غيتار من غيفارا إلى شهداء صبرا وشاتيلا
لولا غيتار »بيدرو« الآتي بأشجانه وأحلامه بالفرح المرصود من اميركا اللاتينية، لتحول العشاء الذي قصد منه الحفاوة إلى ما يشبه المآدب الجماعية التي تقام في سرادق العزاء بالراحلين.
بين الثلاثين مدعوا من يمثل أحزاباً وتنظيمات شيوعية وتقدمية وحركات مناضلة من أجل السلام جاؤوا كعادتهم كل عام ليشاركوا أهالي الضحايا في وضع باقات من الورد إحياء لذكرى شهداء صبرا وشاتيلا.
كل أيلول، عند انتصافه، لنا معهم موعد لا يغفلون عنه ولا هم ينسونه، بل هم يستعدون له كأنه مهمة نضالية: يدّخرون من مرتباتهم التي بالكاد تكفيهم ما يشترون به تذاكر السفر ونفقات الرحلة، ويجيئون إلينا ليحولوا ذكرى المأساة إلى مناسبة لتوكيد التضامن والنضال المشترك ضد العنصرية وضد الاحتلال، ضد الفاشية وضد التعصب، ضد قتلة الأطفال والنساء والأمل، ضد منظمي المذابح الجماعية لإرهاب الشعوب المقهورة، حتى وابناؤها لاجئون مرميون في المنافي التي يستحيل ان تغدو وطناً.
لكن الأمر هذه السنة اختلف اختلافاً عظيماً عن السنين السابقة.
في السنين السابقة، كان كبار الدولة يرحبون بهم، وكانت الأحزاب التقدمية والتنظيمات الفلسطينية تتسابق إلى أخذ الصور معهم والاحتشاد في نقابة الصحافة، مزاحمة الزملاء في المهنة الذين يحرص أكثرهم تطرفاً ضد »الوجود الفلسطيني« في لبنان على الحضور.. وكان بعض وجهاء القوم يحرصون على تكريمهم، في حلهم وترحالهم، بين مثوى الشهداء ومعتقل الخيام و»بوابة فاطمة«.
جاء ستيفانو قبل الموعد بشهرين: كان غبار الحساسيات الطائفية يغطي العيون، في ظل دعوات الثأر للرئيس الشهيد رفيق الحريري، وكانت السلطة مشروخة وكل طرف قد اقتطع لنفسه شطراً منها، وكانت »العنصرية« قد استعادت اعتبارها.. والاخطر: ان بعض المتهمين بالمشاركة في المسؤولية عن المذبحة وعن التنفيذ قد غدوا »قيادات« في الحياة السياسية، و»حلفاء« لمن كانوا خصومهم يقاتلونهم بالسلاح في ذلك الصيف المجلل بالخيبة والدم والهزيمة امام الاحتلال الاسرائيلي (1982).
أحس ستيفانو بحرجنا. كان نزف الروح اخطر من ان يغطى بابتسامة الترحيب بهذا المناضل الصديق. لم نكن بحاجة إلى أن نشرح له ظروفنا. كان يعرفه بتفاصيله، ويعرف خطورة تداعياته ومدى انعكاسه على معنى الاحتفال السنوي.
قال ببساطة: رغم كل شيء سنجيء. نحن لسنا طرفاً. نحن نتعامل مع التاريخ. اننا بقدومنا نتجاوز اختلافاتكم السياسية، وصراعاتكم الطائفية والمذهبية. ضحايا المذبحة تجاوزوا باستشهادهم انتماءاتهم الدينية والسياسية. صاروا رموزاً، وللرمز قدسيته التي تخص الناس جميعاً.
وقال ستيفانو: ان رحلتنا، وهي في صميم السياسة، تتجاوز العمل السياسي بالمفهوم اليومي. ليس لاضرحة الشهداء بوابات وحرس، وهم يخصون كل من يقدس حق الإنسان في الحياة، وحقه في وطن. إننا نجيء إليهم لنكتسب من زيارتهم شرف اسمائنا.
وقال ستيفانو: لعل التوجهات الرسمية للسياسات في بلادكم قد تبدلت، فأعاد بعضكم تصنيف البعض الآخر، وهكذا صار بعض من تعتبرونهم خونة شهداء، وصار »ورثتهم« وزراء ونوابا وقيادات نجحت في »تحرير لبنان«. هذا شأنكم، أما بالنسبة إلينا فإن شهداء صبرا وشاتيلا ما زالوا ضحايا جنرالات الاحتلال الاسرائيلي وضحايا الميليشيات التي اخذها التطرف إلى العنصرية وإلى الدموية وإلى نهج استئصال »الآخر« بوحشية.
وقال ستيفانو: لقد اعترفت اسرائيل رسمياً بالمسؤولية عن المجزرة، واجرت تحقيقاً شهيراً، يهدف، كالعادة، إلى تبرئة »الدولة« ولو بإدانة أفراد، حتى لو كانوا في مواقع سياسية او عسكرية عليا. وكان شارون، جنرال الاحتلال بين من ادينوا، وكلفته الادانة »عزلة« دامت سنوات… وهو ما زال مدانا، في عيون العالم، حتى لو غدا رئيساً للحكومة… ولولا الضغوط الهائلة التي مورست على بلجيكا لادانته المحاكم فيها بالمسؤولية المباشرة، من دون ان تبرئ من استخدمهم من اللبنانيين كسكاكين وبلطات ورصاص لبنادقه وقذائف لمدفعياته، مستغلاً احقادهم العنصرية.
***
ظلت الابتسامة تغطي وجه ستيفانو وهو يتقدم رفاقه الآتين من ايطاليا وفرنسا والمانيا وبلجيكا، وان رفرف الحزن في عينيه، حين وضع ووضعوا باقات الزهور عند النصب التذكاري المرتجل.
لم يقل كلمة عن التناقص الفاضح في اعداد المشاركين من اللبنانيين والفلسطينيين. كان محاطا بأسر الشهداء، فالأطفال اليتامى والأيامى غدوا رجالاً الآن، والامهات والاخوات هجرن الندب والحزن ربما بقصد توفير الدمع لشهداء الأيام الآتية.
… وحين تأخر في الوصول إلى حيث كان العشاء الأخير، لانه كان منهمكا في توزيع اخبار »الرحلة إلى الشهداء«، وجد من يكسر الوجوم السائد. قالت مونيكا: هيا بيدرو، أخرج غيتارك من مخبئه وغنِّ لنا فرح الثوار.
كان وجه بيدرو الآتي من اميركا اللاتينية هادئاً بأكثر مما تحتمل هويته، لكنه حين احتضن غيتاره التمعت في عينيه ابتسامة، ثم اطلق لحنه الشجي الاول وسط ثرثرة الرفاق والرفيقات. مع اللحن الثاني انتبه الجميع، ثم باشروا المشاركة فأطل »تشي غيفار« من فوق »سييرا ماستيرا«، ورفرفت صور الثوار الذين صاروا شهداء يملأون الأفق بصدى أصواتهم وأناشيدهم ما بين تشيلي وكولومبيا والارجنتين والمكسيك وجزر الكاريبي… وصولاً إلى فلسطين.
جاء الفرح مع الألحان الصارخة بالأمل وحب الحياة وحق الإنسان في وطن تغمره شمس الحرية… وتداخلت اصوات القادمين بقوة مبادئهم لتحية الشهداء. اهتزت الرفيقات بالنشوة ورقصن جلوساً، بينما رفاقهن يرفعون أصواتهم ليؤكدوا الالتزام بالقضية.
تساقطت اشباح منفذي المجزرة والآمرين بها والمستفيدين منها. عادت »اسماء ابطال المذبحة« إلى موقعها الطبيعي في سجل المطلوبين للعدالة مهما كانت ألقابهم »الرسمية« التي نالوها بدبابات المحتل او بقوة العصبيات الطائفية والمذهبية المتحالفة موضوعيا مع جيش الاحتلال الاسرائيلي.
الشهداء الآن هم الأعظم حضوراً.
الشهداء يسكنون الغد، وليس عيبهم أن قصرنا عن بلوغه.
بعقلين… من »النقاش« إلى »منتدى الشعر«
أخذتُ الكتاب بلهفة لمجرد انني لمحت في عنوانه اسم »بعقلين«.
بعقلين تسكن ضلوع الصدر، ففيها تفتح وعيي وبدأت أتلمس طريقي إلى المعرفة.. وكثيراً ما أنحرف عن الطريق إلى مقصدي كي اعبر منها، مستعيداً ذكريات الهوى الاول وأوليات العلاقة بالثقافة والسياسة والتاريخ اللبناني المعقد.
من زمان، اعطاها عالِم الاجتماع الذي يندر ان تلقى من يعرف اسمه او هدفه من التجول في »بلاد الشوف« ودراسة احوال الناس فيها، قبل ان يعطي لكل قرية لقباً يكاد يلخص مسلك أهلها، لقباً مميزاً: »غنم«.
فإن تيسر لك أن تراقب التفاف اهلها حول بعضهم البعض في السراء والضراء أدركت ان »النقاش« وهو اللقب الذي اعطي لعالم الاجتماع المجهول قد اصاب هدفه تماماً، فأهلها يتجمعون، وأكاد اقول يتحاضنون، في الملمات، من دون جلبة او اصوات هادرة او توجيه النداءات بالرصاص!
الكتاب خلاصة جهد طيب لمنتدى الشعر في بعقلين، فقد عكف اعضاؤه على تجميع كل ما قاله شعرا ابناء تلك »القرية في ناحية الشوف السويجاني« التي جاءها »التنوخيون« عن طريق البقاع »فاتحدوا مع قبيلة بني لام اللخميين«.
والشعر هنا يشمل القريض والزجل، ولائحة الشعراء 84 شاعراً وزجالاً بينهم 31 توفاهم الله. انه »ديوان بيت العقال« التي بنى فيها الامير مصطفى ارسلان السراي.
وفي السراي التي صارت مكتبة ومنتدى، كان ثمة سجن ومحكمة ومخفر للدرك… وكان يقع إلى جانب السراي منزل شيخ العقل السابق المرحوم الشيخ رشيد حمادة. ومن خلفها، وعبر ذلك الوادي الذي ينحدر جلولاً ثمة صفحات كاملة من تاريخ فتنة 1860 التي كانت محطة خطيرة في تاريخ الجبل، ومن ثم الكيان السياسي اللبناني. لكن ذلك حديث آخر.
منتدى الشعر في بعقلين قدم بعض ثمار »العقل«… وعلى عادة أهل بعقلين فقد تجمع شعراؤهم في الديوان الجديد على قاعدة اللقب الذي اطلقه عليهم ذلك »النقاش« الذي نادراً ما اخطأ التوصيف.
شميم الأسماء
جعلهما الازدحام في ذلك المقهى الصغير يتحاضنان من قبل ان يتعارفا.
قالت: المكان الضيق يقصر الطريق إلى الصداقة.. ما اسمك؟ دعني احزره…
قاطعها: أما أنا فقد عرفت اسمك من عطرك!
قالت من خلال ابتسامة زهو: وماذا عرفت عني ايضا..
قال: إنك لا تحبين النساء!
ضحكت وهي تقول: وهل عرفت أبداً امرأة تحب امرأة؟
قال متفلسفاً: الحب لا يميز..
زأرت: بل انت من لا يميز الديك من الفيل..
حاول ان يبتعد، لكنها طاردته: ولكن من يعرف اسمي من عطري اخطر من ان يخطئ في توصيف الحب.
أحسّ إن هو نطق سقط في فخها، فاعتصم بصمته. فعادت تستفزه:
أما أنت فشميم جسدك يشي باسمك..
قال يهرب من الجواب: كيف تتنفسون هنا ولا هواء..
قالت معابثة: سأنفخ في وجهك..
دفعهما بعض من يريد الخروج، فتباعدا، لكنها اكملت تقول:
نأتي إلى هنا كي ننسى الخارج. إننا نفرغ هنا ما في دواخلنا، وأنت تأتينا بالخارج لتخنقنا.. هيا اخرج او ادخل فينا! لا اظن ان الخارج اجمل من صورتنا هنا.
تردد. لا هو يستطيع ان يدخل ولا هو يريد ان يخرج. سمعها تقول: من أين استعرت كل الجملة الاولى، »عرفت اسمك من عطرك«، لعلك حفظتها من قصيدة لشاعر يقدر الجمال! هيا انصرف فاستحضره، فإن كنته أكمل ما بدأت.
ارتفع صوت مطرب هاو فثارت زوبعة من الصيحات جعلت كل الاسماء معطرة، وجعلت للأجساد جميعاً شميم عطر واحد!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب قرار. الحب ارادة أيضاَ.
ليس الحب فورة من العاطفة الجامحة، ولا هو نزوة تأخذنا قليلاً خارج المألوف ثم تنتهي غالباً بعقدة ذنب.
الحب يغيرك حتى تكون أنت.. فإن كنت صرت »انتما«.