أحمد زكي: انطفاء حلم
انطفأ احمد زكي في لحظة مثقلة بالرمزيات: لكأنه انطفاء للسينما المصرية بما هي »فن عربي«، وبما هي صلة وصل عربية عربية.
من قبلُ، سقط التواصل الفني، الموسيقي، الغنائي، المسرحي، والى حد ما الادبي، بمعناه »القومي«. وبدلا من ان تكون المغاربية والخليجية واللبنانية والسورية، في الفنون عموما، ادوات تواصل وتكامل، وتعبيرا عن غنى المخزون الثقافي وعن وحدة الوجدان العربي، وعن السعي إلى إغنائه بالابداع الجديد، صار »فن« كل قطر يسعى إلى دحر »الفن« الآخر، الوافد، والانتصار عليه ولو بتدميره.
كان الفن اداة جمع، فصار الى حد كبير سلاحاً للقطع. صار فرصة لتأكيد وجود الاقليم وتقدمه بأفكار الصلة والقطع مع الاقاليم الاخرى.
لحق الفن بالسياسة. السياسات انفصالية تقوم على الكراهية والضدية. صار لكل »دولة« سياسة كيانية لها عدتها الثقافية والفنية المستقلة. قد تقبل الآخر، غير العربي، وقد تقدمه على فنون ابنائها، اما فنون القطر العربي الآخر فممنوعة ومحظورة… اللهم الا »الهابط« منها، اذ تفتح له الابواب جميعا، ابواب القصور وابواب التلفزيون والاذاعة وابواب الكباريهات والمهرجانات الثقافية.
متى آخر مرة سمعت فيها مطربا مصريا في وسائل الاعلام اللبنانية والسورية والسعودية والمغربية والجزائرية، والعكس بالعكس! اما المهرجانات فلها حساب آخر يتصل بالترويج واستقدام الجمهور بالاكثر اثارة وليس بالاكثر اصالة.
ايام الرجعيات والدكتاتورية كانت اسعد حالا. لقد انجبت ما يؤكد وحدة الوجدان ويوثق الترابط ويبلور الذوق العام. لقد تخطى الفن الحدود بغير كبير جهد. كان محمد عبد الوهاب وام كلثوم واسمهان وفريد الاطرش وليلى مراد وصباح ومن ثم فيروز والرحابنة وصباح فخري وناظم الغزالي وغيرهم يتخطون الحدود ويصلون فيوصلون بين المستمعمين، بوسائل باتت اليوم بدائية: الاذاعة والاسطوانة والشريط…
لقد تهاوت »صناعة« الفنون في مصر التي شكلت لحقبة طويلة، الرابط بين الجمهور العربي، في مختلف اوطانه. ومع التقدير لأي فن »وطني« نشأ في اي قطر فقد بتنا نفتقد الاصوات الجامعة، واجمالا الانتاج الفني الجامع في السينما والمسرح والموسيقى والطرب.
صار التلفزيون في معظم الاقطار العربية، هو اداة الترويج للحاكم »القطري« بطبيعته وبمصالحه، والذي يريده »عازلا« لشعبه عن »الآخرين«، وفي احيان كثيرة منبر العداء والمخاصمة والكيدية والحملات المنظمة على الحكام المنافسين… وبالتالي فلا بد من ان يلغي كل ما يجمع، وكل ما يؤكد الترابط وعلاقات القربى ووحدة الوجدان بين الشعوب.
منذ متى لم يدخل المشاهد العربي صالة سينما تعرض شريطا عربيا، بممثليه وممثلاته ومخرجه ومنتجه؟!
لقد بارت صناعة السينما في مصر. تخلت عنها الدولة وحولها القطاع الخاص الى ما يشبه »الكباريه« او الدكان الذي تباع فيه اللذة الرخيصة والضحك الرخيص.
كثرت المؤتمرات وتناقصت العلاقات وتبادل الخبرات والتجارب بين المبدعين العرب. صار »الدولي« هو الأساس بتشكيلاته المختلفة وبميزانياته المحترمة. الدولي جعل كل حي في اي مدينة »دولة« بل امة لها موسيقاها وانماط غنائها وادبها الشعبي وثقافتها الخاصة.
احمد زكي، الفنان الممتاز، كان واحدا من الروابط الباقية.
قبل احمد زكي خسرنا توأمه الفنانة المبدعة سعاد حسني. لم تخسر السينما المصرية احد نجومها. لقد خسر العرب بعض صلات الوصل بينهم حيث يتلاقون بهمومهم الثقيلة وافراحهم الصغيرة.
احمد زكي: لقد انتهت معك مرحلة كنت فيها، مع قلة من زملائك الفنانين الممتازين، بين آخر روابط الوجدان بين العرب.
احمد زكي: لقد خسرنا معك بعض عمرنا بكل احلامه السَّنية التي تكاد تتحول مع الردة الانفصالية المعززة بالديموقراطية الاميركية وجدار الفصل العنصري الاسرائيلي في قلب فلسطين، الى كوابيس »قومية«.
ليس انطفاء نجم. انه انطفاء حلم.
مغامرة السفر من بيروت إلى دمشق
صار الذهاب الى دمشق »مغامرة« تستحق المساءلة وربما المحاسبة… ويرافقك الشعور بانك تقدم على امر جلل طوال الطريق التي افرغها الخوف المزدوج من سالكيها ذهابا او ايابا. صار »سفرا« مجللا بالشبهات، كأنك تخرق حرما، او تتحدى »ارادة دولية« فضلا عن استفزازك مشاعر الغاضبين الذين يملأون الشوارع بالاعلام واللافتات والهتافات التي تطالب »بطرد« سوريا، تلحق بها اللعنات ولوم المقادير التي جعلتها عند حدود لبنان الذي لا تحده حدود.
الطريف انك تواجَه بالارتياب »هناك«، قبل ان تتخلص من عبء الشبهات التي تحف بك في الذهاب والاياب، »لبنانيا«: ذاهب الى دمشق؟! هل هذا ضروري؟! ألا يمكنك ارجاء هذه الرحلة في قلب الخطر!! لا تعرف كيف سيستقبلونك هناك وسيارتك بلوحة لبنانية… ماذا لو تعرضوا لك؟! هناك روايات كثيرة عما يرد به السوريون على تعديات اللبنانيين على ابنائهم هنا، زواراً وعمالاً وعابرين.
الطريق التي كان النقص في ازدحامها مؤشرا على الغلط في السياسة، ومن الاتجاهين، تكاد تكون فارغة الآن إلا من الغلط. لقد احتلها الغلط تماما فأفرغها من الناس ليملأها بالخوف من الحاضر، وبخوف أشد على المستقبل.
لقد سدت الاخطاء السياسية هذه الطريق منذ زمن بعيد.
صار »الخط العسكري« خلال فترة التيه هو الطريق، تزدحم عليه سيارات »النافذين« وفيهم السياسي والسمسار، تاجر الحديد والخشب والمهرب »الشرعي«، اما طريق الناس الطبيعيين المؤمنين بالعلاقات الطبيعية بين بلدين متكاملين تجمعهما القربى والمصالح المشتركة واطماع العدو الواحد، فكادت تكون فارغة لان الطبيعي قد أنقِصَ الى »ممتاز«… وهكذا بات »الخط العسكري« للممتازين الذين يخالفون الطبيعة ويتجاوزون منطقها فتكون النتيجة اغتيال ما هو طبيعي في السياسة كما في الاقتصاد، في الامن كما في التجارة، في الصناعة كما في الزراعة، في الثقافة والجامعات كما في العمالة وحركة رؤوس الاموال…
صار »الخط العسكري« معبراً للغلط… وتزايد عابروه بما يدل على تعاظم الغلط، فقد صار دليلاً على التمييز بين اللبنانيين، بين اصحاب الحظوة منهم لأسباب غير مفهومة، في الغالب الأعم، وبين سائر المواطنين المؤمنين بالاخوة اللاغية للحدود. صار امتيازاً لمن لا يستحقون، على حساب الأكثرية التي كانت مستعدة لحماية العلاقة الطبيعية بشغاف القلب.
* * *
الشام هادئة تماماً، كعادتها. هادئة بأكثر مما تتوقع. هادئة بأكثر مما تحتمل الظروف الدقيقة التي تعيشها، في ظل صرخات الغضب الموجهة إليها من شوارع بيروت وساحاتها، حيث تحول العتاب الأخوي، في ظل التجاهل والارتباك ورد الفعل المتشنج، إلى ما يشبه »الثورة« العاتية التي يسهل فيها تصوير الأخ الشقيق عدواً، ولا سيما أن ثمة جريمة لا يمكن طمسها ولا تغطيتها بالعودة إلى ثوابت التاريخ والجغرافيا والمصالح. كان لا بد من اجوبة قاطعة في وضوحها، ومن تصرفات مؤكدة لمضمون الشعارات، خصوصاً ان مباذل السياسة قد استهلكت الشعارات فجعلتها جوفاء، بلا صدى، بلا دلالة، بلا معنى الا لمن أراد استخدامها للتدليل على نقيضها.
لا سيارات لبنانية في عاصمة بني امية. لكن اللوحة اللبنانية لا تستفز احداً. السوريون الفقراء يزدحمون في شوارع المدينة ذات التاريخ المتوهج، يملأون الحارات العتيقة التي تفتش عن العيد في يوم العيد.. يمضون إلى شؤونهم بالصبر الذي ادمنوه. لا قلق، ولكنْ ثمة حزن تشي به العيون.
كان العيد في الشارع، وديعا مثل اصحابه، لا يخص طائفة بالذات ولا دينا بالذات… حتى العيد الديني في سوريا وطني التقاليد والمظاهر. العيد مثل اصحابه، متواضع، بسيط، إنساني، لا تحف به الابهة وطقوس اظهار الثراء وبهرجة محدثي الغنى والنكاية بالغير واذلال الفقراء.
دمشق تفتقد بعض روحها التي كانت تستقبل بها اي وافد عربي وكأنه عائد إلى بيته، اما »اللبناني« فكانت تخصه بحنان الأم… خصوصاً إذا كان قادماً إليها عبر الخط العادي، اما القادمون عبر الخط العسكري فلم تعرفهم دمشق ولم يعرفوها!
أما السفر من دمشق الى بيروت فحديثه اعظم ايلاماً وادهى!
عيد للأمل
تستقبلك عند الباب صورة للفرحة التي تتطاول الآن لتقف على قدميها، عنوانا للربيع الذي وُلد من رحم الوجع واليأس وانحطام القدرة على انجاز ما لم ينجح الآخرون في انتاجه ليكون للناس طريق للخروج من المأزق.
الصالة مزدحمة بالبهجة والأمنيات الطائرة الملونة والموسيقى التي تأخذ الى الرقص، وفي العيون المغشاة بدمع الشكر يلتمع الرجاء بأن الحياة ستنساب الآن في مسارها الطبيعي، بالتعب والرغبة، بالخذلان والنجاح، بالمآسي والانجازات.
ها هو الغد يتمايل بما يشبه الرقص، ويحرك يديه الصغيرتين بما يشبه الطرب، ويتأتئ بألفاظ تشبه الكلام… انه الأمل بتمامه.
تصاغر الكبار لعلهم يربحون معه دورة اخرى من عمر الطفولة. تعثروا بوقارهم وهم يدبون، مجتهدين، في تقليد حركاته، ثم اجبرهم الألم في الظهور على الوقوف وقد انعقفوا محدودبين بتعب التقليد… ولكنهم استمروا يتقاذفون البالونات الملونة، يهزون خصورهم، يحركون ايديهم كمن يلتقط الهواء، ويضحكون مقهقهين غير عابئين بانكشاف الاسنان الاصطناعية، واختفاء الملامح في اعماق التجاعيد.
الفرح عيد ميلاد جماعي. صار عمر الفرح سنة. لقد استعاد كل من شهد العيد سنة ضائعة من عمر طفولته التي لا تهرم ولا تشيخ.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يغيب الحب وان غاب الحبيب، يتعاظم الحب تعويضا عن الغياب، حتى ليشغلك عن كل من حولك وما بين يديك. الحب انت، فكيف تكون نسختين إلا إذا توحدت في حبيبك؟!