رحلة عبر الشعارات من الخطأ إلى الخطيئة
المشهد اللبناني مبهر: الساحات المفتوحة تضيق بعشرات الالوف من الشباب والصبايا، بالفتية الذين فتحوا عيونهم على الدمار والاحقاد والقطيعة مع »الآخرين« الذين كانوا »أخوتهم« ثم تاه كل في طريق فعز اللقاء…
لم تعد التظاهرة، في بيروت، حدثا. صارت تقليداً يومياً مثل الذهاب الى الجامعة او الى العمل.. بل هي صارت أجمل: لكأنها موعد غرامي لمراهق يتعلم كيف يحول الشهوة الى حب مقيم.
لكأن الجريمة التي اودت بحياة رفيق الحريري قد كسرت حاجز الخوف بدلا من ان تحبس الناس بالرهبة في قوقعته.
لكأن الانفجار الذي ما زال دويه يتردد في الوجدان وما زالت اصداؤه تستولد المزيد من التحولات وردود الفعل الغاضبة، يجذب ما كان قد اخرج نفسه من الاهتمام بالشأن العام.
لقد اغتيل »الصح« في رفيق الحريري، فهل يلام »الخصوم« في الداخل والخارج ان هم استثمروا الجريمة التي تشكل ذروة لمسلسل الاخطاء بل الخطايا المتتابعة والمتراكمة بحيث كادت تسد آخر باب للأمل بالتغيير.
بديهي ان نسمع من عزمي بشارة، اذاً، ان الاغتيال قد ادخل رفيق الحريري الشهيد كل بيت في فلسطين المحتلة ال48 و67 وحتى اليوم والغد. القطب السياسي، رئيس الحكومة، الشخصية المذهّبة هائلة الحيوية، واسعة العلاقات الدولية، كانت موضع خلاف بين الفلسطينيين… لكن الشهادة، ادخلته البيوت وأخرجت منها »السلطة« اللبنانية وكل مشتبه به.
بديهي ان نستنتج من كلام عزمي ان الشظايا القاتلة قد اصابت العروبة في فلسطين فأدمتها…
ولان رفيق الحريري الشهيد قد اغتيل وهو أقرب الى المقاومة وافعل في دعمها وحمايتها، من اي يوم سابق، فإن أذى جسيماً قد لحق بالمقاومة، حزباً وفكرة ومنهجاً نضالياً وجمهوراً عريضاً يرى فيها القدوة والمثل الأعلى، والرد على حالة الانكسار.
الطوفان من الريف إلى المدينة
المشهد ولا ابهى: لكأنما انهارت جدران السد فجاء زمن الطوفان. طوفان الاحلام المنكسرة، والرغبات المقموعة والاماني التي صارت خطراً على حاملها لأنها تأخذ الى الوهم، وهو اصعب من السجن.
لكأن هذا الخروج العظيم من قوقعة الصمت ومن رهبة الخوف من الآخر، انتقام لكل الاعمار المهدورة، من »السلطة«. لكأن النزول الى الشارع قبول بالتحدي. لكأن الصراخ الذي يحتاج الى مزيد من الوقت ليتحول الى شعار سياسي هو كسر لحاجز الخوف من الكلام… والخوف ممن يتنصتون على الكلام، والخوف ممن يحاسبون على الكلام.
الريفيون يتقنون اللعبة اكثر من أهل المدينة. هم الذين كانوا يخرجون بقهرهم الى الشوارع. هم الذين كانوا يعلقون آمالهم على الاحزاب والشعارات ورايات الوعد بالتغيير. هم الذين لا يملكون الكثير ليخسروه.
ابناء المدينة لم يعرفوا هذا التقليد ولم يألفوه، بل كانوا ينفرون منه. التجارة بحاجة الى الهدوء. التطور بحاجة الى الاستقرار. المدينة مركز »السلطة« والاستثمار والاعمار ومقصد الزوار الآتين بحقائب المال والمشاريع وخرائط المواقع السياحية القابلة للتطوير ودر الارباح.
ابناء المدينة يعامَلون كأنهم »اقرباء« السلطة، ولو بالجوار، بينما »السلطة« لا تعترف الا بذاتها. لا اقارب لها ولا اصدقاء. الناس في عينيها نوعان: من هم معها، ولهؤلاء الامتياز والمنافع، ومن هم ضدها ممن لا ينفع في علاجهم الا العصا حتى ينزووا داخل مقابر صمتهم وخوفهم فلا تسمع منهم نأمة احتجاج، فكيف بالغضب والعصيان؟!
ابناء المدينة تعودوا ان ينظروا الى التظاهرة على انها »غزو« ينظمه ويقوده »الريفيون« الذين كسر الظلم هيبة السلطة فأخرجهم عليها.
التظاهرة في عيون ابناء المدينة »اجتياح« وافد. لذلك ندر ان شاركوا فيها… حتى عندما كان الشعار جذاباً يدغدغ أمانيهم ورغباتهم فإنهم كانوا يفضلون التصفيق للتظاهرة وهي تمر تحت شرفاتهم، او حتى نثر الأرز والورد عليها، بدلاً من المشاركة فيها والاختلاط بالآخرين الذين لا يعرفون اين سينتهون… فعلاً.
التظاهرات تمشي خلف قيادة طيف الشهيد، الذي بات الآن ارض لقاء بين المتنافرين والمتنافسين والمتصادمين والمختلفين في الرايات كما في الأهداف. لم يعد حاضرا ليختلفوا من حوله وعليه، لكن صورته تنفع في توحيدهم، والراية الوطنية يمكنها ان تغلّف خلافاتهم فتعلو وحدها فوق الرؤوس جميعاً لتظهرهم »وحدة« بينما هم كتل شتى.
في تظاهرات الأمس البعيد لم يكن للفتيات مكان. المناضلات، »أخوات الرجال«، وحدهن كنّ يشاركن. والمناضلات معدودات، وبالتالي فقد كان الجمهور الخشن يقدمهن كأضمومة ورد، او كدرع من الرقة قد تحمي من خشونة الشرطة المولجة بمنع ارتفاع الهتاف بالغضب حتى آذان السلطة.
الجيل المغيَّب… في شارع الأخطاء
المشهد أجمل من ان يكون حقيقة:
تأنسنت التظاهرات. اتخذت طابع المواعيد اليومية او الدورية. اختلط الشعار السياسي بالمطامح والرغبات المشروعة لجيل كان الجميع يفترضونه خارج السياسة. كان الخوف يقمع التعبير عن الذات. كان شبح الحرب الاهلية يسد أبواب الشوارع ويكتم الاصوات داخل البيوت. صارت بيوت العبادة وطقوس العبادات والشعارات المموهة بالتراث الديني هي الملجأ.
كان الخوف سيد الموقف. الخوف من الأب وعلى الأب. الخوف من الخروج الى الشارع ومن الشارع. الخوف من الآخر، اي آخر. الخوف من الخوف.
كان المجتمع قد تبعثر، قد سقط في التطرف. الخوف اقصر طريق الى التطرف. وحده التطرف ينمو في ظلال صمت القهر. لذلك عندما جاءت لحظة الانفجار، تشظت السلطة والاحزاب التقليدية والوجاهات والقيم الموروثة وشبح الخوف، دفعة واحدة.
تراجعت اللغة الخشبية حتى انحطمت. تخلى الاهل عن لهجة الزجر والنصائح وسلحوا بل لعلهم حرضوا ابناءهم على الخروج، ثم خرجوا إثرهم، هم ايضا مغضبون ويائسون، هم مهددون بعد خسارة حاضرهم بأن يخسروا ابناءهم وغدهم فيهم.
نزل الجيل المغيَّب الى الساحات التي يصفر فيها الفراغ. نزل بعجره وبجره. نزل بنقص تجربته ونقص ثقافته السياسية. نزل بشعوره بالقهر وخوف اهله منه وعليه.
تفجر التثقيف الطائفي والشحن اليومي ضد »السلطة« التي بسحر ساحر صارت تعني »الآخر«. تفجرت الاخطاء والخطايا غضباً.
لم تكن ثمة دولة. كانت السلطة عارية كمجمع للفساد والقهر والاذلال. للرشوة والتزوير واستنبات القيادات والرئاسات والنيابات. لم يكن احد معنيا بالدفاع عن السلطة. المنافقون والمرتزقة والمنتفعون اذكى من ان يواجهوا. بعضهم هرب، وبعضهم غير جلده، ومعظمهم نقل البارودة استعداداً للمرحلة الجديدة.
طوفان الخطأ يجرف الصح
كان الشارع مكتظاً بالاخطاء والمعارضين… كلما اكتمل عديدهم زاد عديدها.
وكانت الشعارات الوطنية (والقومية) لافتات من الكتان المتروكة للريح وقد هجرها »اصحابها« بعدما بلغوا بادعاء الانتماء إليها قصور الاماني.
كان الشارع فارغاً من جمهوره الطبيعي الذي ظلل الذين استخدموا الشعار منطة الى السلطة ثم باعوا الشارع وقرعوا جرس الانصراف لجمهوره الذي يئس أخيراً من التلاقي مع هؤلاء الذين يتسلطون عليه زوراً منتحلين صفة تمثيله بينما هم قد باتوا في موقع الخصومة… لخوفهم من الحساب!
فتح الموت الشارع لآخرين لم يعرفوه من قبل ولم ينزلوا إليه مرة الا بسلاحهم الموجه ضد ابنائه… ضد أهله الطبيعيين.
فتح الخطأ الشارع امام من كانت قد طردتهم منه رهاناتهم الخاطئة.
صار الخطأ طوفانا بحيث جرف كل ما كان مدخرا للعدو من الحقد والغضب والرفض، واخذه في اتجاه الأخ الشقيق، الذي لم يعرف كيف يحفظ »جمهوره« ليحفظ نفسه.. ونتيجة للخطأ الذي صار، في لحظة، »السلطة«، والذي أنسى »الوطنيين« شعاراتهم واندفعوا للعمل ضدها، وحقّروها حتى صارت منبوذة، صار الطبيعي منفراً ومستفزاً.
المشهد اللبناني مبهر.. إنه أجمل من أن يكون حقيقة
يفيق العرب على »المشهد اللبناني« المثير وينامون من اجل ان يحلموا بمثله في ديارهم التي فرضت عليها حالة من »الغياب« عن الوعي بالذات والمسؤولية عن المصير.
آلاف وآلاف من الشبان والشابات يمشون هازجين، فرحين، مستبشرين تحت رايتهم الوطنية، يحملون شعارات تنطبق جزئياً على الوضع في لبنان بينما الاوضاع التي يعيشها شباب العرب في مختلف ديارهم أبأس بما لا يقاس، والشارع مفرغ من اهله، محظور دخوله الا على المتسوقين وابناء السبيل والعسس والديّانين.
هتافات ضد »الرئيس«، ضد »السلطة«، والجيش يحرس التظاهرات، والشرطة لا تطلق النار على الهتاف، والشباب كأنهم في »رحلة«، في »نزهة« يغنون ويرقصون ويهزجون ويهزون قبضاتهم في وجه اصحاب السلطان، ثم يعودون الى بيوتهم هانئين!
الكاميرات تنقل الصور الى العالم فتصير اخباراً تذيعها الاذاعات وتبثها الشاشات وتنشرها الصحف، ويعلق عليها جورج بوش وجاك شيراك وسائر الزعماء في الغرب والشرق…
والشباب العربي في مختلف عواصمه يتمثل نفسه في هؤلاء الاقران من اللبنانيين الذين كسروا حاجز الخوف، وخرجوا الى هذا الحد أو ذاك من عصبياتهم الى »عصبية مركبة« يصعب اعتبارها وطنية مصفاة، خصوصاً انها تتضمن من »الضد« اكثر مما تحتمل الوطنية، وفيها شيء من رفض »الآخر«، ولو كان »مواطنا« مثله انما له رأي مختلف، كذلك ففيها رفض للأخ الشقيق بحجة الاعتراض على السلطة، بينما ذلك الشقيق ليس من السلطة هناك، ولا منتفع من وجودها هنا، بل لعله متضرر في الحالتين.
الشباب يحتلون الساحات بالشعارات والاعلام ورايات الاحزاب التي لم تجمع بينها في الماضي غير الحروب.. لكن »الأرض السياسية« للتلاقي ليست ثابتة وليست نهائية. لقد جمع بينها للحظة طلب الثأر للضحية العظمى التي اسقطها عمى الانتقام. ورفيق الحريري مؤهل لأن يكون ارض لقاء بين الخصوم، لكنه ليس قابلاً لأن يكون ارض صراع، خصوصا أنه لن يكون متراساً يتلطى وراءه بعض الذين لهم ثأر على العروبة، والذين يريدونه ذريعة للخروج منها وعليها.
* * *
لقد جئتنا في زمن الشقاء يا عزمي بشارة.. ايها المقاتل فوق صليب الاحتلال. لعلنا نتعلم منك ان نفرق بين المختلف معنا في الرأي وبين العدو لنحفظ الوطن.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ليس ردة فعل عصبية على خيبة الأمل… الحب ليس انتقاماً للذات من الآخر.
الحب عالم رحب، بحر بلا ضفاف، من خاضه بلا إيمان بذاته، أي بحبيبه، غرق.. أما المؤمن فيبني بحبه جنته على هذه الأرض.