فاروق القاضي يفتح »آفاق التمرد«.. مجدداً!
عرفت فاروق القاضي، أول الأمر، في مجلة »روز اليوسف« أيام عز الصحافة في مصر يوم كانت القاهرة »أم الدنيا«، بوهج قيادتها الاستثنائية، جمال عبد الناصر، ودورها المؤثر على الصعيد الدولي، فضلاً عن التسليم بها كمرجعية عربية عليا.
كانت »روز اليوسف« منبراً سياسياً محترماً ومنارة ثقافية (مع شقيقتها »صباح الخير«) تجمع إلى محرريها »الأصليين« وكتابها الثابتين عدداً ممن جاؤوا إليها من صلب الحركة الشيوعية المصرية، وفيهم مفكرون وفنانون مبدعون وأصحاب رأي، بعدما وقع الصلح مع »النظام« وأفرج الحكم الناصري عن »الحزب« الذي كان معتقلاً جنباً إلى جنب مع »الإخوان المسلمين«. وكان لواء القيادة في هذه التجربة معقوداً للراحلين الكبيرين المتضادين في التوجهات المتكاملين في احترام الكلمة والرأي الأخير: إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين.
ولعل فاروق القاضي كان أسرع من بعض رفاقه وأكثر صدقاً مع نفسه، وهو يعود إلى حقائق الحياة في مصر والمنطقة العربية، من دون أن يغادر إيمانه بالماركسية… وهكذا فقد وجد نفسه يقترب تدريجاً من حركة المقاومة الفلسطينية وهي بعد تستكمل »أجهزتها المتخصصة« في عمان، والتي كانت تتسع بدورها لكل من جاءها من الأقطار العربية مقاتلاً بالفكر أو بالكلمة أو بالسلاح من أجل تحرير فلسطين ووقف الهجمة الإسرائيلية لتذويبها كقضية ووطن بعد الهزيمة العربية 1967.
وعندما تمّ »تهجير« المقاومة الفلسطينية من الأردن، بقوة السلاح، إلى بيروت، استقر فاروق القاضي في مكتب العلاقات الخارجية لحركة »فتح« مستشاراً لقائد جميع القيادات و»الإخوة« والمكاتب ياسر عرفات..
عمل فاروق القاضي، الذي سيعرف في مهمته الجديدة باسم »أحمد الأزهري« بدأ بها لتوثيق علاقة المقاومة الفلسطينية، وقيادتها، بكل القوى التقدمية والديموقراطية في العالم، وبالذات منها الأحزاب الحاكمة في الدول الاشتراكية والمعارضة في الغرب، المؤمنة بحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وإقامة دولته ولو على بعض أرضها.. التاريخية.
ولأن فاروق القاضي، أحمد الأزهري الآن، جدي في عمله، ولأنه مثقف كبير، ولأنه يحترم الأصول، ولأنه يهتم بالرأي العام العالمي، فقد نجح في إقامة شبكة ممتازة من العلاقات مع الأحزاب والقوى السياسية ورجال الإعلام الأجنبي، غربياً كان أو شرقياً… لقد كان بذاته »وزارة إعلام« و»وزارة ثقافة«، والأهم أنه كان يكلف نفسه إصلاح أخطاء الآخرين وتدارك الارتكابات أو حالات الإهمال التي تصدر عن بعض »رؤسائه« أو بعض زملائه… الراسخين في العلم!
قبل أيام، وصلتني هدية ثمينة من فاروق القاضي، الذي استقر الآن في عمان بعد رحلة تشرد طويلة بين الأردن وبيروت ثم تونس (بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وخروج المقاومة الفلسطينية منها إلى ملجأها الأخير) »ثورياً متقاعداً« وقارئاً ممتازاً وكاتباً مقلاً، وزوجاً سعيداً مع ابنة الباشا التي اختارته واختارها مي البلبيسي.
الهدية عبارة عن كتاب متوهج العنوان »آفاق التمرد« غني المضمون، إذ هو »قراءة نقدية في التاريخ الأوروبي والعربي والإسلامي«.
القسم المتصل بالغرب الأوروبي تمتد فصوله بين التمرد اللاهوتي وحلم الثورة، والطواويس المتمردة، والتمرد المجزوء بين الوعي واللاوعي، وصولاً إلى الثورة الأولى (الفرنسية) أم الثورات، ثم العدل من الخيال إلى العلم، انتهاءً بحلم الثورة وواقع الدولة.
أما القسم الثاني، العربي والإسلامي، فيمتد من التمرد على المجهول، إلى ابن الإنسان، والصعاليك والعبيد وأرستقراطية مكة وثورة الراعي اليتيم، والتمرد والثورة المضادة، والفعل، والمسؤولية والحرية، لينتهي بفصل مثير عن »ألف عام على هزيمة العقل وانتصار النقل«.
الكتاب دعوة إلى »التمرد على كل ما يقيّد الإنسن فكراً وإرادة« عبر استعادة لحركة التمرد الخلاقة عبر التاريخ: »… فعلينا أن نندفع بكل قوانا للنضال من أجل الحرية، من أجل سيادة الإنسان وعقل الإنسان. السلفية والاستبداد الحديث وجهان لعملة واحدة، هم يبررون دعواهم بلا شرعيته، وهو يبرر استبداده بحماية المجتمع منهم والناس ضحايا الاثنين، وهكذا تتأكد حتمية التمرد للحاق بالعصر.
»إن التمرد على كافة المقولات المكبلة لفكرنا وإرادتنا ضرورة حتمية للحاق بالعصر، لمواجهة المخاطر الرهيبة التي تهددنا. خرج العرب من التاريخ عندما تخلفوا عن العصر… واللحاق بالعصر هو وحده الذي يدخل العرب التاريخ، ولن نلحق بالعصر إلا بالعقل لا بالنقل، الإبداع لا الاتباع«.
فاروق القاضي يقاتل بعد، بالفكر. لم يعجزه اليأس، ولم تأخذه هزيمة التجربة إلى الصمت في قلب التقاعد أو إلى اجترار الذكريات تعويضاً عن القصور في الإنجاز… بل لعله في هذا الكتاب أكثر شباباً ووعياً من يوم جاء من القاهرة ليلتحق بثورة تمثلها أفضل من واقعها، ومع ذلك ظل معها حتى اختلفت عليه (ولم يختلف معها) فعاد إلى قلمه يتابع… تمرده.
»آفاق التمرد« شهادة لمناضل مثقف تستعرض تجارب الأمس الغنية من أجل غد أفضل، وفاروق القاضي هو المبشّر به وليس اليائس في قلب الماضي.
سهيل مطر يشهد بقلمه وقلبه
لسهيل مطر قلم أخضر لا يكتب إلا الحب شعراً ونثراً، حتى لكأنه »مبشر« نزل من تنورين خصيصاً لكي يوزع قلبه على الناس بالعدل والقسطاس.
ولأن قلمه غزير مثل قلبه، فقد نشرت له جامعة سيدة اللويزة بعض قصائد حبه، في ثلاثة كتب، مكتوبة جميعاً بمطر تنورين الأخضر… وهو قدم لها معتذراً بأنه نشرها »لئلا تضيع، لئلا يخطفها النسيان والزمن، ولئلا تسقط في الدخان والضباب«.
في كتابه »أيها الأصدقاء« يسترجع سيرة بعض صداقاته على امتداد »خمس وأربعين سنة في التعليم، من خمس وستين سنة على الأرض.. أما العشرون فهي رفقة فقر وكتاب وشموع«، وحصيلتها تعريفه الثاني بنفسه:
»أنا شاعر عصرت روحي خمرة/
وسكبتها في أجمل الكاساتِ
»وبريت ضلعي مرقماً وغمسته/
بدمي وما لوّثته بدواةِ
»الحب قرباني وقداسي الهوى/
والشعر إنجيلي وفيه صلاتي«
كتب سهيل مطر عن كثير من الأدباء والفنانين والمبدعين والمعلمين المتفانين في نقل حصيلة ما عرفوه إلى تلامذتهم… لكن رثاءه كان يستحضر عبقرية الراحلين وأثرهم الباقي في ناسهم الذين أخذوا عنهم حتى وهم لا يعرفونهم بأشخاصهم.
بين من كتب عنهم: هنري زغيب الشاعر الأخوت: »المجانين هم إما قديسون وإما متمردون وإما شعراء«.. ومنصور عيد، ومنح الصلح الذي »يستنهض العقول ولا يستثير العواطف«، أنطوان سعادة، وجوزيف أبي ضاهر: »أنا العاشق والبحر، جسدك قصيدة تقرأها يدي«، ورياض شرارة يوم رحيله »سقط أمير الفرح«، والأب يوحنا قمير، المعلم، الفيلسوف ورجل الدين والعالم والشاعر واللغوي والمترجم والفنان والذواقة، والأب ميشال عويط، الرئيس الراحل شارل حلو، الشاعر الكبير سعيد عقل، الأديبة إميلي نصر الله »بخجل الصبايا، برقة الأم، بشفافية الشعراء، ببراءة الجبليات وبدفء الجنوبيات الموجوعات حرباً وجراحاً وتشرداً.. كتبت«، والأب أسطفان صقر، باسمة بطولي، بشارة حبيب، جورج غانم، وليد غلمية، كمال يوسف الحاج، رودي رحمة، غالب غانم، الياس أبو راشد، الرئيس الراحل فؤاد شهاب وكثير غيرهم…
مما كتبه عن الراحل الكبير الأديب توفيق يوسف عواد، نقتطف:
سكوت، سكوت، لا تتكلموا. لا توقظوا الرجل النائم. لا توقظوا المسافر الحالم. سكوت، سكوت، أخاف أن يموت. أفسحوا الدرب لتوفيق السفير والمسافر. لا تطلقوا ناراً عليه، قلبه أصبح منائر. لم يبق من صوف القميص غير أم لم تهاجر. لم يبق من ابن صغير »أعرج« الخلوات غير ناب وأظافر:
لا يسكر العود عزفاً دون عواد/
ولا يموت أديب مجد الأدبا«.
سهيل مطر يتخطى المجاملة إلى الوفاء، ويتخطى كلام المناسبات إلى الشهادة في من عرف فقدر فكان لا بد من أن يعبّر عن تقديره، لكي يقرأ أحلى صديقين له: زياد والسا…
لقاء لوداع الافتراق
التقيا ولا موعد، وافترقا بلا وداع، وظلت الحكاية مبتورة الخاتمة، يستطيع الخيال أن يختار لها ما يناسب المقام.
يمكنك أن تقول إنه لقاء تأخر عن موعده جيلاً، فلا يمكن أن يثمر،
ويمكنك أن تخمّن أنه لقاء بين حسرتين، وأن انقلابه مجدداً إلى بداية أصعب من انتهائه. ببساطة الخيبات التي تحفل بها أعمار أولئك الذين تتنامى مراهقتهم مع ثبوت عجزهم عن الفعل.
بدأ اللقاء هادئاً في قلب لياقات تلاقي الأغراب.
تجولا بالحديث عن العمل بكل التفاصيل المملة، التي يعيدها الراوي ويستفيض ليشغل وقتاً لا يريده أن ينتهي في جفاء الغربة، ولكنه يعجز عن مده الى حيث ينفتح باب الأمل المرصود لمغامرة جديدة ينشق عنها الغيب.
تسرّبت عبر السرد بعض الاعترافات الحميمة، ولكنهما قصرا عن الإمساك بها خوف التهور والسقوط في فيافي الخيبة.
قال في نفسه: الحب القديم كالفراشة، يجب استنقاذه بإبعاده عن النور…
وقالت في نفسها: إنه بطيء في التقاط الجمر.
وقال كل في سره: لنترك للظروف الجديدة أن تقرر مصير الحكاية القديمة المضيعة في زمنها الماضي.
وحين جاءت ساعة الوداع أضيفت إلى الحكاية القديمة فصول جديدة لا هي تصلح خاتمة ولا هي تنفع بداية جديدة، إلا إذا…
لكن صدى كلماتها المستعادة من الماضي ظل يدغدغ صدره بشيء من الأمل،
كذلك فإن الافتراق بلا وداع أمّلها بلقاء جديد… ولو بذريعة وداع الافتراق.
وما بين الأملين مسافة تتسع للخيال المعوض عن الدخول مباشرة في موضوع كان يحتاج إلى كلمة واحدة يعرفها كل من يحفظ الأبجدية.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لو تيسّر لكل عاشق أن يطلق صوت حبه عفياً، شجياً، مثقلاً بالشوق إلى السعادة، لأزهرت السماء واخضلت الأرض بالندى.
لماذا لا نؤذن للحب؟ أليس الحب صلاة؟!
كيف يدعي الإيمان من لا يحب؟
انتظر حبيبي لصلاة تبدأ ولا تنتهي إلا بصمت الغروب.