نجمة زرقاء لقَتَلة العروبة والإسلام!
بعد محاولات تصفية العروبة بالاغتيال تشهيراً وتقزيماً او بالتجني عليها والافتراء، ها هي المحاولات تتركز الآن على اغتيال »الإسلام«.
وكما نسبت إلى العروبة أخطاء السلاطين الذين كان شرط وصولهم الى السلطة التلطي بشعاراتها بعد اغتيالها، كذلك تنسب الى الاسلام، اليوم، كل الجرائم التي يرتكبها السفاحون الذين باشروا »جهادهم« باغتيال الاسلام.
اللافت أن من يحاولون قتل الإسلام اليوم بتشويه صورته وتزييف دعوته وإظهاره وكأنه عدو الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، بل عدو الانسان ذاته، كانوا بين قتلة العروبة بعد تشويه دعوتها وتسفيه انتسابها للعصر وتزوير رسالتها المؤهَّله لحسم قضايا معقدة كحقوق الاقليات والعلاقة بين الدين والدولة.
ها هي المأساة تتكرر فصولا في العراق، هذه المرة، فيغلب »القتلة« »المقاتلين«، ويخطئ رصاص »المجاهدين« اهدافه فلا يقتل إلا »المؤمنين«، بينما يتحول الاحتلال الأجنبي (الكافر!) الى »وسيط« بل الى »ملجأ« و»حامٍ« وربما الى »منقذ«، ولو بعد حين، لجمهور المسلمين، وبالذات منهم العرب.
ليست السيارة المفخخة المعبّر الأفصح عن البرنامج السياسي للإنقاذ.
وإذا كان مطلق النار اعمى بالتعصب فهو حتما سيخطئ هدفه وسيقتل أخاه ورفيق سلاحه، ويمنح الاحتلال تزكية لا يستحقها.
ليس القتل طريقاً الى التحرير.
… وها هي الارض تمتلئ بجثث الاهداف السامية.
وفي قلب غابة القتل الجماعي سيتجاور فقيدا الامة، العروبة والإسلام، بينما يرفرف علم الاحتلال الاجنبي عاليا وقد اضيفت الى نجومه الحمراء نجمة زرقاء مسدسة الاضلاع تعلن انتصار اسرائيل المطلق.
محمد صفي الدين: شاب في التسعين بذاكرة لا تشيب!
بفضل الجيرة الطيبة، كان بوسعي الاطمئنان بوتيرة شبه يومية، على صحة السيد محمد صفي الدين، فغالباً ما كنت أصادفه منصرفاً من مكتب ولده شوقي في بناية مكي، سيراً على قدميه، ومعه مرافق أمين ليساعده عند التقاطع. وكنت أقدر حيوية هذا التسعيني (مولود 1912) الذي لا يغيب عن مناسبة تستلزم حضوره ولا يقصر في واجب اجتماعي تجاه أصدقائه ومعارفه الكثر.
وكنت بحكم مهنتي قد عرفت »أبا شوقي« نائباً ووزيراً وسياسياً يتقن حبك التحالفات وتحاشي الحدة في المخاصمات، واختراق الحواجز لأن السياسة في لبنان لا تتحمّل المواقف العقائدية الصلدة… وهكذا فقد كان »السيد« أسعدياً في بداية إطلالته على السياسة أواخر الأربعينيات، ثم شهابياً في الستينيات، فحليفاً للإمام موسى الصدر في السبعينيات، وعضواً مؤسساً لجبهة المحافظة على الجنوب، بعد انفجار الحرب الأهلية وتورط المقاومة الفلسطينية فيها، وتزايد الخطر الإسرائيلي الذي جاء اجتياحاً مع صيف 1982 بقيادة شارون فحاصر ثم احتل العاصمة بيروت.
قبل أيام وصلني كتاب »السيد«: »رجل وذاكرة«، الذي يروي فيه محمد صفي الدين نشأته الأولى ورحلته من مسقط رأسه »شمع« المشرفة على حبل السرة الذي يربط بين جبل عامل وفلسطين، إلى صور، فصيدا فمدرسة الشيخ أحمد عباس الأزهري في بيروت، الشهيرة بتراثها النهضوي العصري والمسماة بمدرسة أبناء الشهداء… وهو قد انتسب إلى هذه المدرسة التي لعبت تاريخياً، بالمعنى الوطني، دوراً مشابهاً لدور مدرسة التجهز في دمشق، ومنها انتقل إلى مدرسة الحقوق في العاصمة السورية التي كانت تلتهب بمقاومة الاستعمار الفرنسي في أعقاب »الثورة العربية« التي كان بين أسبابها المباشرة اقتحام عسكر الفرنسيين دارة سلطان الأطرش في جبل الدروز لإلقاء القبض على أحد رموز مقاومة الاحتلال في جنوب لبنان، أدهم خنجر، الذي لجأ إلى منزل النضال المشترك مع »الباشا« الذي أجاره، فلما وقعت عملية الدهم، في مناخ محموم ومعبأ بالشعور الوطني، أعلن الثورة فاستجاب لندائه عموم السوريين وكثرة من اللبنانيين.
استوقفني في تقديم الكتاب هذا الحب المقيم للحياة وقد عبّر عنه »أبو شوقي« بالسطور التالية: »… وعليه، بعد أن انتهيت من سرد ذكرياتي التي صوّرت فيها الأحداث التي عايشتها في فترة زمنية محددة لغاية هذا الوقت، أحب أن أوضح أنني لن أخلد إلى العزلة، ولن أعمد إلى الطلاق مع السياسة، بل على العكس.. فإن ملء بردي النشاط والهمة والعزم. كلها دوافع تستحثني نحو استمرارية النضال ومتابعة السير في الطريق القويم«.
أما من بين الوقائع السياسية الكثيرة فقد اخترت فقرات من رواية »السيد« لما سبق أن رافق عملية انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية تحت الاحتلال، يقول محمد صفي الدين:
»والجدير ذكره في هذا الإطار أن النائب حسين الحسيني كان يطالب بعقد لقاء مع بشير الجميل لكي يطرح عليه ورقة عمل الإمام الصدر. وبالفعل جرى الاتصال وعقدنا اجتماعاً في منزل النائب رفيق شاهين في الحازمية، وحضرنا جميعاً جبهة المحافظة على الجنوب ومعنا الشيخ عبد الأمير قبلان. وكان الاجتماع الأطول حيث دام أكثر من أربع ساعات، تبيّن لنا خلالها جدية بشير الجميل ونواياه الصادقة لتخليص لبنان من محنته…
وكان »السيد« قد التقى، من قبل، بشير الجميل، في المجلس الحربي في الكرنتينا.. ويومها قال الشيخ للسيد: »بلغ تحياتي للرئيس صائب سلام وقل له يروّقها شوي.. شو بدو الدبابات الإسرائيلية توصل على المصيطبة حتى يصدق أنني رئيس للجمهورية…
»وفي حوار آخر، في لقاء آخر، قال الجميل لصفي الدين: قل لأصحابك.. لا كميل شمعون ولا أمين الجميل راح يشوفوها..«.
بين أفضل التوصيفات التي أعطيت »للسيد« ما قاله فيه المفكر منح الصلح إذ قال فيه إنه يشبه كثيراً »الداهية« اليمني الراحل القاضي عبد الرحمن الإرياني الذي كان يبلغ كل من يعترض على موقف له: »أياً هكذا خلقت«، أي إنه مثل »أياً« لا يقبل التبديل والتعديل!
لطفي بوشناق: الأندلس تغني للتيه العربي…
انشق سكون الليل الدمشقي المثلج بصوت رخيم عفي انعش ذلك المسافر الواصل لتوه منهكاً بعد رحلة مضنية، ودفعه الى مغادرة غرفته بحثاً عن مصدر النشوة.
كان الصمت يلف بهو الفندق الذي حولته الحرب في لبنان الى برج بابل يتلاقى فيه جمع متنافر من »الزبائن« بينهم »الزعماء السابقون« والمتقدمون الى »القيادة« بقوة ميليشياتهم المسلحة، وسماسرة الصفقات المتنوعة، من النفط الى السلاح والذخيرة الى مواد التموين، الى متعهدي حفلات الطرب والافراح والليالي الملاح يصحبهم اسراب من فنانات زمن القتل ومن مطربي ساعات الخطر والخوف من الموت على الطرقات او عند المعابر.
تبعتُ الصوت عندما انبثق من جديد، هادراً، مثقلاً بنغمه، الى الصالة التي ازدحم فيها جمهور »عشوائي« يبحث عما يشغله عن القلق الذي يفرضه العيش في قلب الخطر.
كانت الصالة مزدحمة بجمهورها الأليف، فالكل يعرف الكل بالتعود وليس بالرغبة، فهم بمجملهم اسرى مطار بيروت، المغلق غالباً بالقذائف العشوائية بالقصد، او انهم من المعنيين بمتابعة التحولات في تلك الحرب التي طالما استولدت قيادات طارئة بديلاً من قيادات »تاريخية«، وطالما وفرت فرص الثراء السريع لتجار الموت وقناصي الفرص في زمن »تغيير الدول«.
فأما المطرب الذي كان في تلك اللحظة »يصرف« الفرقة الموسيقية لينفرد بالمسرح ومعه عوده، فقد تبدى شاباً عفيا، وسيم الطلعة، تونسي اللهجة، شديد الثقة بنفسه وهو يباشر اداء بعض روائع الطرب »القديم« مما ابدع محمد عبد الوهاب او محمد عثمان او زكريا احمد ومحمد القصبجي تلحينه لأم كلثوم، او بعض الموشحات الاندلسية بنبرتها او بطبعتها المنقحة في حلب التي تعلّم الطرب.
قال وليد الحسيني، رفيق رحلات الشقاء، في الفاصل بين »آهتين«: ألا تعرف لطفي بوشناق؟ انه صوت خطير!
واستمعنا فاستزدنا، وأعاد فاستعدنا، وأجاد فطلبنا مدداً، وكان الصوت في كل وصلة جديدة يزداد طلاوة ونزداد نشوة فتتدفق الآهات ويندفع لطفي مصعداً نحو ذرى جديدة من النغم المسحور.
مع فجر ثالث جلسنا سكارى، وما نحن بسكارى، الى لطفي بوشناق نسمع منه عن ينابيع الاصالة التي شرب منها حتى امتلأ ففاض طرباً معتقا يغنيه بحسه المرهف، فلا يغادر أصوله حتى وهو يجدد ويبتدع من داخل النغم، ويفرد صوته حتى يلاغي تلك الذرى التي يلامسها كروان فقد قرينه…
قال لطفي بوشناق انه يعشق لبنان، وانه يجمع الى اعجابه بالمعلم محمد عبد الوهاب تقديراً عظيماً لوديع الصافي، نهر الطرب الهادر.
وقال لطفي بوشناق انه عندما »يسلطن« يفضل ان يغني على عوده فقط، يحس عندها انه »ينفرد« بجمهوره، فيعطيه اكثر.
ومن بعدُ تلاقينا مع النغم العفي، لطفي بوشناق، في باريس، اذ عرفنا انه يغني في واحدة من الصالات التي يؤمها جمهور عربي، فذهبنا اليه ننعش روحنا المكدودة باخبار الموت وبرد المنفى.
كنا بصحبة الباهي محمد ابن الصحراء الذي لم تنجب المدن مثله ثقافة ومعرفة وتذوقاً للشعر ورواية للقصص واجادة للقرآن الكريم وفصاحة بالفرنسية ووفاء للاصدقاء.
ولقد انتبه لطفي بوشناق الى وجودنا فغنى المغرب للمشرق، ثم غنى بنغم المشرق للمغرب حتى سكر الجمهور واخذته موجات من النشوة الى الآهات المخزونة في انتظار مثل هذا اللقاء الحميم فأطلقها كالتماعات برق في سماء باريس التي تتذوق الفن بكل لغات الارض.
… وتابع لطفي بوشناق صعوده الى ذرى النجاح الفني، وكنت افرح كلما داهمني صوته منطلقا من بعض الفضائيات في حفلات عامة، او في بعض اللقاءات الخاصة التي كان يملأ مساحاتها بالنغم الشجي فلا تستطيع ان تسمع بعده أحداً…
…وها قد جاء زمن الحزن: فآخر اخبار لطفي بوشناق انه في محنة صحية تتهدد حياته بالخطر!
لطفك اللهم بهذه الموهبة الممتازة وسط اكوام المطربات بالجسد والمطربين بالجينز والشعر المنكوش!
لثغة الحب…
…وقالت »كنده« التي نطقت بالشعر من قبل أن تعرف الكلام إنها تحب الحياة التي لها عينان زرقاوان موشومتان بوجع أخضر.
وقالت »كنده« التي عيناها بنفسجتان تتوهجان بالشوق الى لقاء ما بعد الانتصار الثالث على الخطر، انها تعتز بكونها ثمرة هذا الانتصار بقدر ما هي مصدره.
وقالت »كنده« التي وُلدت كما »الآه« من قلب الشجن، انها كبيرة بما يكفي لتعرف ان الجنة تحت اقدام الامهات.
وقالت »كنده« انها تعرف الآن الكثير من ملامح وجه الله، وانها تخاطبه باسمه مجرداً فيسمعها ويستجيب لها من قبل ان تطلب، وهو قد اعطاها بغير منة، وانها تستعير له احيانا بعض ملامح تلك التي لها عينان زرقاوان موشومتان بحلم أخضر.
وقالت »كنده« التي ولدت من قلب الاستحالة انها ستعرف كيف ستوقف موسم المطر في العينين اللتين تتمرى فيهما فتتعلم منهما الحب لثغة اثر لثغة، وبين اللثغتين سحبة »آه« تنثر الفرح في دنيا تلك التي تحت قدميها الجنة، وفي صدرها يسكن الحنان.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب مطلق. كل محب يجتهد في توصيفه، ويسبغ عليه من مشاعره ما يفترض انه يضيف به اليه سمواً او رقة.
لكن الحرفين الصغيرين الملتصقين كما يتشهى كل زوجين، يظلان اوسع مدى من اي توصيف، ففيهما معنى الحياة.
اللهم أبقِ لنا نعمة الالتصاق بالمعنى.