الدول كثيرة، والأمراء عديدون، من أين يجيء الأمان؟!
حين غادرْنا بيروت، عصر ذلك السبت، قاصدين جنوب الجنوب، كان علينا ان ننتظم في طابور الهاربين من عاصمة المصارف والمطاعم والملاهي والمقاهي والجامعات ودكاكين التعليم والحَر والرطوبة والازدحام، والذين يتزاحمون، في تلك الساعة، عند مخارجها ليتوزعوا من ثم كل في اتجاه »بلاده«.
وحين عدنا الى المدينة الأممية التي يراها الشعراء »ست الدنيا«، مع مغيب شمس اليوم التالي، الأحد، اكتشفنا اننا إنما عبرنا في الطريق منها وإليها »دولا« عدة، لا تشكل بيروت، سياسيا بالضرورة، العاصمة المركزية للاتحاد الفيدرالي او الكونفيدرالي للولايات الدويلات اللبنانية التي تدعي ان بيروت قلبها ومركز القرار.
لم يكن صعبا، حتى على العابر، تمييز »الحدود«: فالرايات الحزبية وصور الزعماء القادة الابطال القديسين، وبعض الفوارق في اللهجة او في السلوك تنبئك بأنك قد »غادرت« فيدرالية فعبرت الحد الى اخرى…
لا ضرورة، حتى اللحظة، لحواجز الجمارك والأمن والمخابرات »السرية«: انتبه الى الشعارات تدركْ في اي »جمهورية« او »مملكة« او »امارة« أنت، وتحضرْ »اللغة« المناسبة للتخاطب مجاملة واتقاء للتصادم عملاً بقاعدة »على الغريب ان يكون اديبا«.
تحدق فيك العيون بتأنٍّ لتتعرف الى هويتك من ملامحك، حتى لو كنت عابر طريق.. سيما اذا لم تكن على سيارتك شارة او صورة ولم يكن على كتفيك »مشلح«، ولم تكن على رأسك قبعة تحمل شعاراً.. فكل هذه الرموز تخفي (وتكشف) مساحات من الغرائز والاحقاد وخنادق من الدم الذي اريق (او قد يراق) في صراعات الاخوة الاعداء.
الملامح هي الملامح، تقريبا، ولكن »اللغة«، وكذلك »اللهجة«، تختلفان من »دولة« الى اخرى، فمخارج الحروف فضّاحة، لا سيما القاف والتاء فضلاً عن الحركات من الضم الى الفتح الى الكسر وصولاً الى التسكين.
تختلف، ايضا، الملابس عند المتقدمين والمتقدمات في السن: الحجاب، او المنديل او الشعر المكشوف، الكوفية او الطربوش او اللبادة او القبعة. ان الشبان الذين تعولموا في الامكنة كلها، فتشابهوا الباسا ومسلكا وذائقة، لن تستطيع التمييز بينهم الا بهفوات في اللهجة الفضاحة مهما اجتهدوا في استعارة لكنة الآخرين: تميز الجنوبي الصيداوي عن الجنوبي العاملي والجنوبي الخيامي عن الجنوبي الحاصباني، والجبلي الشوفي عن الجبلي الكسرواني والشمالي الساحلي عن الشمالي الجردي والبقاعي الغربي عن البقاعي الشرقي… وهلم جراً.
… واللهجة طائفة،
واللباس طائفة، احيانا،
والطائفة اقوى من الدين وافتك من الكفر!
بيروت صيدا وما بينهما »الشهيد«
÷ من بيروت الى المطار تجتاز حدودا متداخلة لدولتين او ثلاث مع مساحة شاسعة.. ومن خلدة الى الاولي دولة فضاء، لارضها هوية ولسكانها هويات مختلفة وان ائتلفت الاغراض السياسية، في لحظة، داخل الرغبة في الثأر.
الى اليسار تنداح »الدولة الامارة« بتلاوينها المتعددة التي ترقى صعودا حتى ارز الباروك، بينما »الظل العالي« يغطي الشاطئ ومنشآته السياحية التي تعج بالسابحين وتزدهر فيها الاعراس ليلاً، حتى لو كان معمل توليد الكهرباء معطلاً بانتظار »الفيول« الذي يصل ولا يصل الى خزاناته القريبة.
النهر هو الحد، في السياسة كما في الاجتماع، بغض النظر عن غزارة مائه.
÷ صيدا موحدة الآن في قلب الحزن على ابنها الذي اخذته بيروت لتجعله زعيما فانتهى فيها شهيداً مستولداً بشهادته من قلب الكيان وطناً، لكن اهله ظلوا شعوبا وقبائل وطوائف تائهة في عباب آذار الذي له ألف وصف ووصف، والذي سيجد خاتمته في حزيران فإذا هي ثمار مُرة مغايرة تماما لما وعدت به البدايات ومؤكدة بديهة تقول ان تجميع الاحقاد لا يبني وحدة وطنية.
÷ ما بعدا صيدا ليس مثل ما قبلها: اختفت لافتات وصور وشعارات، وحمل كل عمود اسم شهيده والعلم المميز لتنظيمه. اختلطت صور المرشحين بصور الشهداء حتى تكاد لا تعرف من منهم فاز في الانتخابات ومن الذي حظي بجنات النعيم.. على ان صور الزعماء الثابتين والدائمين ظلت هي الاضخم والابهى ألوانا، ثم انها مضاءة بالكهرباء المجانية تشع ليلاً فتهدي من ضل السبيل.
كلمة »معك« هي المشترك، على اللافتات الانتخابية: وحدها، على البعض منها، مطلقة، لان الصورة تكمل المعنى، ومشفوعة بكلمة »الله«، احيانا، او بكلمة »الجهة« احيانا اخرى… ليس مهما من هو »المعني«، المهم ان اللافتة تحدد لك موقفك بموافقتك، مضمرة او معلنة.
تبرز »جزر« صغيرة داخل »البحر« لا تبدل من طبيعة »الهوى«، لكنها تضيف الى الكثرة الغالبة رموزاً للمؤلَّفة قلوبهم.
من البقاع إلى الشمال: الأرخبيل!
÷ يتصل الجنوب بالبقاع وينفصل عنه بوادي التيم.
البقاع غرب وشرق يتقاطعان عند الوسط الذي يعكس حالة التحول: صار لكل جهة عاصمتها.. وشتورا التي لم تكن اكثر من محطة ابتدعها نجيب حنكش مع بديعة مصابني، باتت هي المركز حيث وحدت السوق، بالدولار، بين الطوائف والمذاهب و»القوميات«، اكثر مما وحدت سندويشات اللبنة بخبز الصاج.
لم تعد زحلة العاصمة السياسية. غابت بعلبك عن القرار. اختفت جب جنين وصغبين ودير العشائر كمراكز. حضرت النبي شيت والهرمل بحدود، حضرت المرج وبعلول، لكن المركز صار في بيروت وضواحيها، شرقا وغربا. سعد قريطم وسيد الضاحية وجنرال الرابية ودار المختارة مع بدائل بشراوية مستعارة لدير القمر.
÷ من بلدتي الغارقة في النسيان العام والخاص، كان علينا ان نختار طريقاً للعودة؟
أخذنا الهوى شمالاً، في اتجاه ظهر القضيب ومنقلبه بشري زغرتا طرابلس وصولاً الى المنية.
نقطع المسافة بين اعلام »حزب الله« واعلام »القوات اللبنانية« في دقائق.. لكن المناخ هنا غير المناخ هناك. الناس متجاورون منذ اقدم الازمنة في قلب الفقر. لقد كانوا الى ما قبل جيلين متشابهين الى حد التطابق في العادات والتقاليد والسلوك، من الثأر الى المصالحة العشائرية، الى انواع الطعام واشكال اللباس، الى »التمرد« بزراعة الممنوعات كعلاج اخير للاهمال والسقوط من ذاكرة الدولة.
÷ بشري مجللة بصور السياسيين القدامى الذين فُرض عليهم التقاعد قبل موعده، وأبطال المرحلة الجديدة الذين استعادوا اعتبارهم من سنوات السجن بتهم ابسطها القتل واغتيال القادة فأخرجوا منه بشارةً لعصر الديموقراطية الآتي بملامح من أُخرج من محبسه قديساً وقائداً للمستقبل.
الصور اكثر من الناخبين، والمرأة التي هزمت اهلها خصومها تتواضع امام قائدها الذي مكث معها قليلا وغاب عنها طويلاً.
على التخم بين بشري واهدن الذي طالما شهد حروب القبائل، منطقة عازلة، تمهد لاختلاف السياسات عبر الصور الكثيفة للزعيم الذي اسقطه هياج الثأر، وعلم »المردة« يكتسح علم »القوات اللبنانية« حتى يطمسه تماما ويخرجه الى ما بعد حدود زغرتا فيعودا معاً الى الظهور في بعض شوارع طرابلس العليا جنبا الى جنب مع صور وجهاء الفيحاء وأعيانها والمتمولين الذين حملتهم موجة الثأر الى الزعامة معززين بشعار »معك«، وبالجملة التي لخصت التجربة الديموقراطية الجديدة: »زي ما هيي«.. بينما عاد تعبير »طرابلس الشام« الى التاريخ.
÷ في المنية تختفي الاعلام التي تُعرف من خلالها حدود الطوائف، ويطل طيف الازمة مع سوريا ليضاف كعنصر حاسم في الانتخابات.. لكن المواسم تفرض منطقا مغايراً للشعار، ويحتل فتح المعابر اهمية تتجاوز كل المحليات.
الأنهار كحدود طائفية للديموقراطية
في طريق العودة كان سهلاً علينا تمييز الحدود بصور المرشحين واعلام تنظيماتهم، القديم منها والمستجد.
في البترون تتجاور صور الطوائف، للضرورة، فإذا ما خرجت من نطاقها الى عمشيت فجبيل عادت الاعلام التي تركتْها في اقصى الشمال تحتل الساحل متداخلة الآن بحيث تضيع الحدود بين الجنرال العائد الى القيادة والقائد الخارج من السجن الى شهر العسل تمهيداً للعودة الى الميدان.
ولأن الأنهار في لبنان تقوم مقام الحدود، في غير منطقة، فإن »نهر الكلب« يمثل حداً للائتلاف بين مرارة القديم المستمر وحلاوة الجديد المبشر بالمختلف.. فإذا ما وصلت الى »نهر بيروت«، الذي يفيض وحولاً في الشتاء ويفتقد المياه صيفا، كمعظم »انهار« لبنان، ذهب الجنرال الى الظل وشحبت اعلام »القوات« وخلا الجو للصور التي تحمل كلمة »شكراً«.
إن أنت انحرفت قليلاً في اتجاه الحازمية أصابك شيء من الحول اذ تختلط اعلام »القوات« و»حزب الله« والتقدمي الاشتراكي و»أمل« والقومي السوري وصور الامير الارسلاني وبعض احزاب الوجاهات الانتخابية.
***
تحاول ان تحصي في ذهنك كم دولة عبرت حدودها خلال هذه الرحلة داخل بلدك الصغير بمساحته الغني بمنوعاته الطائفية بحيث يبتدع اصنافا فريدة من الديموقراطية.
»الدول« كثيرة، والمطلوب واحدة،
الطوائف كثيرة، من اين تجيء الديموقراطية؟
الامراء عديدون، من اين تجيء الوحدة الوطنية؟
وحدود الاخوّة مقفلة بالاحقاد، من اين يجيئك الأمان؟
هذا هو لبنان الذي كان صغيرا فكبّروه، وها هم الآن يلخصونه ببضعة رجال وامرأة او اثنتين!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب جلاب للثرثرة. يريد المحب ان يكشف لحبيبه رأيه في كل الامور، حتى تفاصيل التفاصيل.
حبيبي يسمعني بقلبه ويرد بعينيه فأفهم ان الشفتين تقدران على اداء مهام اخرى غير الكلام.
احلى الكلمات تلك التي لها… هسيس!