه، بين أهل هذه المهنة المقموعين والممنوعين من أن يعلنوا هويتهم الجامعة… ولعله الوحيد الذي كان يعرف الصحافيين على امتداد هذا العالم العربي المنداح بين موريتانيا على المحيط الأطلسي واليمن التي يفصلها ويربطها بحر العرب بالمحيط الهندي.
ببراعة وهدوء ودعة وإيمان برسالته صار صلاح الدين حافظ الجامع المشترك الأعظم بين أجيال من الصحافيين العرب… وصار مرجعهم، بالمعنى المهني كما بالمعنى السياسي، أي الوحدوي.
صار »صحافي كل العرب« في زمن غياب الصحافة العربية الجامعة.
وحين قرر »نادي دبي للصحافة« أن ينشئ جائزة الصحافة العربية كان صلاح الدين حافظ أعظمنا سعادة في اللجنة التأسيسية التي وضعت المنهج وأسس الاختيار وشروط الفوز… وكان الأعظم تشدداً في اختيار »شخصية العام« التي تستحق الجائزة التقديرية. وصار الموقف السياسي (القومي) بين معايير الاختيار.
كان العين الراصدة لإجراءات القمع والمنع والسجن والاعتقال التي تطال أي صحافي وأية مطبوعة في المشرق العربي كما في مغربه.. وكثيرا ما أصدر البيان منفرداً، ثم تابع »الموضوع« من موقعه الرسمي، وقيمته المعنوية أعظم من صفته التنفيذية، مثل أي ديدبان ساهر على أداء مهمة حماية ما تبقى من مساحة للأقلام والآراء والأفكار، وهي مساحة تتناقص يوماً بعد يوم، إما بفعل القمع المباشر أو بفعل الذهب وهو أفعل، بما لا يقاس.
[[[
ندر أن اجتمعت كل هذه القدرات في رجل واحد: الإيمان العظيم بالصح، القدرة على الصمود للإغراء كما للقمع، الظرف، القلم المشع، الإصرار على المعاندة: تُمنع مقالاته في جريدته فلا يتوقف عن الكتابة، تصادر صلاحياته فلا يترك مكتبه ويحضر اليه كما الضمير ليقول للآخرين: إنني الشاهد عليكم!
قال لي ذات سهرة: ما يغيظني في السرطان أنه متواطئ علي مع السلطة! كأنه يعمل لحسابها، وليس في جسدي فحسب بل في أجساد الكثيرين من أصحاب الأفكار المبشرة بالغد الأفضل من الكتّاب والمبدعين.
لقد عاش شريفاً عفيفاً، ورحل تاركاً كلماته (عبر كتبه ذات الزخم النضالي، مع حرصه الشديد على الأصول المهنية) بمثابة أنوار هادية الى الصح.
مـن أقـوال نسـمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
وقفت أمس أتأمل لقاء عاشقين وئد حبهما قبل اكتماله. لم ينطق أحدهما بكلمة، لكن لمسة الكفين بارتعاش، والنظرات التي شربت ملامحهما بالتبادل، وخفقان الصدرين علواً وهبوطاً، كل ذلك أعاد وصل ما انقطع في لحظة، وما سوف ينقطع بعد لحظة… الحب الحياة حتى وإن خذلته ظروف الحياة.