عاش الرفيق الأمين العام .. ألف عام!
ذات يوم، بعيد عن أيامنا، وفي شقة »حكومية« بحي العجوزة في القاهرة، سمعت من الصديق الكبير عبد الخالق محجوب حكاية طريفة وعميقة الدلالة بتلخيصها لموضوعة »الثابت والمتحول« في السياسة وربما في الحياة العامة العربية.
لا يمكن اختصار التعريف بعبد الخالق محجوب بالقول إنه كان قائد الحزب الشيوعي السوداني، أو أن هذا الحزب قارب أن يكون النموذج المرتجى للتنظيم المستقبلي إن في التزامه بقضايا شعبه أو في اجتهاده لإعادة صوغ أفكار الاشتراكية العلمية بما يتناسب مع احتياجات الأمة العربية بثوابت إيمانها وتطلعاتها إلى التحرر من دون أن تفقد هويتها الأصلية.
ما لنا ومن وما كان.. ذلك من الزمن الجميل، فلنعد إلى الحكاية المستمرة في كل زمان ومكان.
أكد عبد الخالق محجوب، بداية، أنه لا يروي هذه الحكاية إلا للحميم من أصدقائه، وللتدليل على ضرورة التغيير الشامل، متى جاءت ساعة الثورة، وإلا فإن الأمور ستعود سيرتها الأولى بعد قليل من الوقت… فمع تغيير القشرة سيتماوت »أهل الردة«، ثم لا يلبثون أن ينقضوا على الثورة ومعهم المنافقون والمزينون لها أخطاءها والمتربصون بها والمؤهلون لاستغلال تلك الأخطاء.
قال عبد الخالق: ذات يوم من صيف 1969، وبعد شهور قليلة من »ثورة مايو« التي قام بها الجيش السوداني بقيادة جعفر نميري بمساندة علنية ومشاركة مفتوحة من الحزب الشيوعي السوداني، وصلت الى مطار القاهرة، بغير إخطار رسمي، مع أن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد أبلغني وأبلغ من يعنيهم الأمر انني ضيفه الشخصي الدائم، وأن دعوته مفتوحة، وليس عليّ إلا إبلاغ السفارة المصرية في الخرطوم بموعد وصولي.
»كنت أحمل في يدي جريدة الحزب، »الصحافة الجديدة«، وكانت علنية آنذاك. واقترب مني واحد من »عسس الجوازات«، ممن يجوسون بين الركاب في محطة الوصول، معتمدين على فراستهم في اكتشاف »المشبوهين«، فاستأذن في أن يطلع أو يتعرف الى هذه الصحيفة الجديدة »التي لم أرها من قبل..«.
»ناولته الصحيفة مبتهجا، فانتحى جانبا وأخذ يقلب صفحاتها ثم عاد إليّ يسألني وفي لهجته شيء من القلق: لا مواخذة، الجرنال ده شيوعي؟!
قلت بهدوء: نعم، وهذا مثبت على صدر الصفحة الأولى »لسان حال الحزب الشيوعي السوداني«
قال وقد تحول القلق إلى ما يشبه الذعر: يعني، لا مواخذة، سيادتك عارف أن ده جرنال شيوعي؟!
قلت بهدوء: طبعا عارف.
قال بذعر واضح الآن: ليه، هو سيادتك لا سمح الله شيوعي؟!
قلت ببساطة: أجل، أنا الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني.
قال وهو في غاية الارتباك: طيب، عن إذنك لحظة.
دخل إلى حيث الضابط، في غرفة جانبية، ثم عاد بصحبة الضابط الذي طلب إليّ، بأدب، أن أرافقه…
وراقت لي اللعبة فتبعته من دون أن أعرفه باسمي أو بمهمتي أو بالدعوة الرئاسية المفتوحة… وهكذا تنقلنا بين مكاتب عدة في المطار، قبل أن ينقلوني بسيارة مقفلة النوافذ بستائر سوداء إلى مديرية المباحث العامة في القاهرة. وهناك تقدمني كبير الضباط إلى مكتب الأعلى رتبة، كما قدرت. قرع الباب فلما سمع كلمة »ادخل«، وصوت فتح القفل آليا، دعاني إلى الدخول، بتهذيب، ثم دخل خلفي فأدى التحية العسكرية وهو يقول: تمام يا افندم!
صعقت للمفاجأة، ثم انتبهت على صوت الرجل الضخم الجثة، الأصلع الرأس، وهو يتقدم مني مرحباً: أهلاً، أهلاً، عبد الخالق… واحشني والله!
تبادلنا القبل وسط دهشة الضابط المرافق، ثم جلسنا نستعيد الذكريات: كان الرجل ضابط »القلم السياسي« المكلف بمراقبة الشيوعيين قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952، وكنا مجموعة من السودانيين، في عداد »حدثو« التنظيم الأساسي للشيوعيين المصريين في بداية الخمسينيات.
وكان عبد الخالق محجوب، يختتم حكايته الظريفة بحكمة بليغة مفادها: تتبدل العهود ولا يتبدل العسس. الثورة هي التغيير الشامل، من تحت تحت إلى فوق فوق، أما التغيير الفوقي فلا يلبث أن تجرفه مغريات السلطة، أو ينقلب عليه من والاه في البداية، حتى لا يصادم قوته، فتكون النهاية مأسوية إذ يسقط بطل التغيير فينقض خصوم الثورة عليها فيقلبونها الى ثورة مضادة.
ديموقراطية التزكية!!
استذكرت هذه الحكاية عندما استوقفتني مقالة طويلة شغلة مساحة ربع الصفحة الأولى من الطبعة الدولية لصحيفة عربية كبرى، بل لعلها الأكبر، يبرّر فيها كاتبها »اضطراره« لأن يقبل مرغماً، وللمرة الرابعة أو الخامسة أو السادسة، لا يهم، أن يرشح نفسه (فيفوز) لمنصب نقيب الصحافيين!
في المقالة ما يستفز الحجر وليس البشر فحسب.
وفي الواقع الذي يستند إليه الكاتب لتبرير اضطراره إلى القبول أو التكرّم بقبول منصب النقيب مجددا، ما يرفع ضغط الدم ويجعلك تيأس من اليوم ومن احتمالات التغيير في المستقبل أيضا… فالرجل يصور قبوله المنصب الفخم »تضحية«، بل ويجعلها منة على الصحافيين، ولا يجد عذراً للقبول (الاضطراري) إلا أن ليس ثمة بديل مقبول… هو أو الطوفان!! هو، أو تنتهي النقابة والصحافة!
هذا الرجل معروف مثل ذلك الضابط في »القلم السياسي« أيام فاروق، وفي »مباحث أمن الدولة« أيام جمال عبد الناصر ثم السادات ثم حسني مبارك، كان يرتقي متسلقا السلم نحو الأعلى بنقل ولائه آليا من صاحب الأمر الراحل إلى الآتي إلى سدة صاحب الأمر، بغير أن يرف له جفن!
انقلبت الآية: يختفي ضباط القلم السياسي بالموت، ويستمر المنافقون وأصحاب المواقع التي نالوها بالولاء لا بالكفاءة!
في طفولتنا تعلّمنا أن الدوام والبقاء لله وحده.
وفي يفاعتنا تعلّمنا، في المدارس، أن البقاء للأفضل.
أما في واقع حياتنا فيبدو لزاماً علينا أن نسلم بأن البقاء للأعظم انتهازية وللأبرع في النفاق ولرجل كل الفصول الذي يبدّل ولاءه بحسب تبدل الأحوال.
وفي جولة على الوطن العربي الفسيح يمكن أن تكتشف أن »البقاء« أو »الثبات في الموقع« و»الديمومة« لم تعد من اختصاصات الله (عز وجل) وحده، بل هي باتت قواعد معتمدة لتأكيد ديموقراطية الانتخابات ونزاهتها، إذ هل أصفى وأنقى وأكثر تعبيرا عن الحرية من »التزكية«؟!
نقباء التزكية
ليس السلاطين هم وحدهم الدائمين، لا يتبدلون ولا يسقطون، يهزمون الأمراض ومحاولات الاغتيال ومشاريع الانقلاب ويطاردون عزرائيل فيبعدونه عن قصورهم ولو بلغوا من العمر عتياً…
وليس ضباط »القلم السياسي« يرتقون ولا يزولون.
بل، في الغالب الأعم، فإن كل أركان السلطة، بمن في ذلك من يفترض أنهم »منتخبون«، هم ثابتون لا يتبدلون ولا يتغيّرون، وغالبا بذريعة أن لا بديل منهم.
روى لي وزير عربي صديق أنه بعد أن أمضى حوالى عشرين عاما على رأس وزارته فإنه بات ينسى في بعض الأيام أن يذهب إلى مكتبه الحكومي… وحوالى الظهر يضجر من جلوسه بلا عمل في البيت، فيقوم قاصدا الوزارة، بغير أن يتذكر، لأنه لا يعرف مكانا آخر يذهب إليه.
وفي جلسة سمر مع بعض أصدقاء العمر، رحنا نستعرض معاً أسماء الدائمين… ديموقراطياً، على مستوى الوطن العربي، فإذا كل »المنتخبين«، من أمناء عامين للاتحادات المهنية والنقابية العربية، وفي مختلف المجالات، دائمون، سبحان الدايم، وكذلك رؤساء النقابات.
أضاف صديق كان معنا: أعرف نقباء انقرضت المهن التي يمثلون واندثرت النقابات التي يرأسون، وفرغت من الأعضاء، واستمروا نقباء على المبنى الفارغ واللافتة التي ليس لها خلفها ما تدل إليه.
قال صديق ثالث: أعرف نقباء يجددون لأنفسهم آلياً، وأحياناً وهم غائبون.. وأعرف نقباء آخرين لا يحتاجون حتى إلى التجديد، فهم مستمرون بالتزكية منذ بداية الكون وحتى قيام الساعة.
قال واحد بيننا له علاقة بالسلطة، معتمداً الدفاع كأفضل وسائل الهجوم: بل أعرف وتعرفون زعماء لأحزاب اندثرت واستمروا، شطبت تنظيماتهم عن لائحة الأحياء وواصلوا تمتعهم بألقاب الرفيق الزعيم أو الرفيق الرئيس أو الرفيق الأمين العام.
عاد الصديق الأول يقول بحزن: أعرف ان العيب الملكي قد دخل الذات الاشتراكية وأن قدامى الشيوعيين في مصر كانوا يبدأون أو يختمون اجتماعات لجنتهم المركزية بهتاف نصه في غاية الثورية والروح التغييرية: فليعش الرفيق الأمين العام ألف عام!
كأنما كل في موقعه خليفة الله وظله على الأرض، والأوحد الذي لا مثيل له ولا شبيه ولا بديل ولا من يعوّضون! وكأنما ورث المقعد أو المنصب عن آبائه الصيد.
لا فرق بين المعيَّن والمنتخب، بين من أخذ البيعة لنفسه ومن أعطيها بأمر السلطان، فالانتخاب عملية شكلية لإظهار ديموقراطية السلطان ورغبته الملكية في إشراك الرعية في شؤون الحكم.
عندما تنعدم المقاييس والمعايير المهنية،
عندما يتهاوى كل شيء، وتذهب قيمة الصوت وصاحبه،
عندما تنقرض المهنة ويتلاشى وجود المهنيين،
عندما يصبح السلطان هو العامل الأول، وهو رب العمل الأوحد، هو الأب الصالح لأبناء الشعب جميعا، والزوج الفاضل لنسائنا جميعا، والراعي الطيب لفئات المجتمع كلها، للأغنياء وثرواتهم ومصالحهم الهائلة، لصغار الكسبة ومطالبهم البسيطة، للفقراء واحتياجاتهم التي لا تتجاوز القوت ومكانا للنوم، ولو مزدحمين في غرفة واحدة يتناكب فيها الأزواج والعازبون والأطفال،
عندها… كيف يمكن لإنسان أن يحلم بغد أفضل، بل بغد، أي غد، وسط هذا التكرار القاتل للأمس على صورة اليوم والغد وبعد الغد وبعد بعد بعد الغد؟!
سبحان من يغيّر ولا يتغيّر!
جناح فراشة في ثلج الفراغ
يضيق العالم برجل واحد وامرأتين.
يتسع العالم أكثر مما يجب لامرأة واحدة ورجلين.
في الحالة الأولى قد تجري محاولة اغتيال.
في الحالة الثانية قد تجري محاولة قتل.
* * *
جناح كامل لنوم رجل هرم طالما نام ملتفاً بسترته والحذاء تحت رأسه مخدة أكثر طراوة من ريش النعام؟!
لماذا المرايا كثيرة؟ بحيث لا يبقى للسر ملجأ أو ملاذ؟!
ماذا يفعل بكل هذه المساحات التي يعجز عن ملئها الفراغ؟!
يزعجه الصدى. كلما تحرك دوي من خلفه، من أمامه، من فوقه، من تحته، فأربكه. أسقط عنه الشعور بأنه إنما يختلي بنفسه، وأشعره بأن مئات العيون تراقبه وأن مئات الآذان تسمع همساته وحفيف الشرشف وهو يرفعه ليغطي به وجهه فلا يَرى ولا يُرى!
لا تملأ المساحة إلا امرأة.
كل هذا الفضاء الفسيح يمتلئ فجأة وعن آخره بصوت امرأة، اما إن هي تجسدت فإنه يضيق عن مداها.
تدّعي المرأة السرقة فلا تنتبه إلا وقد احتلت كامل مساحتك.
ثم تقول إن الجناح عظيم الاتساع؟!
انه أضيق من همسة، يا صديقي، أضيق من رفة جناح فراشة.. حتى لقد أبقت الفراشة جسدها في الخارج!
أيرضيك أن يجمِّد ثلج الفراغ جناح الفراشة؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أريد أن أشكو إليك حبيبي.. انه يفعل ما أحاول أن أسبقه إليه، ويقول ما أكون قد أعددته من عذب الكلام لأناغيه به، لا، إنه لا يقرأ أفكاري، إنه يصنع أفكاري. ولكنني أحاول أن أسبقه إلى رغباته. أتريد الحق؟ لا أعرف الحدود بين الرغبات، فكلما قلت له: خذ، قال: هات… وكلما أعطاني قلت له: بعد. المحبون نهمون! والحب معطاء، يمنح موفراً عليك ذل السؤال!
آه، ما أطيب الذل مع حبيبي!