تعودنا في السفير اطلالات ميشال كيلو حتى سقطت عنا واجبات المضيف كما اسقط عن نفسه صفة الضيف. قررنا وقرر انه واحد من اسرتنا. وهو كان يملك من اللياقة ومن المبادرة ومن العفوية ما جعله يعمم هذا الوضع في مجمل علاقاته مع المنتديات والأوساط الثقافية والاعلامية اللبنانية جميعا.
لا اذكر متى التقيت ميشال كيلو اول مرة: ربما قبل الف عام، ولعل السبب في نسيان اللقاء الاول ان ميشال كيلو اقوى من الزمن، لا يغيره مرور الأيام لا شكلا ولا موضوعا، لا حماسة ولا اندفاعا، لا حرارة ولا تهيبا. وهو يحدثك دائما عن اي امر كأنه قد اكتشفه للتو.
واعترف بأنني كنت أحار كلما التقيته في الالتباس الذي ينشأ عندي، اذ ألمح فيه شيئا من المفكر العربي التأسيسي الراحل ياسين الحافظ، وكثيرا من شخصية دون كيشوت… وكان بديهيا ان انصرف معه الى ذلك الفارس النبيل الذي يقاتل طواحين الهواء وهو يفترض انه انما يسحق الشريرين والغزاة وقتلة الانبياء.
ولقد ضحك وأضحكنا كثيرا في لقائنا الأخير، قبل أيام، على هامش ندوة الاصلاح التي اقامتها جريدة الخليج في الشارقة، إحياء لذكرى مؤسسها تريم عمران.
روى لنا بعض طرائف استدعاءاته لمقابلة بعض المسؤولين في الأمن السياسي، ونتفاً من الاسئلة العجيبة التي طرحت عليه، والتي كان يبتدع اجابات عنها… فكيف تجيب مثلا عمن يسألك: لماذا تعيش السمكة في الماء؟
كان دون كيشوت اللاذقاني طريفاً بلهجته المميزة، طريفاً بصوته العالي الذي تستحيل معه الخلوات ومن ثم التواطؤات، ويمتنع عليه بسبب ضجيجه الانتماء الى حلقة سرية، كما تفرض عليه فروسيته عدم التستر على امر او كتمان معلومة… من هنا فإن طبقات صوته تخلو من الهمس .
ولطالما تساءلت: ترى كيف يغازل هذا البطل من الأساطير او المطرود منها حبيبة له أخذها التوهم الى الافتراض ان دون كيشوت هو اعظم الرجال؟!
ميشال كيلو: صناجة الديموقراطية كحلم عربي يتيم، المتطوع الابدي للقتال ضد مشاريع الهيمنة الاجنبية على الارض العربية، قرر منذ الولادة ان يوزع نفسه بين فلسطين لقتال الاسرائيليين، وبين العراق لقتال الاحتلال الاميركي، وبين دمشق للنضال من اجل حماية التراب الوطني والتقدم والازدهار وتوفير الكرامة لانسان تلك الارض التي كانت ذات يوم منطلقاً للحضارة وكعبة للثقافة وديوانا للشعر الآتي من السحر… أما لبنان فكان يمده بالأمل كلما حاولت الاستجوابات ان تسحبه الى اليأس.
طبعا يستحق ميشال كيلو ان يعتقل وان يحاكم وان يدان. لقد صدق احلامه، فآمن بوطنه، واجتهد ليحمي كرامة الانسان في هذا الوطن الذي يستحق اجلّ التضحيات.
ولست استبعد ان يُطلق سراح ميشال كيلو قريبا وقبل ان يقلق راحة سجانيه بأحلامه التي يراها انتصارا ساحقا على الطواحين التي لم تعد تطحن الهواء وحده.
عن جورج افرام وعروبة المسيحيين كغد للأمة
لم أتقبل حتى الساعة واقعة ان جورج افرام قد مات.
لقد سمعت خبر الوفاة، وقرأت النعي، وتابعت وقائع التعزية، بل كتبت ارثيه بكلمات مبتسرة تحت وقع الاحساس بالفاجعة… ومع ذلك ما زلت اسمع صوته يرن في أذني، كما المبشر المؤمن برسالته، وما زلت أتمثله امامي في بيته الذي ينم عن ذوق رفيع وعن تقديس للطبيعة باعتبارها مصدر الجمال الذي لا يحتاج منك إلا إلى التفضل بعدم تشويهه.
ولقد كتب الكثير عن جورج افرام، وقيل فيه في باب الرثاء ما لم يقل الا في النفر النادر من رجال الأعمال الذين لم يلوثهم المال الحرام، ومن رجال السياسة الذين لم تفسدهم الصفقات المشبوهة، القائمة على استثمار الطائفية او المذهبية للوصول الى اغراضهم ولو على حساب طموحات شعبهم وحقه في الحياة الكريمة.
لعل بين ما شدني الى جورج افرام نبرة الصدق في كلامه، وحرصه على ان يحفظ للفكرة سموها فلا يجعلها جارية في سوق النخاسة السياسية… او ربما تلك الشجاعة في ان يدافع عن الصح حتى وهو يعرف ان الجمهور يفضل مخادعته او نفاقه في غرائزه بدلا من التعامل مع عقله.
ولقد كان في جورج افرام بعض صفات الانبياء: كان رؤيوياً، يبشر بالغد وهو يعرف ان ذلك يستدعي مقاتلة الاستحالة، ويقاوم الفساد وهو يعرف ان ذلك سيكلفه التصادم مع الحُكم وأهل النفوذ، بل مع العامة التي اخذتها خيبتها في أهل السياسة الى التسليم بالقاعدة اللبنانية الانتهازية القائلة: ما يهم ان يخرب البلد ما دمت قد اخذت حصتي … او صحتين على قلب من أكل الخير كله وسد لي جوعي من دون الناس !
عرفته أول مرة في مكتبه في المبنى العالي لمؤسسة كهرباء لبنان. كان قد دخل الوزارة، اول مرة، وانتبهت الى ان هيئة اركانه لا تشبه موظفي الدولة، فقال انه جاء بموظفيه الاكفاء، لانه يثق بقدرتهم على الانجاز، وانه يدفع لهم تعويضاتهم من جيبه شخصيا.
شرح خطته كمن يقرأ في كتاب مفتوح. وكانت رنة الصدق تقطع شكي باليقين، ثم انه كان يتحدث عن فائض من الخبرة والمعرفة بأساليب التحايل للتهرب من الانجاز في الموعد بذرائع شتى.
ثم التقينا مرات، بعد ان شرفوه بطرده من الوزارة ليعطوها لبعض العصابة لتمرير الصفقات التي دفعنا وما زلنا ندفع كلفتها بالمليارات في الكهرباء التي لم تنور بيوتنا ماضياً ولن تنورها في المدى القريب.
كان يتجاوز في حواراتنا السياسات اليومية، ويندفع بحماسة معدية الى التبشير بالغد. وكان اكثر ما يشغله دور المسيحيين في العروبة، فهو يراهم روادها، بل لعلهم من اخترعها وروج لها وفلسفها وأمدها بأسباب اليقين حتى صارت عقيدة الأمة. وهذا انجاز تاريخي يُحسب لهم، وعليهم ان يحافظوا على شرفه. وكان يرى في خروج المسيحيين على العروبة خيانة ليس فقط لدورهم في الحاضر والمستقبل، بل لسقوطهم في شرك الغرب الذي يرفض تنسيبهم اليه، لانهم ليسوا منه، ويريدهم عربا لان تلك حقيقتهم، ومن قلب هذه الحقيقة وتأصيلها فكريا وسياسيا واجتماعيا يكتسب دورهم اهمية بالنسبة إلى أمتهم ومن ثم بالنسبة إلى الغرب الذي فيه فائض من المسيحيين وتنقصه الخبرة بالعرب والمعرفة بكيفية بناء علاقة مجزية له ولهم في الحاضر وفي المستقبل.
كان جورج افرام داعية من طراز الرواد اصحاب الرسالة.
الآن وقد رحل عن دنيانا نستذكر الحكمة القائلة: لا كرامة لنبي في قومه.
لكن جورج افرام يسكن في غدنا الذي ان لم نحققه كما كان يبشر به، فسنبقى أسرى الماضي او أسرى الواقع المهجّن والرديء حتى الاندثار!
بغداد تغرق في دماء الرشيد
قال الصديق الآتي من بغداد يتقدمه انكساره:
تذكر ولا شك رحلتك الاولى الى بغداد صيف العام .1964 كنا في منتصف تموز وبغداد جحيم نهاراً وواحة غناء محمولة على جناح دجلة ليلاً.. ولقد تطوعت لان أرافقك آناء الليل وأطراف النهار. وكانت سيارتي قديمة الطراز، وبالتالي فلا يسمح لها ان تعبر شارع الرشيد، القلب الأنيق لتلك العاصمة المتعبة بتاريخها التليد. ذهبنا معا الى مكتبة المثنى، وقد كان اصحابها وكلاء الصحف العربية والاجنبية جميعاً. وقد جعلوها، في الوقت نفسه، واحدة من اهم دور النشر العربية.
صمت قليلاً، ورفع بصره الى السقف وتنهد بحرقة قبل ان يضيف:
أتذكر؟ سألتني يومها: وماذا تطلب من حياتك يا صبري؟ فأجبتك: الأمن والامان! ولقد استغربت إجابتي حينذاك، يا استاذ. ظننتني أتواضع في طموحي. ذلك المطلب هو الآن أبعد من حلم يا استاذ. نُسفت مكتبة المثنى، دمر شارع الرشيد، وسدته حواجز جنود الاحتلال الغرباء. معظم العمارات فيه مبقورة الصدور والخواصر. وشبح الموت يخيم عليه، ولا صوت يرتفع فيه مع دوي الانفجارات إلا نعيق الغربان. قتلوا بغداد، يا استاذ. قتلوا الرشيد يا استاذ. قتلوا العراق يا استاذ. قتلوا الأمة. الآن، يحدد لي انتمائي المذهبي مساري. هناك شوارع محرّمة على السُّنة، وهناك طرقات واحياء محرمة على الشيعة. والدم يغمر بغداد كلها، والعراق كله، ويفيض عنه، وسيمتد طوفانه الى جواره جميعاً.
صمتنا جميعاً، وتحاشت العيون العيون، وندت عن معظمنا تنهدات محرقة. ثم انفجر صبري باكيا، وقام فانصرف بغير وداع، ولم تصدر عن اي منا تحية. كانت الكارثة تسد حلوقنا وعيوننا. وكنا بحاجة الى كثير من الهواء لنستعيد القدرة على التنفس.
لقد سقطت عواصمنا جميعاً. سقط ماضينا. سقط حاضرنا. سقط المستقبل!
لماذا العواصم: لدينا دبي! الوطن الدُّبَي. الأمة الدُّبَيَّة!
هدِّموا عواصمكم العتيقة. اخرجوا من الماضي الذي لن يعود الى المستقبل الذي ليس لكم. هيا الى دبي. النقليات مؤمنة في اتجاه واحد: اذهبوا أعطوها حياتكم تُعطِكم شرف العيش فيها حتى الموت.
تهويمات طيور الجنة
طريقك عطر الليل، وطيور الجنة تتظاهر بالنوم، لكنها تبث عيونها اللامعة بفرحها مصابيحَ تشدك الى مقصدك بغير ان تخدش الصمت فتتركه مساحة للهمس الحميم.
الشوق عاصفة تدور على نفسها في رقصة الجنون. تتقطع الكلمات همهمات، ترتدي من صوت المغني معانيها فترددها مرطبة بضحكات دامعة.
يجيء الشعر مندّى بالعرق فيتقطر طرباً. يأخذ الى نشوة الصمت، قبل ان تعربد القصيدة مستقدمة الفجر.
وفي طريق العودة لا تسمع الا أنفاس طيور الجنة وقد ذهبت الى النوم، تاركة لعطر الليل ان يهديك إليك.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
حبيبي لا يهديني وردة. انه يزرع حديقتي بالورود، فتستحضره متى غاب وتعطرني وأنا أستعد لقدومه. أما في عيد ميلادي فإنه يجعلني الوردة ويسهر عليّ حتى تتفتح أكمامي جميعاً.