صور الذين يعطون غدنا ملامحهم
بغير مقدمات وجد »الشهيد« صورته مطبوعة بالألوان على ورق صقيل وبحجم مضخم..
وحين انصرف الفتى المكلف بالمهمة السهلة، لصق الصور على الحيطان، بعدما أحلّ الصورة الكبيرة في موقع ممتاز على ذلك الجدار المزدحم بزواره متعددي الأشكال والألوان والأحجام، دار »الشهيد« ببصره يتفقد جيرانه ويتعرف عليهم في مواقعهم.
انتبه »الشهيد« أولاً إلى الجدار المثقل بشاغليه الذين أتت بهم المصادفات فتجاوروا صوراً في حين أن لا شيء يجمع بينهم في الحياة اليومية.
فأما الجدار فهو مجرد سور لأرض فضاء كان يقوم فوقها »مبنى تراثي« فأزالته الطفرة إلى الاستثمار في العقار بتفخيم الشقق المبنية بالطلب لأثرياء المقاولات والصفقات »الرسمية« والسمسرات »الدولية« وبرامج التنمية المستدامة التي تكتب بأموال النفط العربية لتبرير مشاريع »الإصلاح« الأميركية المحمولة بالطائرات وعلى الدبابات.
وأما الصور فموسمها هذه الأيام استثنائي، ذلك أن الانتخابات عموماً تبدأ وتنتهي بالصور… فالترشيحات »صورية« واللوائح »صورية« والنتائج »صورية«، سواء أجاءت محمولة أم راجلة.
ثم أن كل صورة مشروع صفقة، وبين متعهدي لصق الصور اتفاق جنتلمان يحمي حسن الجوار »بالتراصف«، فالإلغاء ممنوع لكن »الحدود« غير مقدسة بين »محتلي الجدار« بدءاً بالمطربة الشبابية مروراً بإعلانات المرطبات »الوطنية« والمياه (غير الغازية وغير المرخصة) والفوط الصحية التي تمكّن الجميلة من القفز والرقص بغير تهيّب من أن ينكشف »السر« الفضاح، والمغنواتية من أطفال أنابيب البرامج التلفزيونية المدارة بالخلوي.
انتبه »الشهيد«، بعد ذلك، إلى أن حجم صورته هو الأضخم بالقياس إلى »جيرانه«… ولعله قد اعتبر ذلك تكريماً لتاريخ جهاده ولبطولة شعب فلسطين الذي يتسابق فتيته الذين بالكاد بلغوا سن الرشد إلى الاستشهاد مع قادتهم الذين علّموهم أن الأرض لا تكون لأصحابها إلا بأصحابها، وأن من تعذر عليه أن يبقى فوقها فإن مكانه محفوظ داخلها، تحميه ويحميها في مكمنه الحصين: ترابها.
وانتبه »الشهيد« أيضاً إلى أن مواكب »الشهداء« في العراق لم تصل بعد، فالمجاهدون في أرض السواد يسقطون ومعهم أسماؤهم، أما صورهم وهم في الطريق إلى »مكامنهم« فلا يظهر من ملامحهم فيها إلا عيونهم بينما الكوفية تحجب الوجه والاسم والمنطقة والطائفة والهوية السياسية: »هو العراق كما أنا فلسطين«.
»كانوا« صامتين كالصور، مجملين بألوانهم الطبيعية، الداكنة في ملامح الشهيد، الفاقعة في الإطار المذهّب للمرشح الوجيه، الزاهية في ملابس المحجبة الطامحة لأن تكون »مختارة«، والمرقطة في الثياب كما في العيون الناعسة للسوبر مطربة، والمغرية في تلوي الجسد الفارع لشاربة المرطب الأصيل.
الشهيد صورة، واحدة من الصور… ولولا أن وجهه معروف مثل اسمه ومثل الآيات البينات التي تؤطّر صورته، لاعتبره المارة مرشح اللحظة الأخيرة لرئاسة البلدية أو مرشح التزكية لمنصب المختار في هذا الحي أو ذاك.
لم يتحول الجدار من ذاكرة إلى مقبرة.. صار معرضاً تختلط فيه السياسة بالتجارة بالإعلان والترويج..
تحوّل الشهيد إلى صورة بين صور كثيرة لا يربط بينها أي رابط غير الجدار،
لم تعد الشهادة خبراً استثنائياً. صارت خبزاً يومياً. صارت أليفة كأخبار العائلة. صارت بعض يومياتنا. حتى العدد لم يعد يستوقفنا كثيراً: نصغي فقط لنسمع الرقم، وقد نستهوله إذا ما زاد عن العشرين في اليوم، مثلاً، لكنه متوقع دائما.
كان الشهيد »اختصاصاً« فلسطينياً، ثم شاركه »اللبناني« هذا الشرف.. وها هو »العراقي« ينضم إلى القافلة المباركة التي تسقط مواكبها في ميدان المواجهة مع الاحتلال فتفضحه وتظهر »الأميركي البشع« في صورته الأصلية متطابقاً مع »الإسرائيلي البشع« إلى حد التماهي الكامل.
قال »الشهيد« من دون صوت: سيجيء مع كل شمس المزيد من الشهداء، ومن أنحاء مختلفة من عالمنا المهيض الجناح.
سمع الشهيد حواراً بين عابرين. سمع الأول يقول لرفيقه: حرام ان يحشر الشهيد هنا وسط زحمة الاعلانات هذه. ان موقعه الطبيعي في صدر قاعة الاستقبال في البيت.
وسمع الشهيد العابر الثاني يقول: أما أنا فأحمل صورته في قلبي وفي وجداني. أتعرف، صرت افترض ان للشهداء جميعاً الملامح ذاتها. انهم يجتمعون عندي في صورة واحدة فيها ملامح أبي وجدي وعمي وخالي وكل من أحب.
عاد الأول إلى الكلام فقال: سندفع كثيراً من الشهداء ضريبة »للطغيان الوطني« الذي عطل في العديد من الأقطار العربية حركة النهوض الشعبي، بما في ذلك القدرة على المقاومة. لقد أخذ »الطاغية« من الناس »الوطن«، وأخذ من »المواطن« حقوقه في »الوطن«، وقهر فيه ارادته كمواطن وكرامته كإنسان.
قال الثاني: ها هم الناس يعودون »مواطنين« عبر المقاومة. وها هم يواجهون الاحتلال بوصفه الوريث الشرعي للطاغية… يواجهونه بما تبقى لهم: بدمائهم!
………..
بات الشهداء »شعباً« عظيم العدد وجليل المواصفات.
بات الشهداء يشاركوننا يومياتنا، بل هم يصنعون الكثير من هذه اليوميات. تصافحنا وجوههم في صحيفة الصباح، ويساهروننا على شاشات التلفزيون. يقرأون علينا خطب الوداع التي قد نجد فيها ما لا يعجبنا، ولكننا لا نستطيع ان ننكر فيها طهارة القصد وسلامة الطوية.
للشهداء ملامحهم التي قد لا تشبهنا كثيراً،
ولهم لغتهم التي قد لا تعجبنا بعض الدلالات والمقاصد فيها،
لكنهم ينقشون بدمائهم صورة الغد الذي لن يكون بالضرورة لهم أو لمن هم مثلهم، ولكنه سيكون بعض »وطنهم« وسيكون فيه بعض ملامحهم الأصلية بوصفهم أهل الأرض التي لا تهاجر ولا تسافر ولا تنسى أهلها.
خرقة إسرائيلية للاحتلال الأميركي
يواصل الاحتلال الأميركي، مباشرة أو بواسطة اتباعه ومرتزقته، التزوير المنهجي للعراق: كياناً سياسياً وشعباً موحداً بتاريخه وجغرافيته وأسماء الأنبياء والخلفاء والشعراء والصعاليك.
ومن دون مقدمات امتدت يد الاحتلال إلى العلم الوطني المثقل بالرموز، والذي كان يتضمن التوكيد على وحدة هذه الأرض العربية، وطموح شعوبها إلى التوحد، ذات يوم باعتبار الوحدة ضرورة حياة تتجاوز بقيمها الشعار السياسي، من دون ان يعني ذلك إلغاء حقوق الأقليات العرقية فيها.
فمنذ الاستقلال الأول، لكل كيان من كيانات هذا المشرق العربي، وفي ظل المناخ السياسي والعاطفي المهيمن والمجسد التوق إلى التوحد، تلاقت الارادات على ألوان العلم الاعلام للكيانات الجديدة وهي: الأحمر والأسود والأخضر والأبيض… واختار كل كيان ان يوزعها »على كيفه« من مصر والسودان إلى اليمن، مع استثناءات محدودة في بعض الجزيرة، حيث غلب الشعار الإسلامي على العروبة.
ولقد بدلت بعض هذه الكيانات توزيع الألوان في اعلامها، نتيجة لانقلابات عسكرية في الغالب، لكنها حرصت على ان تبقي التغيير في إطار العلم العربي مع تعديل في المواقع..
أما مجلس خدمة الاحتلال في العراق فقد طلع على الناس، فجأة، بعلم مبتدع، بل وهجين لا علاقة له بالعراق وتاريخه من قريب أو من بعيد، لن يقدر له ان يرتفع في سماء بغداد وسائر أرض الرافدين.
انها مجرد محاولة إضافية لاذلال العراقيين، ومعهم كل العرب.
وقد فهم العراقيون »الرسالة« ورفضوا الاذلال فبادروا إلى احراق هذه الخرقة الملونة التي رأوا فيها ذروة المحاولات الجارية لاذلالهم واهانتهم بتهجينهم وفصلهم عن تاريخهم وعن هويتهم وعن أهلهم.
»انه علم إسرائيل، مع شيء من التعديل.. فأحرقوه!«
ولقد احرقه العراقيون فعلاً في الشرق كما في الجنوب وفي الغرب كما في الشمال حتى حدود »كردستان العراق« التي ترى فيها أحزابها الكردية »دولة« خالدة الكيان.
ماذا أكثر من ان يلغى علم اعطاه الملايين حياتهم (بمعزل عن اغراض الحاكم من حروبه العبثية)، ورأوا فيه محاولة إضافية لاذلالهم بهذا الرسم الهندسي الذي تعامل مع العراق بعين »خواجا«، فاستعار من العلم الإسرائيلي (الغريب مثله عن المنطقة وأهلها) اللون الأزرق والخطين المتوازيين (وان كان مالأ الأكراد بخط ثالث أصفر ثم نسي… العرب).
انه عَلَم مجلس خدمة الأميركيين الذي تقرر اعفاؤه وصرفه من الخدمة، ليأتي إلى »الحكومة« الجديدة التي سيمنحها الاحتلال نتفاً من »السيادة« تتساوى بقدر ما في الخرقة الزرقاء من العراقية.
والخرقة الزرقاء تليق بالتجميع القبلي الذي ينوي حشده الموفد الدولي الأخضر الإبراهيمي، مكرراً تجربته الباهرة في أفغانستان.
هذا مع التنويه بأن بين العقبات التي قد تعترض طريق هذا الدبلوماسي الكفؤ الاتهام الذي وجهه إليه بعض من أعادهم الاحتلال إلى عراقيتهم من انه »قومي عربي«، مع ان »سي الأخضر« لم يشتهر عنه تعصبه القومي، لا إلى بربر الجزائر الذين يتحدر من صلبهم، ولا إلى الحركة القومية العربية التي له منها موقف نقدي جعله يحافظ دائماً على مسافة مع رموزها عموماً، لا سيما في المشرق العربي.
…وربما يعدل سي الأخضر من موقفه هذا بعد المصاهرة مع »الهاشميين« الذين في ظل »ثورتهم العربية الكبرى« ولدت الراية العربية التي يراد إسقاطها عن عراق اليوم والغد.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
يأخذني الصوت الجميل إلى حبيبي كما تأخذني إليه زخة العطر ويستحضره الهمس الحميم مهما كان بعيداً. حبيبي يسكن في كل ما هو جميل، ويأخذني إلى الروعة. حبيبي يمنحني متعة التلذذ بأطايب الحياة، ما يرى منها وما لا يرى… ولا سيما ما لا يرى ولا يروى.