غزة تعود… فلسطين تذوب!
تعود غزة الى اهلها مثقلة بجراحها، ويعود اليهم بعض الفرح مصحوباً بغصة!
يُجلي جيش الاحتلال الاسرائيلي »ابناءه« من وحوش المستعمرين عن ارض غزة ولا تعود غزة الى فلسطين. يكاد جيش شارون يطلب الى اهالي غزة ان يعترفوا له بالجميل، وان يشكروه على تحريرهم من هؤلاء »الشريرين« الذين نغصوا عليهم حياتهم على امتداد الاربعين عاما الاخيرة، كأنهم هبطوا عليهم من المريخ، ولم يجئ بهم الجيش الاسرائيلي، ولم يستمر في حمايتهم حتى الساعة.. »واحيانا من انفسهم« ومن بكاء ارييل شارون!
تعود غزة الى اهلها، ولكن فلسطين تبتعد مفترقة عنهم لتستقر في مهجع الاحلام، مرة اخرى.
يشعر ابناء فلسطين في غزة ان الخروج الاسرائيلي ليس جلاء، وانهم يربحون هنا قليلاً ويخسرون من »القضية« كثيراً. ويخافون من آثار الالتباس بين »الخروج الطوعي« للمحتل، لاسباب استراتيجية، وبين »التحرير« الذي كانوا قد اتخذوا منه الطريق كي يعيد إليهم فلسطينهم ويعيدهم إليها.
تقف النساء على الشرفات، يحاولن اطلاق الزغاريد فيحبسها شيء من المرارة: وماذا عن مدننا وقرانا في »الداخل«؟ ماذا عن القدس؟ هل يطعموننا من لحمنا؟! يحصروننا ويحاصروننا في هذا الشريط الرملي، ويريدوننا ان نحتفل بالنصر؟!
يهز الرجال سلاحهم في الشوارع التي تضيق بهم، لكن الاسئلة الكثيرة تنغّص عليهم زهوهم: صار الأهل أبعد، صار العدو اقرب! والمستعمرات الصغيرة التي اخليت هنا ستنبت بدلاً منها مدن للمستعمرين في ما تبقى من ارض فلسطين خلف جدار الفصل العنصري الذي يعزل الفلسطيني عن الفلسطيني ليربط بين الاسرائيلي والاسرائيلي، بين وجهي الصورة: المستعمر الجندي والجندي المستعمر! والمهزلة في صورة احدهما يجلي الآخر عن غزة المحررة!
…وفلسطينيو الخارج الذين ماتوا الف مرة في انتظار التحرير، لا يعرفون الى الفرح طريقاً: هل سينتقلون من »لاجئين« في ديار الشتات الى »لاجئين« في بعض البعض من ارضهم في غزة التي كثرة الكثرة من سكانها الحاليين »لاجئون«؟
وجواز السفر ليس وطناً.. تماما كما ان الحقيبة ليست وطنا!
***
هل في غزة مبانٍ كافية للسفارات العربية، ام تراها ستكون في القدس المحتلة مع قنصليات في غزة المحررة المرشحة لان تصير نواة »الدولة الفلسطينية«.. وهي »نواة« لا يبدو ان محتلي الارض يريدون لها ان تصير شجرة مباركة أصلها في ارض فلسطين وفروعها في سماء فلسطين؟!
***
انسحبت إسرائيل من غزة لتحتل ما تبقى من عواصم عربية »مستعصية«، بعد، على »اللاءات« الشهيرة: لا تفاوض، لا صلح، لا اعتراف!
»اللاءات« دخلت المتحف، واسرائيل دخلت الجغرافيا والقرار السياسي للعواصم كافة، اسقط العرب الحرب من حسابهم فأسقطت اسرائيل الحاجة الى التفاوض والصلح.. وجاءها الاعتراف بلا ثمن! صارت هي من يتمنع عن الاعتراف بالدول العربية التي ثبت، بالدليل الملموس، انها ليست دولاً، بل هي كيانات كرتونية اصطُنعت على عجل وأقطعت لبعض الاقوام والعشائر والطوائف، لا هي قادرة على حماية »استقلالها« الا بالاجنبي، ولا هي تتسع لطموحات »شعوبها« فتلجأ الى القمع والتنكيل باصحاب الاحلام والافكار والاماني حتى يصمتوا خوفا من الموت الاسود او يهاجروا الى الموت الاخضر، حيث الدولار بديلاً من الوطن.
انسحبت اسرائيل من غزة، لكنها استبقت الفرح بجلائها رهينة: ستعوض غزة بفلسطين الداخل. لتذهب غزة الى الجحيم، وبحراسة اسرائيلية من البر والبحر والجو. ليقم فيها الفلسطينيون امارة او مملكة او حتى امبراطورية. ليقتتلوا على كل ذرة من رمالها، على كل موجة من بحرها الاسير، لا تطير فيها فراشة الا باذن، ولا تدب فيها دابة الا بترخيص، حتى اذا ما شرعت اسرائيل في التطهير العرقي للضفة الغربية، والقدس عنوانها وبيت الله فيها، كانت غزة ملاذ المهجرين الجدد من بيوتهم في مدنهم والقرى.. تتركهم يهربون من الاحتلال الى »الارض الحرة« ذات السيادة والشرطة والعلم والأمن الوقائي والاستخبارات والفصائل التي تضيق بها مخيمات اللجوء.
هل تتسع غزة لفلسطينيي الشتات: لاجئي 1948، ونازحي 1967، والعائدين باتفاق اوسلو 1994، والراجعين بالجلاء الاسرائيلي 2005؟!
…اما اسرائيل فتتسع ليهود العالم اجمع، بشرط ان يخلي الفلسطينيون فلسطين!
من زمان، انسحب العرب من فلسطين. صارت بندا مكتوبا باحرف من شمع في بيانات قممهم لكنها خرجت من سياساتهم. اذا كانت اسرائيل بوابة واشنطن فلماذا يحملون انفسهم عبء فلسطين التي لا مكان لها في البيت الابيض.
لا حرب، لا فلسطين… غزة تكفي نصراً للقمم العربية.
اما الاعتراف فمضمون. غزة هي عربون الاعتراف.
الاحتلال الاسرائيلي يمتد حتى اقصى حدود التمني العربي: من المحيط الى الخليج!
الجمهور يمضغ أحلامه مع الدرباس: ويح لنا!
لم يكن »الجمهور« الذي احتشد في تلك القاعة الأنيقة داخل المنشأة السياحية على بحر طرابلس »طبيعياً« بالكامل في علاقته بالمناسبة: تقديم ديوان جديد لشاعر عتيق ينظم قصائده بين مرافعة شفوية ناجحة ومرافعة خطية فاشلة، أو بين الاندفاع لإقامة تحالف سياسي ينجح اطرافه ويخسر منظمه، ومشروع تحالف آخر ينفض عنه كل المشاركين فيه فلا يتبقى لرشيد درباس غير ان يهجو من دعاهم إليه بمسلسل من النكات التي قد تجعلهم نواباً أو وزراء.
لكن المشهد يظل جديراً بالتسجيل: ان يتجمد بضع مئات من الرجال والنساء، في مقاعدهم، لساعتين طويلتين، لكي يسمعوا تقريظاً لديوان من التعليقات السياسية المنظومة شعراً، مع شيء من المباحث في اللغة والعروض واوزان الخليل، تمهيداً لأن يطل عليهم الشاعر بقراءات من قصائده فيسمعوا ويعوا ويصفقوا لبعض الصور التي تستثير فيهم ذكريات الزمن الجميل. كان الجمهور كهلاً يمضغ، بصمت، احلامه القديمة التي يرفض بعد ان يعتبرها اوهاماً.
أين جمال عبد الناصر، أيها القومي العربي الذي يلوم غيره وينسى نفسه، وقد أخذته الريح بعيداً عنها فلم يعوض بالجنوح يساراً النقص في العقيدة التي افترض انها تسببت بالنكسة في حين انها كانت ضحيتها الأولى.. وهل كل ما تبقى منها يندرج في خانة البكائيات؟
أين طرابلس الشام من طرابلس »ثورة الأرز«، وقاهرة المعز من قاهرة غزة، وقلب العروبة النابض من الحدود المقفلة بالاحقاد والكيديات والرغبة في الانتقام من الضحايا المتناثرين على طول الطريق بين بيروت ودمشق، والفيحاء والشهباء وصولاً إلى الموصل المقطعة الاوصال؟
كتبت على »الرمل ديوان النخيل، يا ابن عين يعقوب، فلا الرمل وعى ولا العين في قرية الصنوبر البري العكاري« تصونك من »البيات في مقام الذكريات«!
»ألم نؤدّ للزمان شوطه؟!«
»ترى سماتنا هي التي تهدلت؟ أم انها المرآة قد تجعدت؟
وسواد أهل الضاد لا يدرون »ما فصل المقال«..
»خلع ابن خلدون عمامته، وخبأ رأسه،
»وتهالك المأمون مطعوناً بسموم النصال..
»يتكرر الاعراب والأعراب تمييزا وحالْ«.
كان الجمهور الكهل ينتعش باستعادة ذكرياته فيصفق طرباً ثم تخمد حماسته حين يضغط عليه واقعه بقسوة وقائعه التي لا تعرف المجاملة.
ربما لهذا كان ضرورياً أن تنتهي الأمسية بماء قراح من عين يعقوب، لكي ينسى الجمهور ما سمعه من شعر ابنها الذي احترف خيانتها، منسجماً في ذلك مع مدعوّيه الذين بمجملهم خانوا شعارات شبابهم بعدما أعجزهم قصورهم عن حملها تمهيداً لتسليمها مدفوعة إلى جيل »رلى« التي حاولت تزيين الخيبة بريشتها الشابة فجعلتها أجمل من ان تكون حقيقة.
جناحان للقاء الوداع
.. وها هي الفرصة الأخيرة تضيع في غياهب الخوف من الحب!
النهر عريض، وذراعاي قصيران. أفضّل الغرق في بحيرتي السندس!
… وحين افترشتِ السهل انطوى الجبل الغربي على الجبل الشرقي ليكونا لك مظلة، فصارت الشمس أضمومة بنفسج حتى لا يُتعب النور عينيكِ..
فاض جسدك عن السهل، كما فاض به النهر قبل زمن، وما زالت سذاجتي تأخذني إلى الخوف من الطيران.
جبان! كنتَ جباناً، ومازلت جباناً، وستبقى جباناً حتى يومك الأخير! والجبان لا يحب! انه اضعف من ان يحب، واعجز من ان يحمي حبه! النهر، السهل، بحيرتا السندس، الشمس الخضراء… هذا كل ما تستطيعه: الكلمات! ليتك تصمت تماماً، حتى لا تهين بكلماتك المنافقة الحب الذي لا يقدر عليه إلا الرجال!
حاول ان يرد، وكان يشتعل غضباً… لكن الكلمات عصيته.
نظرها في عينيها كانت تبكي. اقترب منها فصدّته.
لا اريد شفقتك! انني ابكي خيبتي ولا ابكي خسارتك. اطلب الرجل فيك فلا أجد غير الطفل. هل تعرف معنى العشق؟! النهر ليس قصيدة.. هو التدفق الفائر، يغمر السهل، ويتحدى الجبل، ويستنبت الورد في عين الشمس.
كان جامداً كتمثال من شمع، والموسيقى تصدح عالية الايقاع فيطير إليها الرجال والنساء زوجين زوجين. سحبته من يده وأخذته في حضنها، وسمعها تنشج، فنبت له جناحان، وحلق بها إلى أعلى وأعلى حتى صار النهر خطاً أزرق يشق بطن السهل المسترخي بوداعة.. وصارت الشمس قمراً أخضر ينزف ضياءه لحناً رقيقاً للقاء الوداع الأخير.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أن تحب بقلبك فقط عذاب اليقين، الذي لا يرى،
وان تحب بعقلك فقط عذاب الشك الذي يرى ما لا يرى..
السعداء في حبهم هم من يعشقون بقلوبهم ويحبون بعقولهم.
اللهم امنحني حب الأصغرين!