أحمد عبد المعطي حجازي ومحمود درويش: ماضي الأيام الآتية!
جمع ممدوح عدوان، في غيابه، بعض الكبار من المبدعين الذين باعدت بينهم ظروف القهر الداخلي او الإرغام الخارجي، فصاروا لا يتلاقون، غالبا، الا على مراثي اصدقائهم الراحلين، فيبدون وكأنهم يرثون انفسهم فيهم.
هكذا سنحت الفرصة للقاء جديد مع صديقين قديمين هما الشاعران الكبيران احمد عبد المعطي حجازي ومحمود درويش… وقد جاء »حجازي« من القاهرة التي كانت »عزيزة« حين كانت »محروسة«، وكانت »بهية« حين جعلها موقفها »ام الدنيا«. اما محمود فقد جاء من رام الله التي ما تزال مقهورة بالاحتلال الاسرائيلي، »اسيرة« مهيضة الجناح مبعدة عن اهلها الذين انكروها، ومع ذلك لا تزال تقاوم بروحها بعدما عز النصير والسلاح وحتى التبرعات والصدقات وتكفُّل الايتام.
أما الصداقة مع احمد عبد المعطي حجازي فتمتد عميقا في تاريخنا الشخصي حتى لتداني عمر ديوانه المميز »مدينة بلا قلب« الذي أصدره في بداية الستينيات، وكان بين عصبة من الشباب المصري اخذته عروبته في اتجاه افكار حزب البعث الوحدوية. وقد تعددت لقاءاتنا في القاهرة وبيروت ودمشق ونحن نتظلل اعلام الوحدة والانتصارات القومية، ثم ونحن نتجرع مرارات الهزيمة ثم الصلح المنفرد مع العدو الاسرائيلي. وعدنا فالتقينا مرارا في باريس التي التجأ اليها شاعرنا الكبير بذريعة ان زوجته السيدة سهير تكمل دراستها العليا بإنجاز اطروحة الدكتوراه في الموسيقى.
ولقد تابعت نتاج حجازي، شعرا ونثرا، في »روز اليوسف« بداية ثم في »الاهرام« ومن بعد في مجلة »الابداع« التي اصدرتها وزارة الثقافة في القاهرة… واحزنني انني لم اعد اقرأ له الكثير من الشعر، هذا الذي أبكانا جميعا حين رثى أباه، بقدر ما انعشنا جميعا بقصائد شبابه، التي كانت تضج بروحه الثورية الرافضة الغلط والتخاذل والاستسلام.
ولعلني قد ظلمت هذا الشاعر الذي كان يكرهه انور السادات، وكلاهما يتحدر من المنوفية، وقريتاهما متجاورتان: فالثاني من »ميت ابو الكوم« بينما حجازي من »تلا« حين افترضت انه اليوم هو ذلك الذي كان قبل اربعين عاما او يزيد.
على انني لم استطع ان اخفي خيبة املي حين استمعت، بانتباه، الى كلمته في رثاء ممدوح عدوان. وانتبهت الى ان الجمهور الذي استقبل الشاعر الكبير بالحرارة التي تليق بمكانته في الوجدان قد استقبل كلمته بشيء من التحسر على الماضي، خصوصا من قيض لهم ان يستمعوا اليه وهو يرثي الراحل صدقي اسماعيل قبل عشرين عاما او يزيد… وقد استهل قصيدته يومها بمطلع لا ينسى: »… وأخيرا دمشق… ولكنني كنت اطلب انطاكية
»دمشق التي قدمت لي كأساً وحزت وريدي
»وقد جئت اطلب سيفا فقدمت لي رمساً«.
لم استطع ان اخفي مراراتي فصارحت حجازي برأيي، مدركا سلفاً انني احرّك اوجاعه… ولم يردّ احمد، في حين تصدت الدكتورة سهير للدفاع بان قالت ما معناه انه قد ادى قسطه للعلى، وانه لم يتغير، ولكن الدنيا هي التي تغيرت.
***
قال محمود درويش انه لم يكن من حقي ان اقسو على حجازي، فلا يمكن ان اطلب منه اليوم ما كان سيقوله بغير طلب قبل مسلسل الهزائم التي حذفت العرب من خريطة العالم او هي تكاد تحذفهم.
ونحن الى مائدة العشاء، اخذت اتأمل هذا الفارس الذي ما زالت عيناه تشتعلان بجذوة الرفض، لكن كتفيه تعبتا تحت اثقال المرارات والخيبات والانكسارات.
قال محمود درويش: ظروفنا مختلفة، نحن ما زلنا نعيش في قلب التحدي، ولعلنا لم نعد نعرف ان نعيش حياة طبيعية الا حيث نحن… لعل اخواننا المصريين قد اطمأنوا، نوعا ما، الى انهم، وقد استعادوا ارضهم، يمكنهم ان يلتفتوا الى شؤون معاشهم.
استذكرت اللقاءات الاولى مع محمود درويش في القاهرة، العام 1971، ثم في بيروت التي استقر فيها بعد حين حتى الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982، واصراره على العودة الى ارضه مع »السلطة« التي كان يحاذر ان ينتسب اليها، فكان »معها« بحدود ولم يكن فيها ابدا.
وانتبهت، فجأة، الى بعض البديهيات، ومنها ان السلطة قاتلة للابداع، نثرا وشعرا، رسما ونحتا، موسيقى وغناء… فالسلطان يقبل المبدع شاعر بلاط او مؤرخا لانتصاراته الشخصية حتى لو كانت هزائم لامته.. فاذا ما رفض مثل هذا »المنصب« فعليه ان يصمت او يرحل بلا عودة! اما مواجهة الغلط، احتلالا كان ام طغياناً، فانها تفجر الطاقات جميعا: تجعل الاطفال رجالا قبل ان يبلغوا سن الشباب، وتعيد الى الشيوخ فتوة غادرتهم منذ زمن بعيد، وتحيل النسوة »رباتِ الخدور«، مقاتلاتٍ في صلابة السنديان يزغردن عند تلقي نبأ استشهاد فلذات الاكباد. فكيف لا يتفجر الشعر انهارا، وكيف لا يعطي الفنان اعظم ما عنده وهو يتحدى الموت او ما هو أبشع: الاندثار. انه سيدافع بحياته عن حقه في الحياة، وسيصوغ رفضه الخضوع انشودة تبقيه في أفئدة اطفال الصمود الذين سيكملون المواجهة بعده حتى الانتصار.
***
تأملت حالة محمود درويش. انه في رام الله. يسافر الى ندوة او امسية او واجب كالذي جاء به الى دمشق ثم يعود ليواجه الاحتلال في عينيه. لا هو يدعي بطولة، ولا هو يحمل سلاحا… لكنه باستمراره حيث هو انما يواجه ويسطر صفحات اضافية في كتاب الصمود.
قال خبيث: ان هو كفّ عن رؤية الاسرائيلي في صورة المحتل، هادم المنازل، قاتل الاطفال، مصادر الارض، فلسوف يغادره الشاعر. ان الاحتلال هو مصدر إلهامه!
وكادت النكتة السمجة تذهب بصاحبها… ذلك ان محمود درويش قد تجاوز النقاش حول موهبته الاستثنائية، وبنثره قبل شعره. لقد اوصلته الدراسة المعمقة والفهم الموضوعي للاحتلال الاسرائيلي الى ذرى لم يبلغها غيره. لقد »تجاوز« شخص العدو الى المنابع الفكرية للحركة الصهيونية، عبر ممارساتها العنصرية التي تؤسس لحالة غير انسانية ندر ان شهد التاريخ مثيلا لها: ان يُستخدم ظلم اليهود في اوروبا ذريعة لتدمير شعب فلسطين واحتلال ارضه، ثم يعامَل الفلسطيني كإرهابي معاد للسامية ويُفرض عليه ان يكفّر عن جرائم النازية والعنصرية الاوروبية بينما يحظى الاسرائيلي المحتل بكل الدعم والتأييد كنوع من الاستغفار والتكفير عن جرائم الماضي، ثم يمكَّن هذا الاسرائيلي من ممارسة انتقام مفتوح ممن كانوا جيرانا بل اهلا وحماة لليهود يتقاسمون معهم الرغيف.
لقد تجاوز محمود درويش روح الثأر والرغبة في الانتقام ليطرح على نفسه وعلى عدوه المعضلة بجوانبها الفكرية قبل وقائعها الميدانية. انه يواجه تحديا من نوع غير مألوف: كيف ننقذ العدو من عدائيته التي ستدمره لاحقا، حتى لو افترضنا انه حقق المستحيل فأباد عدوه الفلسطيني. ان هذا الامتلاء بالكراهية لا يمكن ان يبني وطنا فكيف بأن يحقق نبوءة؟! ثم كيف يمكن ان تكون ابادة الآخر مدخلا الى حياة القاتل… فكيف اذا ما استحالت الابادة، وكيف اذا ما انكسرت السكين قبل ان تنجز مهمتها المقدسة؟!
***
سيظل احمد عبد المعطي حجازي في وجداننا شاعرا كبيرا وحادياً للثورة والوحدة ورفض الهزيمة، اما »الموظف« فهو مجرد قناع لبسه هذا المبدع عندما اجتاح الغلط القيم والمبادئ والمثل العليا، كنوع من »التقية« حتى يمضي نحو شيخوخته بهدوء… هذا الذي عارك عقودا، ورفض الغلط وقاومه دهرا حتى صار طوفانا يجرف الافكار والبيوت والقصائد والاحصنة التي افتقدت فرسانها، وكذلك الفرسان الذين لم يجدوا خيولهم، فمضوا الى الصمت مرغمين.
شكسبير بالكوفية والعقال!
صار »الارهاب« خبزنا اليومي! لم يعد من خبر »عربي« غير الجديد من انجازات الارهابيين. لم تعد لهذه الامة من هموم الا محاولة نفي تهمة الارهاب عنها. الحديث عن التعليم يجر الى الارهاب، والدين بالطبع منبع للارهاب وبالتالي فلا بد من طمس بعض الآيات في القرآن الكريم. الشعر ارهاب مطلق، وكذلك الروايات التي يجرؤ كتابها على ملامسة وقائع حياتنا اليومية. كتب التاريخ ارهاب. غناء الماضي ارهاب، والحلم بمستقبل افضل ارهاب.
قبل أيام، انعقد في الرياض، وبدعوة منها، مؤتمر هدفه انشاء مركز دولي موحد لمكافحة الارهاب… ولما لم يكن للصحافيين من عمل جدي يغرقون فيه، اذ ان المعلومات عن الارهاب والارهابيين »سرية« ولا ينشر منها الا ما يخدم الاستئصال، فقد امضوا معظم اوقات فراغهم في تلبية الدعوات الى ولائم التكريم (غير المبرر) ظهر مساء.
في إحدى الولائم، قام المضيف يخطب مرحبا باسم حشد الداعين وكلهم من اصحاب الثروات التي تستهلك عشرات الاصفار عند تدوينها.
كان بكامل قيافته: الرأس مغطى بالكوفية (الغطرة) والعقال، والعباءة على الكتفين، فوق الدشداشة الحرير، وتلمع في المعصم ساعة جرنها من الماس، وفي بعض الاصابع خواتم من عقيق مطوق بالذهب.
كانت المفاجأة الاولى ان الخطاب بالانكليزية في حين ان الاجانب بضعة انفار بين حشد من العربان… اما المفاجأة الثانية فتمثلت في خاتمة كانت استعارة لابيات من الشعر اقتطعت من احدى مسرحيات شكسبير.
للحظة تخيل اهل الاعلام شكسبير يخطر بينهم بالكوفية والعقال والعباءة والدشداشة الحرير، وهو يروي شعره الذي لم يطاوله المنع لانه لا يتحدث عن الارهاب من قريب او بعيد.
حتى الشعر بتنا نستورده نحن البدو من بلاد الفرنجة، ونطلقه ولو مكسورا على مبعدة امتار من سوق عكاظ، حيث كانت القصائد الممتازة تعلق على استار الكعبة.
… الا اذا كان صاحبنا يريد تذكيرنا باسطورة مفادها ان شكسبير عربي الاصل واسمه الحقيقي الشيخ زبير!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
اذا كان للعشاق عيد يبدأ مع ظهور الشمس وينتهي مع انصرام ليلها، فماذا يمكن ان اسمي ايامي الاخرى التي تقع قبل ذلك التاريخ وبعده، والتي تمتد عيداً موصولاً مشكلا حياتي؟!
حبيبي هو العيد، والعشق تحية الصباح والمساء. جد حبيبك يجئك العيد بوروده.