راوية <بين النهدين> … يضحك كالبكاء!في آخر زيارة إلى القاهرة أردت أن أطمئن على صحة زميل عزيز و<نديم> ممتاز ومشاكس من درجة <مرشح دائم للاعتقال>، هو الكاتب والصحافي الفنان محمود السعدني: أحد أطرف من جعل السخرية فناً وحوّل السياسيين إلى نكات جارحة تُضحك الناس وتغضب <المعنيين> حتى الأمر بسجنه.قال لي واحد من أصدقاء العمر: أنصحك بتجنب زيارته أو حتى الاتصال به. سيصيبك مشهده، في وضعه الصحي الحالي بكآبة عميقة يصعب عليك، من بعد، التخفف منها.وفهمت أن الرجل الذي أضحك مصر من حكامها، وأضحك العرب من ملوكهم وأمرائهم والشيوخ في <بلاد بين النهدين>، يعيش معلقاً بين الموت والحياة، ينزف روحه، تنهشه الآلام، هو الذي نثر الابتسامات بل القهقهات العريضة عبر كتاباته الساخرة التي تتواضع أمام جلساته <الشفهية> حيثما حل.كتب هذا <الصعلوك> كثيراً، في مصر بداية، وكان بين الأقلام التي أسقطت الفوارق بين <الشفهي> و<الخطي>، وأدخل لغة <ابن البلد> إلى الصحافة، وجعل الكتابة أقرب إلى الحديث المطلق <في القهوة> أو <على المصطبة>، مما أضاف ـ في الأسلوب الظريف واللطيف ـ إلى الصيغة التي صنعت المكانة المميزة لمجلة <صباح الخير>، وقد أتعب بعبثه الذي لا يتوقف عند حدود رئيس تحريرها (الراحل) أحمد بهاء الدين الذي كان <يعاقبه> بأن يفرض عليه ثلاث قفشات شفهية ليسمح له بالعودة إلى الكتابة، أو يدعوه إلى سهرة مملة ليملأها قهقهة ويعفيه من الاستمرار في المجاملة حتى النعاس!ولأن محمود السعدني ابن البيئة الشعبية فهو قد كرس بعض عمره لدعم الفنون الشعبية، بمختلف تلاوينها، من المسرح إلى الغناء إلى فن العرائس الى الرقص، وخص بالدعم الفنان الشعبي المتميز زكريا الحجاوي الذي أعاد إحياء المسرح الشعبي، والموال الشعبي، وطاف به على المدن والقرى والنجوع في أرض مصر… ثم سعى له محمود السعدني لدى بعض مشايخ أقطار الخليج فسافر محاولاً إنشاء فرق للفنون الشعبية لكل من تلك المشيخات، بعدما مكث فيها بعض الوقت يدرس العادات والتقاليد ويجمع الموروث من غناء الأفراح والأحزان ويعيد صياغتها في أعمال فنية متكاملة.كذلك فلقد زكى المشروع الذي أخذ الثقافة إلى الناس حيث هم خارج العاصمة والمدن، عبر <قصور الثقافة>، وكسر الحواجز التي كانت تمنع الصحافة <الجادة> من التعامل مع الفنون الشعبية، شعراً وغناءً على الربابة ورقصاً بالعصا… إلخ.ومع أن محمود السعدني قد أوقعه لسانه في ورطات كثيرة أوصلته إلى السجن، في عهد جمال عبد الناصر، ولو لفترات تأديبية قصيرة، إلا أنه ظل <ناصرياً>، ولم يحتمل أن يكون أنور السادات وريث المصادفة لذلك القائد العربي العظيم. من هنا فقد شدد عليه حملة التنكيت والتبكيت، متناولاً بالتقليد أسلوبه في الخطابة، فاضحاً حيله في النفاق، وصولاً إلى زوجته <الست جيهان> التي قال فيها قولاً غليظاً، جعلها مضرب الأمثال!بين ألطف نكاته، في زمن التحول، واحدة تقول: ما هذا العبث بنا.. يحكمنا رجل فيميتنا من الخوف، ثم يأتينا حاكم آخر فيميتنا من الضحك.. عليه!أمضى محمود السعدني نصف عمره في الأسفار، خصوصاً وقد تجاوزت شهرة لسانه ونكاته الجارحة حدود مصر، فصار نجماً يطلبه الملوك والأمراء والشيوخ ويتحملون سطوة لسانه، ويفرحون ويجزلون له العطاء وهو يضحكهم من أنفسهم ومن عبثهم بحياة رعاياهم!وحين جاء زمن المطاردة، خرج السعدني من القاهرة هائماً على وجهه، قاصداً أصدقاءه <الكبار>، وأهل الثروة ممن يتلذذون بمن <يمسخرهم> دون أن ينسى <خصومهم> ومنافسيهم. اختار، بداية، لندن، حيث عمل مع زملاء قدامى له في مجلة <ناصرية> أصدرها بعض صيادي الفرص ممن وجدوا في الهوية الناصرية مدخلاً إلى بعض القوى المعادية للسادات. فلما ضجر من لندن قصد أقطار الخليج في <جولة جباية>… قبل أن يأتينا في بيروت مع تفجر الحرب الأهلية (الأولى) العام 1975.ولأنه لم يكن يعرف أن يكف عن المشاغبة، فقد أصر أن يكتب في <السفير>، وكان راعيه ومهذب لغته والقائم على حراسته (معنوياً) زميلنا الكبير الذي رحل قبل الأوان، وفي ظرف مأساوي صاعق، إبراهيم عامر. ولقد بلغ من شدة حرص إبراهيم عامر، وهو السجين المصري السابق لأسباب سياسية، على محمود السعدني أنه كان يستبقي أصول كتاباته في درج مغلق، بعد أن <يبيضها> ويرسلها بخطه إلى المطبعة، مع حفظ حقوق السعدني فيها.على أن السعدني، ككل المصريين، لا يستطيع أن يعيش طويلاً خارج مصروبعيداً عن مقاهيها و<مصاطبها> والندامى من زملائه وأصدقائه المختلفين شكلاً ولغة عن رفاق السلاح في مهنة الصحافة. وهكذا فبعدما ضاق ذرعاً بحياة التشرد، فإنه قد <اقتنص> فرصة وجود السادات في زيارة إلى الكويت وطلب إلى أميرها أن <يصالحه> مع <الريس الذي يكره الكتّاب والفنانين والضحك..>.محمود السعدني صمت منذ وقت طويل، لأن <الحالة> أخذته إلى السويداء فصار مريضاً لأن مصر أضاعت لغتها وهويتها وغدها. ومثله صمت أو غاب الكثير من الأقلام والأصوات التي أضافت إلى رصيد مصر في قلوب العرب خارجها.صارت المنابر لأهل المال ورجال الأعمال، حرامها قبل الحلال، وصارت إسرائيل أقوى على المصريين في زمن <السلام> منها في زمن الحرب.واندثر الفن الشعبي، ابتداء من النكتة إلى الموال إلى الفنون الشعبية رقصاً وموالد وغناء، أو كاد.. فكيف نطلب من السعدني أن يتكلم فيضحكنا، وفي مصر كل هذا الذي يضحك… ضحكاً كالبكاء؟!غيـاب حـارس الشـعرحتى في رثاء <المعلم> أحمد حاطوم تشعر به واقفاً فوق سن قلمك، ينبهك الى <ما يقال وما لا يقال> حتى لا تقع في غلط ارتكاب جريمة ضد <وجدان الأمة>.لذا يتداخل الخاص والعام في وداع ذلك الصديق الذي أذابه المرض، في الفترة الأخيرة، حتى صار نحيلا كطيف، وجعل صوته الذي كان خافتا باستمرار أشبه بهمس تخالطه بحة منهكة، لكن موقفه المبدئي من قواعد اللغة التي ولا أرحب ظل قاطعاً كالسيف.وفي ما خصني فقد كنت ألمحه يتابعني وأنا أكتب، يردعني بلطف مرة، وبقسوة مرات، اذا ما حاولت السفر مع المجاز، أو حاولت تحميل الكلمات شحنة لا تطيقها من المواقف، أما العواطف فإن هذه اللغة التي وحدها ـ من بين لغات الأرض ـ لها مجد القداسة، تظل رحبة لها، مرهفة مهما أثقلتها الأحاسيس، أليس بها نطق الحب شعراً وصار البيان سحراً وصار <الكتاب> دينا للمؤمنين؟!كان يهتف لي أحيانا، بصوته الذي أنهكه المرض حتى صار همساً مبحوحاً، ليلفت الى خطأ وقعنا فيه، ولا يكتفي بأن نعتذر له ومنه، بل يطالب بأن نعتذر علنا ومن القراء جميعا، لأننا انما اعتدينا على عقولهم وعلى وجدانهم وعلى ذائقتهم الفنية.مرات عديدة حمل إليّ نصوصاً كتبها، نقداً أو مراجعة لكتاب، أو فصلاً من كتاب جديد يوشك على إنجازه وهو يغوص في <محيط المحيط> أو في <مجمع البحرين> وسائر رحاب هذه اللغة التي لا تكف عن توكيد جدارتها بالتعبير عن العقل كما عن الوجدان، في العصور على اختلافها، ومع الأجيال على تبدل ذائقتها، ومناحي استخداماتها لهذا الوعاء الجامع للفكر والعلم والشعر والفن معاً.<اللغة ليست عقلاً>. قالها في كتابين. وهي بالفعل أكثر من ذلك: إنها العقل والقلب معاً.ولأن أحمد حاطوم إنسان، ولأن لكل عمر نهاية، ولكل منية سبباً، ولأن الموت حق، فقد كان محتماً أن نفتقد ذات يوم <حارس الضاد> الذي أدى <خدمته العسكرية> حتى الرمق الأخير، مناضلاً مع الصح ضد الغلط، أو بالدقة: لمنع الغلط.لكن حجم الخسارة يتبدى فادحاً اذا ما قيس ناسك اللغة العربية وحارس محرابها بالحضور الفج للذين يقتحمون الهيكل المقدس لهذه اللغة التي ولا أرحب، فيعملون فيها تمزيقاً وتقطيعاً، يرشقونها بالنقاط والمزيد من النقاط التي يريدون منها أن تعبر عن كل عييّ فيهم، يخرجون على أصولها، ويحتقرون نحوها، يسخفون قواعدها ويشوشون على موسيقاها وينزلونها من مرتبتها العالية كصائغة للوجدان ومعبرة عن الضمير وأداة تعبير عن العقل وإناء للعلم وحافظة للتراث الى أداة تجهيل وتحقير للهوية.كيف تصير التأتأة شعراً؟!كيف تصبح الكلمات المتقاطعة الضائع معناها بغياب مبناها قصصاً قصيرة وروايات طويلة وأدباً عالمياً؟!كيف يجرؤ على الكتابة من لا تسكن اللغة قلبه قبل قلمه، وتتحول من أداة للتعبير الى حضن لأشواقه وطموحاته، توصل أفكاره ومشاعرهوجدانيا الى الآخرين وتوصلهم به وتقيم بينه وبينهم جسراً من التعارف والتواصل والتفاهم، وتلك أنبل مهمة إنسانية؟!لقد سقط الحارس الديدبان الذي كان يسهر على حماية الذوق العام من التشوّهات، وحماية الوجدان من العبث به.وأحمد حاطوم الذي بدأ معلماً، ظل يتعلم ويتعلم ويتعلم حتى آخر يوم… ومع ذلك فقد كان يعتبر أنه بالكاد دخل الى هيكل هذه اللغة العبقرية التي يبالغ في تعظيم صعوباتها من لا يريد أو لا يرغب أو لا يقدر على فهمها، وعلى الإفادة من مداها الرحب لتقوله.ولن أنسى أبداً ذلك الشعور بالتهيّب الذي كان ينتاب معلمي المدارس الرسمية في أي منطقة، عندما يبلغهم أن <المفتش> أحمد حاطوم آت إليهم في جولة تفقد على أدائهم المهني، خصوصاً أنه كان يمتحنهم في تلامذتهم ليكتشف طبيعة علاقتهم بلغتهم… فكأنما كان يمتحنهم في طلابهم ليقرر مَن مِن الأساتذة قد نجح ومن منهم قد رسب وضل سبيله.الأمة بلغتها… وها هم أعداؤنا الإسرائيليون قد <عادوا> فاحتلوا فلسطيننا مستفيدين من قوى دعم دولية غير مسبوقة، رأت فيهم قوة رديفة لإعادة تطويع منطقتنا وإخضاعها لمصالحهم… وكان السلاح الموحِّد لهؤلاء الأقوام المبعثرين في أربع رياح الأرض لغتهم (العبرية) التي جعلوها أرضهم وهويتهم، بينما نضيّع نحن الأرض والهوية واللغة معاً، ثم ندّعي أننا تخفّفنا من ذلك للالتحاق بالعصر…مريم الحب. تصبِّح الليليتحرك قلم مريم شقير أبو جودة بمداد من الحب: كلما أوشك حبره على النضوب ضخ فيه قلبها المزيد من فائض عواطفه المطلقة، فإذا هو يتدفق بما يشبه الشعر، لينتج دواوين جديدة، أولها حب وآخرها حب وما بين الحب والحب حب ثالث.والحب عند مريم شقير أبو جودة يبدأ بسعيد فريحه الذي تعلمت منه الكثير من فنون عشق الحياة وأبناء الحياة.. لذا فهو حاضر في ذهنها كما على سن قلمها الذي لا يتعب من بث لواعجها، حتى وإن اختلطت أحياناً قصائد الحب بتحيات التقدير بلفتات الإعجاب وبكلمات التشجيع للأصدقاء والصديقات من أهل الكلمة.. أو من قرائها.تختزن ذاكرة مريم شقير أبو جودة حكايات حب كانت أحياناً بطلتها وأحياناً الشاهد عليها، وأحياناً أخرى المهندس لنسجها أو لإتمامها بين قلبين رأتهما متكاملين.وفي كتابها الجديد تستذكر العديد من الزملاء والزميلات و<القراء> الذين صاروا كتّاباً، وتكرّمهم بالكتابة عنهم من باب الوفاء أكثر مما هو من باب الاعتراف بمكانتهم المهنية.ثم إن ذاكرتها مثقوبة بقصد مقصود ليسقط منها أولئك الذين لا يغرون بالحب أو لا يفهمون الحب وبالتالي فهم لا يعيشونه ولا تعرف كيف يهرب هؤلاء أو يغضّون أبصارهم عن نبع النهر المتدفق الذي يشرب منه المحبون فيحسبهم الآخرون سكارى وما هم بسكارى.في <ديوانها> الجديد الذي أعطته عنوان <صباح الليل> قصص حب عديدة في بعضها كانت <الشاهد> وفي بعضها الآخر لعبت دور <المحرّض>، وفي جميعها كانت تتمثل نفسها العاشق والمعشوق، القصة وكاتبها وراويها والمستمع إليها وقد هزه الطرب فطرب وأنشد حبه شعراً.سيظل قلم مريم شقير أبو جودة مخضوضراً لأن مداده ينبع من قلبها الذي يتسع لكل عاشق أو يتمنى أن يعشق أو يعيش في انتظار أن تهب عاصفة العشق فتحمله إلى من يحب.من أقوال نسمةقال لي <نسمة> الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:ـ إذا أحببت لازمك طيف حبيبك في الحل والترحال. تراه في صفحة كتاب تقرأه، تلمحه في سيارة عابرة، يلفتك في آخر يعبر بك سريعاً، أو يشدك صوت يشبه على البعد صوته…الحب قيد من حرير. اللهم احشرنا في سجن المحبين!