تجديد الارتباط التاريخي بين جمال الأتاسي وحسين العودات
هي مصادفة قدرية ان ترتبط الذريعة المعلنة لاعتقال الكاتب و»الناشط السياسي« السوري الزميل حسين العودات باسم المفكر العربي الكبير الراحل الدكتور جمال الأتاسي.
فلقد دهم »زوار الفجر« منزل حسين العودات في ضاحية المزة الانيقة بدمشق، صبيحة يوم الثلاثاء الماضي، لاعتقاله بوصفه عضوا بارزا في الهيئة الادارية لمنتدى جمال الاتاسي، من ضمن »حملة امنية« شملت معظم زملائه من المتبرعين ببعض وقتهم من اجل ادامة واحة الحوار الوطني هذه، والحرص على مستوى النقاش فيها.
و»منتدى الاتاسي« تحول بفضل نشاط هيئته الادارية الى رئة تضخ الهواء الصحي والنظيف في افق الجدل المحتدم حول دور الشعب وحقه في العمل لحماية وطنه في هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها سوريا، تحت ضغط الحصار الاميركي، بل الغربي، لتدجينها واحتوائها في »مشروع الشرق الاوسط الكبير«.
كان منطق القيمين عليها: فلنجمّد خلافاتنا الفكرية والسياسية مع أهل النظام ولنتقدم لنواجه معا، تداعيات الاحتلال الاميركي للعراق، والتدمير الاسرائيلي المنهجي لقضية فلسطين، فضلاً عن تفاقم الحملة على الوجود السوري في لبنان باستغلال الارتكابات اليومية »للرموز« التي تقدم نفسها على انها »الممثل الشرعي« لسوريا، دولة وشعبا ومصالح حيوية عليا.
لم يكن ذلك النفر من المثقفين والمهتمين يمثلون أحزابا او تيارات سياسية »معادية«. كانوا وطنيين حتى العظم، ومعادين للامبريالية والاستعمار والرجعية والصهيونية حتى النخاع. لكنهم كانوا يتألمون لحالة الارتباك السياسية السائدة، وتخجلهم الاخبار الواردة من بيروت عن مباذل من يمثلون او يدعون تمثيل سوريا في لبنان، ويرفضون ان يُدفنوا احياء في مقبرة الصمت بينما هم يرون الاخطاء والخطايا تتحول الى بحر جارف لا يهدّد النظام فحسب بل يهدد سوريا، وطنا وشعبا ودورا ومصيرا.
وكانوا قد أحسنوا الظن بالرئيس بشار الاسد، واظهروا اعجابهم بشبابه وحيويته واعلانه عن الحاجة الى فتح ابواب الحوار الوطني على مصراعيه… بل ان بعضهم كان بين من دعاهم الرئيس والتقاهم اكثر من مرة، وناقشهم وناقشوه، وخرجوا من لدنه بانطباع مفاده »انه مثلهم« يدرك الحاجة الى التغيير، وانه عازم عليه، وانه يعرف ان الحسم ضروري… لا سيما وقد ضاعت البصرة!
ما علينا من حكايات الأمس، فوقائع اليوم هي اساس الحكم على التمنيات.. ووقائع اليوم مفجعة، خصوصا وانها تؤكد ان الكلمة الاخيرة »للأمن« وليس »للعقل وللحكمة«، او لدواعي الوحدة في مواجهة العدو الوطني والقومي، وليس لتصفية الحساب مع المختلفين في الرأي.
حتى لا يُقفل باب التجديد
على أن هذه الواقعة ليست مصدر الترابط »التاريخي« في ذهني بين جمال الاتاسي وحسين العودات، وإنما يشرفني الاعتراف بأنني سعيت لان اكون واحدا من حواريي المفكر الكبير الراحل، وانني كنت وما زلت وسأبقى اعتز بصداقتي وزمالتي لرفيق العمر »ابي خلدون«.
فقبل خمس وثلاثين سنة، تقريبا، تعرفت الى حسين العودات، وكان يومها يشغل موقع »المستشار الاعلامي لرئيس مجلس الوزراء« في سوريا. وكان قد وصل الى هذا المنصب بعد مسيرة حزبية طويلة، وبعد دأب على تثقيف الذات، يرافقه حرص شديد على الخروج من دائرة الصراعات في حزب البعث التي بدأت بالتفجر عشية اعلان الوحدة بين مصر وسوريا في »الجمهورية العربية المتحدة« تحت قيادة جمال عبد الناصر، والتي تفاقمت جدا بعد »الانفصال« وعودة الحزب الى النشاط العلني، ثم الى السلطة وسط سلسلة من الصدامات الدموية والمؤامرات السياسية والمناورات المتكررة لاستقطاب العسكر او مراكز القرار في الجيش واجهزة المخابرات.
كان يمكن من مكتب »ابي خلدون« في مبنى مجلس الوزراء، بدمشق، ان نطل على عيادة الدكتور جمال الاتاسي (واختصاصه الطب النفسي)…
وكنت اتقصّد ان اقتطع بعض الوقت لزيارة الدكتور الاتاسي، كلما قصدت دمشق في مهمة صحفية، او حتى في زيارة عائلية… فلقد كان مثقفا كبيرا، صافي العقيدة عربيا، مفتوح الذهن على الافكار الجديدة، وكان قد طلّق السياسة بمعناها اليومي، وأخرج نفسه من دائرة الصراع على السلطة، مكتفيا بان يحمي فكرة الوحدة وبان يعمق الحوار حولها من خلال كتاباته ومحاضراته وجهده في بناء »الاتحاد الاشتراكي« المتحدر ككثير من الاحزاب الاخرى التي غطت الساحة في الستينات من صلب حزب البعث العربي الاشتراكي.
فاما حسين العودات، المتحدر من حوران، والذي اوصله اجتهاده واصراره على تثقيف الذات ان يرتقي من معلم ابتدائي الى استاذ جامعي يدرس الفرنسية، والى صاحب رأي مستنير، فكان يتحدث الينا غالبا بلهجة »العارف«.
واما الدكتور الاتاسي الذي كان ينأى بنفسه عن يوميات السلطة وصراعاتها فكان يحدثنا بلهجة »العالم«…
حسين العودات واقعي جداً… واما جمال الاتاسي فأقرب إلى ان يكون حالماً.
لكن هذا المتحدر من أسرة حاكمة وعريقة مركزها حمص، الأتاسي، وذاك المتحدر من اصول فلاحية في قرية »الميادين« في حوران، كانا يشتركان في صفاء السريرة، وصدق القول، والروح الحوارية، والرغبة في قهر المستحيل، وتحدي الهزيمة، وتوكيد الايمان بقدرات الشعب الامة وبأهليتها لان تكون صاحبة دور حضاري يليق بتاريخها ليكون لها المستقبل الذي تستحق.
ولقد ظل الدكتور جمال الاتاسي يكتب ويحاضر ويناقش ويحاور، ولو في حلقات ضيقة، خصوصا بعدما هدّه المرض واليأس والتقدم في العمر، حتى قضى نحبه وفي صدره حزن عميق على حال الامة.
اما حسين العودات فقد ترك العمل الحكومي وهو في اعلى الهرم الوظيفي، وعاد يحاول استرجاع علاقته بمهنة الصحافة، او بالثقافة عموماً… وهكذا فقد تولّى مسؤولية بناء دار للنشر (دار الاهالي) وافاد من صداقاته العربية (في لبنان ومصر وبعض اقطار المغرب والخليج) ليوفر لها فرصة الانطلاق والنجاح.. كما قدم خبراته في مجال الثقافة والاعلام لعدد من المؤسسات المعنية كاليونسكو العربية، والاتحاد العربي للاذاعة والتلفزيون.
على انه بعد فترة من نشاطه متعدد الأبعاد سرعان ما بات نجماً في الفضائيات، محاورا وداعية ومحاضرا في العديد من وجوه الثقافة العربية كحقوق الانسان وحرية المرأة، فضلا عن كفاءته الصحافية، وقدرته على التحليل الدقيق.
ماذا تريد يا أبا خلدون اكثر من ان تُعتقل بذريعة حماية كرامة المنتدى الذي يحمل اسم احد آباء الفكر العربي التقدمي، الذي منه نشأ وتأسس »حزب البعث العربي الاشتراكي« قبيل منتصف الاربعينات، والذي ما زال ثمة من يحكم باسمه حتى اليوم، برغم اعتراف الجميع بان الحزب قد غادر اسمه فعلا منذ زمن بعيد…
ولعلهم سيعلنون في المؤتمر المزمع عقده بعد أيام في دمشق الفصل الكامل بين الاسم والمضمون، او بين الحزب والدولة، او بين السلطة والعقيدة.
لكن المؤكد أن واقعة الثلاثاء الماضي قد وحّدت مرة جديدة بين جمال الاتاسي، بكل ما يمثله وما يرمز اليه، وبين حسين العودات وما يطلبه ويريده… فحلم الرجلين مشترك، ولعله الآن حلم الرجال والنساء جميعا، حتى لا ننسى »ام خلدون« و»ناهد الاتاسي« وفايزة الشاويش والآخرين.
محمد كريم يؤنسن بيروت فيطربنا
كثيرة هي الكتب عن بيروت. البعض كتب عنها من موقع »الرحالة« والبعض من موقع »المؤرخ« المتتبع لهجرات الاسر واصولها، والبعض تغزل بها كمدينة مشاغبة، تنبض بعشق الحرية، وتفتح صدرها شارعاً للنضال الوطني بأبعاده القومية، فإذا حاديها فلسطين، واذا فارسها جمال عبد الناصر، واذا اميرتها جميلة بو حيرد، واذا شاعرها كمال ناصر وإذا رسامها المبدع ناجي العلي.
ومعظم من كتب عن بيروت كتب عن هذه المدينة المتوهجة التي انبثقت من قلب سلسلة من المصادفات القدرية، التي يمكن التأريخ بها لحالة النهوض العربي الحديث، مع نهاية العقد الرابع من القرن الماضي، والتي توالت فيها على الامة العربية عموما، وعلى بيروت التي صارت صناجتها ومصرفها ومنتداها ومشفاها ومقهاها وجريدة الصباح، سلسلة من الاحداث الجسام بلغت ذروتها باجتياح العدو الاسرائيلي في العام 1982… فاحترقت ولم ترفع الاعلام البيضاء.
لم يكتب أحد عن بيروت إلا بقلم عاشق، لكن ابنها البار محمد كريم كتب لها، وكتب بها، فغنّاها كشاعر، واستعاد أيامها الخوالي كحلم، وقدّم عن أهلها صورة من الداخل، كاشحا سمعة أهل السوق. لقد اعاد البيارتة الى صورتهم الاصلية، كبشر طبيعيين، لهم عاداتهم وتقاليدهم ومباذلهم.
وصف محمد كريم، بذاكرة متنبهة، حال بيروت، بلغة بسيطة بساطة حياتهم أيام صباه الاول. وصف بعين طفل، ثم نقّح بحكمة كهل، ولكنه حفظ الصورة الاصلية لحبه الاول والدائم، وهو حب صافٍ، لا تمسه العصبية من قريب او بعيد: وصفها أيام الحرب، أهلها في الملاجئ ينتظرون الاعاشة، دون ان يغفل »مكارم« عسكر الحلفاء، واستعاد حكاياتها العتيقة مع الانس والجن، ثم طاف مع اطفالها خلف »صندوق الفرجة« واحتفالاتها وابطال هذه الاحتفالات، فاستذكر طبل الزغلول، واربعاء ايوب، والحلاقين الذين عندهم علق، والمظاهر الدينية بما فيها النذور ورمضان وحرش العيد، والاحياء والاسواق وبحر بيروت.. وتوقف عند بعض الشخصيات التي لم ينسها وما كان يجب ان ينساها وأخطرها الشاعر الشعبي الأهم عمر الزعني.
ولعل واحدة من أبرع الصور الكاريكاتورية تلك التي قدّمها عن خياط الملوك والأمراء البارون بيزانت.
محمد كريم الذي كتب، من قبل، عن المسرح في لبنان، والذي لا يمكن اصلاً ذكر اسمه إلا مرتبطا بالاذاعة والتلفزيون والمسرح والراحلين محمد شامل وشوشو، غنى في كتابه الجديد بيروت التي كثر من يدّعي، الآن، انه »صاحبها«. غناها باعتبارها الأم، الأرض، الحضن والملهمة، مصدر الاعتزاز والكرامة.
لقد مجّد بيروت حين اعاد إليها بساطتها، وحين كتب عن أهلها اكثر مما كتب عن عماراتها. لقد أنسن محمد كريم مدينته فأطربنا.
من أقوال »نسمه«
قال لي نسمه الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أحب ان يناديني حبيبي باسمي، حتى يعرف الناس جميعاً عنوان الحب. لكنني أفضل أن يتركني اسميه فيعرف الناس المصدر. حبيبي وأنا فاذا الحب مشاع.