عبد الله ابراهيم يطوي علماً من أحلام الزمن الجميل!
كان يا ما كان في أمس قريب من الزمان جبين للأمة العربية يدعى لبنان. وكانت بيروت العاصمة الثقافية والمنتدى الفكري والشارع الوطني لأمتها، والوريد الرابط بين المشرق والمغرب، أدناه وأقصاه، ودائماً عبر »المركز« الذي لا بديل منه: القاهرة، وبالاتكاء على الدور التاريخي في الدعوة والتحريض لقلب بر الشام: دمشق.
ولقد حفظت ذاكرة جيلنا اسماء رواد شكلوا طلائع للعمل »القومي«، تجاوزاً »للقطرية« و»الكيانية«، حلموا وعملوا لتوحيد الجهد الثوري من اجل اجلاء الاستعمار عن اقطار المغرب العربي الثلاثة، تونس والجزائر والمغرب، تمهيدا لاستكمال الربط مع حركة التحرر في المشرق في طريق تحقيق الامنية المغدورة: الوحدة او الاتحاد العربي.
تلك بعض ملامح الزمن الجميل الذي كان…
كنا نعرف القليل عن »ثورة الريف« بقيادة عبد الكريم الخطابي، الذي ألجأه القهر الاستعماري الى القاهرة.
وكنا نعرف القليل عن الامير عبد القادر الجزائري، وعن أحفاده وصحبه الذين جاؤوا من قبل الى دمشق منفيين، فصار فيهم الامير مرجعا عربياً متميزاً، وصار المغاربة اهل وجاهة وكرامة.
ثم وصلت الينا أخبار حركة المقاومة الوطنية ذات المشروع السياسي، واستقرت في وجداننا اسماء بينها عبد الله ابراهيم، والمهدي بن بركة، و»الفقيه« محمد البصري، وعبد الكريم غلاب، وعبد الرحيم بوعبيد وآخرون، ومعظمهم قد تخرج من مدرسة علال الفاسي الاستقلالية.
مع منتصف الخمسينيات وبعدما حسمت الثورة في مصر بقيادة جمال عبد الناصر خيارها العربي، مستقبلة بصدرها التحديات المتعددة المصادر، وأولها التحرش الاسرائيلي، واخطرها العدوان الثلاثي على مصر، بعد تأميم قناة السويس استكمالا لممارسة الارادة الوطنية على الارض ومصادر الثروة الوطنية، أخذت العلاقات تتوطد وتترسخ على قاعدة سياسية صلبة بين حركة التحرر في المغرب، والحركات الثورية في المشرق، احزابا ومنظمات ومنتديات وشخصيات راسخة الايمان بوحدة الامة.
… وكان تفجر الثورة في الجزائر ارض لقاء وتكامل بين ارادة التحرر في المغرب وارادة التحرير في المشرق. ثم كانت القرصنة الفرنسية التي أدت الى اعتقال القادة الجزائريين الخمسة، فضمت الذاكرة بإكبار اسماء احمد بن بله ومحمد بوضياف وكريم بلقاسم ومحمد خيضر وحسين آية احمد.
***
كان اول ما قرأنا عن »عروبة« المغرب ما كتبه »المشرقي« الامير شكيب ارسلان الذي حاول ان يكون بحركته صلة وصل، فجمع في شخصه وفي علاقاته المعبرة عن اهتماماته الاصيلة المشرق والمغرب.
ثم بدأنا نتابع الحركة التحررية في المغرب بقيادة حزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي، حتى جاء تلامذته الذين سرعان ما احسوا ان الصيغة القديمة تضيق بهم ففتحوا ثغرة في الافق المغربي ومدوا اياديهم الى المشرق الذي كان يتلهف إلى لقائهم.
ولقد بدأ عبد الله ابراهيم صلته بالمشرق عبر محاضرة القاها في نهايات الاربعينيات في دمشق، وكان بين حضورها ميشال عفلق الذي تأثر بها حتى كتابة نص (ضائع) عن هذا المناضل المغربي. ثم كانت ثورة جمال عبد الناصر قد جذبت عبد الله ابراهيم القائد في حزب الاستقلال وأكدت له إيمانه بوحدة المعركة القومية. وهكذا فقد سعى إلى أن يشارك المغاربةُ في القتال من اجل تحرير فلسطين، التي جعلها العدوان الثلاثي على مصر، مرة اخرى، القضية القومية الاولى.
سنة 1959، وكانت الحركة الشعبية في المغرب قد حققت انتصارات باهرة ضد الاستعمار الفرنسي، ثم ضد السلطة المطلقة للسلطان الذي غدا ملكاً، صار عبد الله ابراهيم رئيساً للحكومة… وبهذه الصفة جاء، كرّة اخرى، الى مصر والتقى عبد الناصر، وتوطدت الصداقة بين الرجلين، خصوصا ان هذا المناضل المغربي الصلب كان واحدا من الآباء الروحيين للثورة الجزائرية، وقد بات صديقا لقادتها جميعا، سواء »الخمسة الكبار« الذين عادوا من السجن الى السلطة في الدولة التي حققت استقلالها بدماء المليون شهيد، أم الآخرين ممن انضووا تحت لواء الحكومة المؤقتة برئاسة فرحات عباس، ثم بن خده، بعدما فتح الجنرال ديغول باب المفاوضات مع الثورة معترفا بالحقيقة الثابتة: الجزائر عربية وليست فرنسية.
وكمناضل، ثم كرئيس للحكومة، كان الهم الأساسي لعبد الله ابراهيم ان ينجز مهمة »تعريب التعليم« في المغرب، توكيدا لهوية الوطن الذي شهد الانصهار النموذجي خلف هدف التحرير بين ابنائه ذوي الاصول البربرية وابنائه العرب.
***
بين الطرائف التي تستحق ان تروى، ولو منقولة عن عبد الإله بلقزيز، ان عبد الله ابراهيم قد زار القاهرة بداية الستينيات، وكان قد غدا صديقا مقربا من جمال عبد الناصر. وفي حفل أقامته السفارة المغربية في عاصمة المعز، كان بين المدعوين الثائر الاممي العظيم تشي غيفارا.. وقد تقدم منه عبد الله ابراهيم، ليقول: سأعرفك إلى صديق عزيز واستاذ لنا جميعا، هو الامير عبد الكريم الخطابي!
ولقد ذهل من سمعوا الحوار، حين قال غيفارا بصوت اراد ان يسمعه الجميع: لقد كنا نعطي الثوار في سييرا ماستيرا، عشية التمهيد للثورة في كوبا، دروسا اخذناها او اقتبسناها عن ثورة الريف المغربية بقيادة هذا الأمير!
ومن ثم دار لقاء حميم بالاسبانية، بين الثائرين اللذين سيصيران صديقين.
عبد الله ابراهيم الذي سرعان ما انشق مع »العروبيين« و»التقدميين« من رفاقه عن »حزب الاستقلال« ليؤسسوا بالاستناد الى النقابات المنضوية في »اتحاد القوى الشعبية للشغل« حزب »الاتحاد الاشتراكي المغربي«، انشأ صلات واسعة مع القادة الشيوعيين في المعسكر الاشتراكي، ثم طلع مع رفيق نضاله المهدي بن بركة بفكرة المؤتمر الاستثنائي للقارات الثلاث: آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية.
عبد الله ابراهيم غادرنا قبل ايام بلا وريث.
لقد اختلف الزمان، وغاص المناضلون المغاربة كما غيرهم في همومهم المحلية… ولم يتبق من الروابط، في السنوات الاخيرة، الا بضعة من الرجال المشاكسين، الذين يرفضون التسليم بالامر الواقع، كان في طليعتهم الفقيه البصري، الذي مكنه منفاه من ان يظل حرا في حركته الى حد كبير، ثم هزمه النفي فعاد ليموت في بيته، بينما ألزمت تجربة الحكم البائسة عبد الله ابراهيم، بالصمت ثم بالانطواء على مراراته، خصوصا بعدما تلاحقت الهزائم القومية: نكسة 5 حزيران 1967، وفاة عبد الناصر، النصر المنقوص في حرب 1973، زيارة السادات إلى القدس في العام 1977، ثم اتفاق الصلح المنفرد في كامب ديفيد، الذي اخرج مصر من جلدها وأهلها وعنوانهم فلسطين وان لم يُخرج فلسطين من قلوب المصريين.
لقد رفض عبد الله ابراهيم مهادنة الحسن الثاني، الذي كان يرى فيه ملكا ناقص العروبة، وعنده استعداد كبير للتخلي عن الثوابت الوطنية والقومية.. فخرج من الحكم الى المعارضة، ثم لما رأى ان المعارضة قد تم تدجينها وصارت الى حد كبير مطلبية اعتكف فلزم منزله وافكاره، وابتعد عن محرقة السلطة وعن »التيار المساوم« في الحزب الذي بدل اسمه من دون ان يبدل نهجه ومعظم قياداته.
كان الرفاق التاريخيون قد ارتحلوا او »تقاعدوا« في وقت مبكر: المهدي بن بركة شهيدا مختطفا من باريس بتواطؤ فرنسي مكشوف كي تقتله المخابرات الملكية المغربية، والصديق بن محجوب قائد الاتحاد المغربي للشغل، استمر يخوض معركة نقابية بشعارات سياسية بينما الحكم يحاول اجتثاث الحركة الوطنية المغربية من جذورها بالقمع والرشوة، العصا والجزرة، و»الفقيه« منفيا يرفض المساومة للعودة، وعبد الرحيم بوعبيد يحاول ان يحمي الحزب لكي يكون في الغد، ولو بشيء من التنازل.
هل هي الخيبة؟ هل هي المبالغة في تقدير القوة؟ هل هي الاستهانة بموقع العرش في المجتمع المغربي؟ هل هو التمزق بين عروبة لا تملك مشروعا لحكم عصري، والعصرية التي لا تجيء من المغرب مع الاستعمار؟!
لهذا كله، اختفى عبد الله ابراهيم في السنوات الاخيرة، بعد سلسلة محاولات، اضافت الى مرارته مرارات بعضها جزائري وبعضها جاءه من تونس التي تغربت وتهجنت، وبعضها من ليبيا التي اضاعها القذافي حتى افتقدها المشرق والمغرب، وحتى اهلها في الداخل… وحين تمت الصفقة فقد جاءت نقيض ما كان يدعيه صاحب »الفاتح« الذي استبدل النضال بالنظريات ثم اكد النظريات بإلغاء الآخرين وانتهى بان دفع ثمن رأسه فأضاع بلده ومبادئه…
بالأمس، هوى نجم كان له موقعه الهادي في سماء السياسة العربية في المغرب الاقصى: عبد الله ابراهيم.
عوض الله العرب في المغرب عن عبد الله ابراهيم قائدا ثوريا عربي القلب واللسان والمعتقد والهوى، وحفظ المغاربة من خطر التهجين الذي يخرجهم من العرب من دون ان يدخلهم في الغرب.
… وهذه حال جميع العرب، مشرقاً ومغرباً وبين بين، بعدما انطوت أعلام الزمن الجميل.
سمير التنير: الأزهار بدل الوحل!
»العام السابع عشر، عيد ميلادي. يمضي بلا شموع ولا قبلات. لا.. شموع كثيرة اضاءتها في قلبي اللحظة التي سطعت فيها الشمس فأحرقت عيني.. اللحظة التي سمعت فيها نوح الحمائم.. اللحظة التي اضاءت شموعها قلبي، فعلمتني ان الألم والكفاح هما الحقيقتان الخالدتان في هذا الوجود«.
اختار سمير التنير، الاديب الذي درس الاقتصاد حتى درجة الدكتوراه فيه، هذه الكلمات، في تقديم نفسه اكثر مما في تقديم قصصه.
ولأنني اعرف سمير التنير منذ اربعين عاما او يزيد، واعرف عن موهبة القص لديه، واعرف ايضا بعض اسباب حزنه العميق وبعض دواعي الخيبة التي اصابته من مجتمعه، فإنني اتفهم ان يختار عنوانا لمجموعة القصص القصيرة التي اصدرها مؤخرا من نوع »وحل في جبين الشمس«.
ولانني اعرف شيئا عن احوال سمير التنير وبعض اسراره الصغيرة، فإنني افهم لماذا اختار لتصدير مجموعته القصصية الجديدة مقاطع من قصيدة »حجر التحول الاخضر« للشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي يقول فيها بين ما يقوله:
».. وما كلماتي الا صلوات تصعد من بئر شقاء«.
ثم ينطق باسم جميع المغلوبين
»صراع بدأ الآن.. حبي مشنقة اصعدها في ساعات الصمت واشنق نفسي..
لكن جذروي تتشبث في هذه الارض المعطاء«.
ان سمير التنير يغالب يأسه من محيطه. يغالب خيبته من المرحلة التي بدأت وهاجة بالآمال، واعدة بانتصارات باهرة للرجال، ثم انتهت اشبه ب»وحل في جبين الشمس«.
كتب سمير التنير الاديب في الادب قليلا، وكتب »الاقتصادي« في الاقتصاد كثيرا: سبعة كتب في العلوم الاقتصادية، وستة كتب في الاقتصاد اللبناني، و52 كتابا في الاقتصاد العالمي.. في حين كتب رواية واحدة »الصمت والغضب« بالعربية ثم ترجمها الى الالمانية، اضافة الى عشرات القصص والمقالات الادبية في مجلات »الثقافة الوطنية« و»الاديب« و»الآداب«.
سمير التنير اديب شفه الحزن حتى صار قلمه ضلعا من اضلاع صدره، وعاندته ظروف حياته فلم ينكسر، بل قاوم وما زال يقاوم ليستنقذ الاديب فيه، ولو على حساب دكتور الاقتصاد.
.. بعض الأمل يا سمير. فليست الحياة »احرفا صغيرة« و»شموعاً منطفئة« و»وحلا في جبين الشمس« و»النور بالثمن« و»جنازة« و»الفجر ينزف«.
انها »النور في القلب« و»الازهار في كل مكان«.
هلا نزعت الوحل عن وجه الشمس يا دكتور؟!
أنجده يا ياسين رفاعية، وقد حاول ان يخفف احزانك بإهدائك نتاجه الجديد.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا يمكن ان يكون الحب خطيئة..
المغرور يرى انه بالحب يغدو إلها… اما المحب فانه يزداد ايمانا بالله الذي أوله حب وآخره حب. أنا اعظم المؤمنين حباً!