نصري الصايغ: صار يهودياً في كتاب!
فعلها نصري الصايغ!
قرر اختراق الاستحالة لكي يحاول أن يتمثل »العدو« عبر البشري، الفرد، اليهودي الذي لم يعد له اسم، ولم يعد له شكل إنساني بعدما صار إسرائيلياً، أي قاتل الأطفال، مدمر القرى، هادم البيوت، معذب الشيوخ والعجائز، السجان المتوحش للصبية، قاطع أشجار الزيتون، مشرّد طلاب الجامعات وتلامذة المدارس بعدما أقفل كل مركز تنوير للفلسطينيين.
قرّر أن »يصيره«، تحمّل تبعات الانقلاب القاسي على النفس والمشاعر والحقيقة، في محاولة لفهم طبيعة التحولات التي اجتاحت هذا الآتي من أوطان أخرى إلى أرض كان مستحيلاً أن يمتلكها إلا إذا أباد أهلها، ولاصطناع تاريخ من خارج التاريخ.
قرر نصري الصايغ أن يحاول أن يكون يهودياً. أن يتمثله. أن يحاول تبني منطقه المضاد لحقائق الحياة في هذه الأرض. أن يحاول تفهم دوافعه الكامنة التي تتحكم بتصرفاته وتجعله مجرماً بلا قلب: يغير بطائراته الحربية الجبارة فيسقط قذائفها ملتهمة العمارات والأحياء، مدمرة البيوت على أهلها نساءً ورجالاً وأطفالاً.
»دخل في الحالة« الإسرائيلية حتى تعذيب الذات بمحاولة قلبها الى نقيضها. عاش أياماً وليالي صعبة. كلما توغل في »الحالة« ابتعد عن نفسه حتى كاد ينكرها. بل هو كاد يتحول جسمانياً، في ملامحه، فضلاً عن التحولات التي أصابت محفوظاته التي تختلط فيها الوقائع المعاشة بالقراءات والمشاهدات والسماعيات.
كانت البداية عندما لاحظ ان ابنه »نصري« الذي يكمل دراسته الجامعية في باريس، والذي بين زملائه الكثير من اليهود، معظمهم من اليساريين، يتهرب من المناقشات الجادة حول الصراع المفتوح بين الجلاد الإسرائيلي والضحية الفلسطيني… خصوصاً وأن بعض هذه المناقشات كان ينطلق من أو يستشهد بما أصاب اليهود في أوروبا على يد النازيين وسائر المتعصبين بالعنصرية أو بالدين، ويكاد يرى في احتلالهم فلسطين تعويضاً، فيرى عذاباتهم ويغمض عينيه وفكره عما أصاب ويصيب الفلسطينيين في وطنهم الذي أخذ منهم بالقوة، وفي ما جاوره من أقطار، ولبنان على وجه التحديد.
وعبر رحلته القاسية، يرى نصري الصايغ في أراغون معيناً لا ينضب، وهكذا فهو يستهل كل فصل من فصوله بمقطع من »مجنون إلسا«:
»ها أنتذا. تزعم أنك تدخل في نور غرناطة المصلوبة/. وفي دوامة شعب في تابوت/ نهايته فوضى مظلمة… كل عنف انكفأ الى قضم أظافره/ قليلاً، قليلاً، أغدو شبيهاً بهذا العالم السافل/ في هذا الدرك السفلي/ الذي وصلت إليه/ لا تستطيع أن تقارن شيئاً../ إلا بالبرد«.
استطاع نصري الأول الذي قرأ كثيرا وعرف عن اليهود كثيرا، وعاش فلسطين حياة كثيرة، أن يصير أمام نصري الثاني إسرائيلياً، يناقشه بمنطق الآخر (العدو) ويطرح حججه وذرائعه التي تبرر الاحتلال كحق مطلق (خصوصا وأن له حماية دولية غير قابلة للاختراق).. عانى كثيراً، كاد يكره نفسه في لحظات. عانى من العطش حتى ذبلت شفتاه، جحظت عيناه، كاد ينكر نفسه قبل أن ينكره أهله: »فعندما أكون يهودياً أكونه كما هو بالدقة أو كما أعرفه على الأقل«. طرد أشباح بن غوريون وموشي دايان وغولدا مائير وليفي اشكول وصور اجتياح بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا. ثم أنه استبعد أن ينتقل إليه عن طريق الدين: »اخترت أن أدخله من باب السياسة فليس صراعي مع دين اليهود، ولا مع أي حضارة. صراعي حول حقوق ونقطة دم على السطر«. ومرة أخرى مع أراغون حصار غرناطة في مجنون إلسا:
»رأيت مذابح مزدوجة من أجل لا شيء/ وأعداء يتصارعون عبثا
يفرون، يجرون أحشاءهم المندلقة/ وفي المعسكرين نفس الضراوة
رأيت الفم ينسى القبلة/ رأيت الحديد يذبح الصمت.
رأيت الموتى يستشهدون مائة مرة«.
وعبر التجربة الفريدة في بابها انتهى نصري الصايغ بالمعايشة إلى ما انتهى إليه أراغون بالاستنتاج: »ليس بيننا شيء مشترك غير رائحة القتال«.
حين يضعف في الرحلة المنهكة، يهب عزمي بشارة لنجدة نصري الصايغ:
»مدين في رحلتي هذه لمن فتح عيني على الجرأة وعلى تحدي الممنوع السخيف والعقيم. واعترف أنني لولا تصاعد فكر عزمي بشارة ومواقفه لبقيت آسنا في سبتيات عنيدة أقعدتني سنوات عن معرفة فلسطين الأخرى، المحتلة أولاً والمحتلة ثانيا«.
لقد استند الى عمق عزمي بشارة الإيماني والمعرفي بالقضية القومية وطريقته الحرة في استعمال آليات متعددة وأساليب مختلفة من أدوات الواقع المميز:
»عزمي بشارة أعاد إلينا الشطر الفلسطيني الذي وضعنا أهله في قفص الشكوك وتعاملنا معه بإنكار فظ«.
إلى التجربة الشخصية الفذة التي عاشها فكتبها بوجع الخيبة والمرارة، أضاف نصري الصايغ العديد من الشهادات الإسرائيلية التي تعكس القلق المصيري، جنباً الى جنب مع تلك التي تخلد بطولة القتلة وعظمة السفاحين… على أن أكثر ما يمكن أن يستوقف (ويبرر التجربة مرة أخرى) هي تلك النتائج المذهلة التي توصل إليها البروفسور ادير كوهين، الباحث في أدب الأطفال، حين أجرى استطلاعاً شارك فيه 520 طالباً وطالبة في الصفوف الرابعة والخامسة والسادسة في مدارس حيفا قبل أن ينشره في كتاب بعنوان »انعكاس شخصية العرب في أدب الأطفال العبري«.
من تلك النتائج أن 75$ من هؤلاء الفتيان والفتيات يعتبرون العربي خاطف أولاد، قاتلاً، مخرباً ومجرماً، في حين يرى 80$ أن العربي يعيش في الصحراء، فهو اما صانع خبز يلبس كوفية أو راعي بقر وقذر ونتن تنبعث منه رائحة كريهة. والعرب أصحاب شعر أخضر ولهم ذيول. وسحنة العربي غريبة، وهو عصبي المزاج، حاد وشرير. مجنون ومتشرد، عدو، خنزير، لص… وصولاً الى »يجب أن نقتل العرب. يجب أن نجلسهم على كرسي كهربائي«. والعربي الجيد هو العربي الميت. وقد كتبت طالبة إسرائيلية إلى »زميلة« لها عربية: »أتمنى لك أن تموتي، وليت كل عائلتك تموت«. وكتبت طالبة ثانية: »لا توجد فراشات هنا، فقط انتفاضة. إنكم تحبون الحروب كثيراً، وهذا اعتبره كراهية. إنكم برابرة، أغبياء، متخلفون. تفضلوا كلوا مما جنت أيديكم«!
»أنا البائس الذي مثل المرايا/ تعكس الصورة ولا ترى
أمسى كل شيء مظلماً في غرناطة/ جناح أسود يجر نفسه على أكعب التلال
فلا يرى المستقبل يلتهب والحاضر يخبئ كل أشعة الروح
تنطفي المرايا/ الكل ليل، حتى الصباح نفسه:
(هكذا قال أراغون في »مجنون إلسا« عن حصار غرناطة)
مغامرة جريئة لا يمكن أن يقدم عليها إلا عقائدي ملتزم، واسع الثقافة حتى لا يخاف من الحقيقة، واثق من حقه فلا يخاف الزيف والزور والتزور ولو كان مدججاً بالسلاح الأميركي والتأييد العالمي تكفيراً عن جرائم ارتكبها الغرب وفرض على شعب فلسطين أن يذهب ضحيتها، لكي يريح الضمائر المتعبة.
لقد فعلها نصري الصايغ، فإن أفادت فله أجر وإن لم تفد إلا قليلاً فله أجران، وأخطرهما هذا الكتاب المميز والفريد في بابه.
حكاية العرس الطائر
قال له الصديق العائد من سفر طويل: لقد عشت في الطائرة قصة حب من ذلك النوع الخاطف. لن تصدق، كما لن نصدق نحن الذين كنا نجلس من حول ذلك الفتى الوسيم وتلك السيدة المجربة، في مقاعد الدرجة الاولى في الطائرة. بدأت الحكاية بغلطة بسيطة: اوقعت السيدة حقيبة كانت تحاول وضعها في الخزانة، فوق رأس ذلك الفتى. اعتذرت، فابتسم بدماثة، وساعدها على وضع الحقيبة، وعادت الى مقعدها في الصف المقابل. بعد ساعة من الطيران كان الفتى قد غرق في كتاب يحمله، وكانت السيدة تغط في نوم عميق، وجاءت المضيفة بالعشاء، فهمست تسألها ان كانت تريده، وفوجئنا بالسيدة ترفع يدها مستنكرة فتطير صينية عليها بعض الكؤوس لتسقط على راس الفتى الوسيم ومن حوله. وهبت السيدة تدفع المضيفة لتصل إليه قبلها فتطمئن الى مدى الاذى الذي لحق به. طمأنها الفتى واستسلم الى يدي المضيفة وهي تحاول مساعدته في جمع ما سقط عليه من أوان، لكن السيدة جرتها من يدها بعيداً عنه وهي تتمتم بحدة: أنا المسؤولة، فابتعدي رجاء… وابتعدت المضيفة وفي عينيها شيء من الحنق، وانهمكت السيدة تتحسس وجه الشاب، شعره، عنقه، صدره، كمن تستوثق من انه لم يصب بأي سوء. ثم فوجئنا بها تضمه الى صدرها، وتحنو عليه وكأنها امه، قبل ان تبعده قليلاً عنها لتتأمله. وبعد لحظات، صعقنا ونحن نراها تنثر قبلها على وجهه وعنقه وكتفيه وتواصل الاعتذار وقد خالطت كلماتها الآهات.
عندما انتبهت الى ان كل ركاب الدرجة الاولى يتابعون ما يجري، التفتت إلينا وقالت عبر ابتسامة مشرقة: لقد آذيته مرتين، وعليّ ان اعتذر إليه كثيراً. سامحوني.
ثم انتقلت الى المقعد المجاور لتبدأ حديثا استطال طوال الرحلة، كان خلاله مستمعا طول الوقت، إلا من اسئلة قصيرة وجهها مستفسراً او مستوضحاً بعض ما خفي عليه من حكايتها، على حد ما ابلغتنا المضيفة التي استكملت الآن عدتها لدور »العزول«.
طلب الصديق فنجان قهوة وهو يقول: اعطيك حكاية جميلة، افلا تبل ريقي؟
جاءت القهوة فأكمل الصديق الحكاية: كان علينا ان نبدل الطائرة في لندن. وهناك تفرقنا ايدي سبأ، بعضنا ذهب الى كنبة بعيدة لينام، وبعض الى السوق الحرة، والبعض اختار ان يقرأ الصحف او يتابع التلفزيون… ورأيناهما ينتحيان ركنا بعيداً، والسيدة تواصل الكلام، بينما الشاب يهز رأسه بين حين وآخر.
وعندما نادتنا المضيفة، بعد خمس ساعات، لنتوجه الى طائرتنا الجديدة، كانت السيدة تعانق الشاب الوسيم، وتغرق في قبلة طويلة وحارة الى حد ان المضيفة تنحنحت ثلاث مرات قبل ان ينتبها إليها.
في الطائرة، كنا خمسة في الدرجة الاولى، اضافة الى العاشقين.
ومع استقرار الطائرة في الجو وقف الفتى الوسيم ووجه إلينا الخطاب: اود ان ابلغكم اننا سنتزوج في اليوم التالي لوصولنا الى الوطن، واريدكم ان تكونوا الشهود وضيوف الشرف.
سألته: وهل ذهبت؟
قال: بل أنا آت لآخذك معي… لقد طلبك العروسان بالاسم، فأنت صديق عائلي للارملة العاشقة وبين ابنائك من هو صديق حميم للعريس المعشوق. هي »نهلة حداد« وهو »سمير ابن فؤاد الطحان«.
وتوجهنا مسرعين الى العرس الطائر، قبل ان يحين موعد الرحلة الجديدة.
تهويمات
عندما هوى الجدار، تبعثرت العواطف والافكار وبُح صوت الموسيقى فساد صمت لا يقطعه الا اللهاث:
كان ثمة من يلهث شبقا خلف الدار.
وكان ثمة من يلهث متعة امامه.
ولم يلتفت احد الى الجدار الذي صار حطاما.
***
قالت الاولى: هو لكِ فاطمئني!
قالت الثانية: أوليست سرقة الرجال مشروعة؟
قالت الاولى: لكنه لك، وانا منك وانت مني..
قالت الثانية: هذه مباشرة في السرقة.
قالت الاولى: بل هي اكتمال التخلي. الرجال كثيرون. الصديقات قلة. بغمزة واحدة يتساقط امامي الف شنب.. اما انت فلست غيري.
قالت الثانية: الآن وهنا.. لا بد ان ينصرف غيري!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الشجن حاضنة الحب. يستولد الحب الفرح ولكن ملجأه الأثير هو الشجن الذي يأخذ إلى الرقص المظلل بآهات النشوة.
حبيبي يسكن في قلب الآه، أذهب إليه فيها، ومتى انتهى اللقاء احتضننا الشجن حتى اللقاء الثاني فوق ذروة الفرح.