تخاريف رمضان شعبان عثمان والمعادلات المستحيلة!
هو رمضان.. وفيه، وبذريعة الصيام، تتحول المسائل الجدية الى »تخاريف«، أو بالعكس.. هنا نموذج عن بعض المهازل المبكية أو بعض المبكيات المضحكة، لكي يتسلى خيالك لا غير!
يعيش عرب أواخر القرن العشرين في ظل معادلات مستحيلة:
يخضع المواطن العربي لحاكمه وهو ينكر عليه »شرعيته« الشعبية، فغالباً اما أخذ الحاكم هذا المواطن بالسيف أو بالدبابة (وآخر البدع الناجمة عن هذا الواقع هي استفتاءات المئة في المئة، وأحيانا أزيد كما مع صدام حسين في العراق).
بالمقابل »يخضع« الرجل العربي للمرأة، أما كانت أو زوجة (أو عشيقة)، في المنزل (أو في »الغارسونييره«)، ثم يُنكر عليها حقوقها السياسية فلا يعترف بها شريكة مصير، ويمنع عنها حق الانتخاب بل وقد يتطرف فيمنعها (داخل بلده!!) من قيادة السيارة!
لكأنه ينتقم في بيته مما يصيبه من إذلال، مما هو مفروض عليه خارجه، أي في مواجهة السلطة التي تقمع نزوعه الطبيعي الى إثبات حضوره وإلى ممارسة حقه الطبيعي في الجهر برأيه وفي المشاركة في تقرير مصير بلاده وفي صياغة حياته وأسباب تقدمه فيها.
أما في مسألة العلاقة بين السياسة والشعار الديني، فالأزمة أكثر حدة إذ تحكمها مجموعة من المشاعر المتناقضة تتراوح بين النفاق والتلفيق والتحايل والتمويه أو التصادم الذي قد يكون مدمراً.
كذلك الأمر في العلاقة بالغرب، حيث تتذبذب المواقف (والمشاعر) بين التقليد الأعمى وبين العداء اللفظي المفرغ من المعنى، لأن اللغة المستخدمة فيه تظل »غربية«، وبين محاولة تمييز الذات التي غالبا ما تتكسر على أعتاب المفاهيم الرأسمالية والقول بحرية التجارة، خصوصاً متى استذكر »المتفلسفون« أن الرسول العربي كان تاجرا، وأن الله سبحانه وتعالى قد أحلّ التجارة والربح الشرعي، وأنه حرّم الربا.
نعود إلى المرأة العربية والموقف »الرجالي« منها، في ظل حدثين »كويتيين«، أولهما وأخطرهما الانتكاسة التي مُني بها مشروع تمكين المرأة من ممارسة حقها الانتخابي، والثاني تحديد موعد لمحاكمة كاتبتين كويتيتين هما ليلى العثمان وعاليا شعيب في مستهل الألفية الثالثة، ومباشرة، بعد الخدر اللذيذ الذي ستستولده الإجازة الطويلة لعيد الفطر السعيد: 16 كانون الثاني 2000.
لقد كشفت المعركة، حول اعتبار الكويتية مواطنة »بالتأسيس لا بالتجنيس«، وبالتالي حقها في أن تكون »ناخبة«، وفي أن تتميز عن »البدون«، حجمَ الضغوط التي تتعرض لها مسيرة التقدم الاجتماعي في منطقة الجزيرة والخليج.
لقد خرج إلى النور ذلك التحالف الخبيث بين الفئات الأكثر انغلاقاً والأعظم تخلفاً في المجتمع العربي، في مواقع السلطة (تشريعية وتنفيذية) وبين حملة الشعار الديني، في مواجهة محاولات الانتماء الى العصر والإقرار الجدي لحقوق الإنسان (حتى لو كان أنثى!! وربما كتعويض عن النقص في حقوق الذكر السياسية!!).
وكما عطل هذا التحالف احتمال تمرير القانون نيابيا، فإنه ضغط لإحالة النساء الكاتبات إلى المحاكمة وكأنهن ارتكبن جرما فاضحا أو »نشرن«، أو وهذا هو الأخطر اعتدين على شرف الذكور جميعا فسرقن منهم عبقرياتهم أو ملكاتهم الابداعية أو أقلامهم المذهبة!
… حتى ليصدق التوصيف القاسي الذي قدمت به الدكتورة بثينة شعبان لكتابها الجديد المتميز »مائة عام من الرواية النسائية العربية« وقد جاء فيه: »ان كل امرأة ناقدة تقف وراء المنبر في أي جامعة عربية أو مركز ثقافي كي تتحدث عن أدب النساء سرعان ما تكتشف أنها تقف في قفص الاتهام، وتطرح التساؤلات غالبا حول ان كان هناك شيء اسمه »أدب النساء«، وفيما إذا كان الأدب له أعضاء تناسلية كي يقسم الى ذكر وأنثى«!
وللمناسبة، فإن الدكتورة بثينة شعبان قدمت في عرضها لرواية ليلى العثمان »المرأة والقطة« مطالعة »إدانة« لهذه الكاتبة الكويتية أظهرتها وكأنها »معادية لجنسها«، في حين انها ستحاكم غداً بوصفها معتدية على حقوق الرجال وأذواقهم وأدبهم الذي يستعير من »جنسهم« قيمته ومستواه وليس من صدقه في التعبير عن الواقع الاجتماعي أو عن طموح الإنسان الى الأفضل.
ففي الرواية »يوجد ثلاثة أنواع من النساء: العمة الشريرة التي ليس لديها القدرة على الحب أو على رؤية الحب حولها، والأم التي هي ضحية العمة، و(الزوجة) حصنة التي تذكِّر (زوجها) سالما بأمه بطرق مختلفة والتي تصبح هدفا لكراهية العمة وأخيرا تصبح ضحيتها النهائية… لكن سالما هو الذي يُتهم بقتل زوجته ويدخل السجن، وبالنسبة إلى سالم كان قتل عمته قطته (دانة) أمرا خطيرا مثل قتل زوجته حصنة (…) وما يدهش المرء في هذه الرواية هو أن النساء هن في آن واحد المتحكمات والمتعبدات، المستبدات والمضطهدات، بينما الرجال أشخاص كالأطياف، ويقعون كليا تحت تأثير النساء وسيطرتهن«.
ها هي ليلى العثمان تلقى مصير قطتها »دانة«، فتضربها غيرة الرجال الذين استفزتهم بعض الجمل أو الصور في كتاباتها أكثر مما تستفزهم إسرائيل باحتلالها أو الولايات المتحدة الأميركية بهيمنتها وتدخلها الفظ في الأدق من الشؤون الداخلية لأي قطر عربي.
معادلة مستحيلة أخرى بين الكرامة الوطنية في مواجهة الأجنبي والكرامة الذكورية في مواجهة الاعتداء النسوي الشنيع.
خاتمة لقرن الخيبات العربية: فيصل كل العصور!
لو قُيِّض للأمير فيصل أن يقرأ، ما دام انه لم يقدَّر له أن يكتب، حكايته كما رواها بلسانه خالد زيادة، لفرح بهذه العاطفة التي حوّلته من باحث عن مُلك بأي ثمن وفي أي مكان إلى بطل تراجيدي لأسرة ضاعت فضيّعت فرصة تاريخية، أو أنها جعلت نفسها بديلاً من أمتها، فجنت لنفسها أرباحا بائسة على حساب أحلام جليلة كالوحدة والتحرر والدولة الجامعة للأقطار الخارجة من السلطنة العثمانية والتي تاهت من بعد في قلب دهاليز الخبث البريطاني فانتهت ممزقة من جديد وموزعة على الأسياد الجدد المنتصرين في الحرب العالمية الأولى.
من أمير مقاتل تحت قيادة أبيه الشريف حسين في نجد والحجاز وأطراف الجزيرة العربية، إلى موفد باسم الثورة على الأتراك إلى »سوريا الكبرى«، إلى حليف اضطراري للغرب الذي كان يحتاج في قتاله ضد »دولة المسلمين« إلى سليل للعترة النبوية وابن لشريف مكة المكرمة، يقدمه ليستميل به جمهور العرب الطامحين الى التحرر بغير أن يُتهموا بالردة والسير في ركاب »الصليبيين الجدد«.
كأنك تقرأ في كتاب اليوم،
الخديعة مستمرة، والسقوط في الفخ الغربي متكرر، ومطاردة »العهد« المتحول إلى »وعد« فإلى »احتمال« فإلى »خرافة«، تنتهي بسلطة تافهة على جزء من الكل، ودائما »كوكيل« للغرب الاستعماري و»عامل« لحسابه تحت الراية القومية أو الوطنية التي تتحول إلى مجرد ستارة تمويهية للانحراف الخطير.
منذ امرئ القيس وحتى فيصل الذي سيغدو ملكاً على دمشق، قبل أن يتخلى عنه البريطاني الذي عيّنه ليخلعه »حليفه« الفرنسي، ثم ليكافأ من بعد بعرش في العراق، توالت الفصول التي لخصها ذلك الأمير الشارد شعرا:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دوننا
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا،
فقلت له: لا تبكِ عينك إنما
نحاول مُلكا أو نموت فنعذرا!
لطالما بكى فيصل واستبكى في رحلة الهوى والهوان وراء قيصر الإنكليزي! ولكنه حاول فنجح وأخذ المُلك، ولم يمت، والأرجح أنه لم يُعذر أيضاً.
لا ندري إن كان خالد زيادة قد أعطى سنوات من عمره، يجمع المادة التاريخية، ويستنطق الوثائق المخبوءة والكتب المنشورة، والمذكرات المستورة، والاعترافات المتأخرة عن موعدها، لكي يتحدث عن الماضي، أم أنه أراد ذلك البحث تحديدا كمدخل الى حديث في الحاضر وعن المستقبل، محاولاً أن يلفتنا إلى حقيقة أن تاريخ السلطة يعيد نفسه، وأنه في المرتين مزيج من الملهاة والمأساة الكاشفة للسذاجة السياسية العربية والغربة عن »اللعبة الدولية« والجهل الفاضح في قراءة التوازنات السياسية وحساباتها المعقدة!
ما يمكن استخلاصه، وأنت تطوي الصفحة الأخيرة في رواية هذه الحكاية الملكية، أنك بتبديل في بعض الأسماء والمواقع، تنتهي إلى قراءة مباشرة في أحداث اليوم ووقائعه التي تثبت أن المأساة ما زالت مفتوحة على مزيد من الفواجع، عربيا.
السلطة أهم من الوطن، والأجنبي أهم من الشعب، والاستسلام هو الطريق الأقصر لتحقيق الحلم الذي يبدأ قوميا وينتهي شخصيا، والعذر موجود دائما: تارة يكون في »الخديعة« التي مارسها الأجنبي، وطورا يكون في المعارضة المتطرفة، ودائما يكون في الاكتشاف المتأخر لعدم توازن القوى بين »العروبة الضعيفة« أو »الناشئة« وبين الخصم الاستعماري الغربي الصهيوني الجبار والمخاتل وصاحب الخبرات العظيمة في بيع الأوهام.
ولقد سبكها خالد زيادة ببراعة: يأخذك الى، ثم يردعك عن التعاطف مع هذا الأمير التائه في خضم المؤامرات والمناورات، الساذج سياسيا، الخارج على طاعة أبيه المتحالف مع التنين والمتسابق معه الى طلب المُلك من هذا التنين نفسه.. ذلك أنه وجد نفسه في نهاية المطاف في موقع أبيه تماما: يتوجه إلى »عدوه« لكي يأخذ منه أسباب القوة اللازمة لمواجهته!!
وإذا كان الشريف حسين بن عون قد انتهى ملكا مخلوعا في قبرص، بعدما اكتسح عبد العزيز آل سعود الحجاز وخلعه، مستعينا بفهم أدق لطبيعة التحولات و»رياح التغيير« التي هبت على المنطقة في ضوء نتائج الحرب العالمية الأولى، فإن ولديه فيصل وعبد الله قد نالا جائزتي ترضية بائستين وإن كانا قبلاها، فعُوض أولهما بعرش العراق عن سوريا، واقتطع للثاني من سوريا مساحة لامارته في شرقي الأردن (في انتظار أن تكتمل النكبة في فلسطين فتتوسع الامارة الى مملكة مهمتها حماية وتأمين الكيان الإسرائيلي الجديد).
يستعيد خالد زيادة، بدأب ملحوظ، وقائع تلك الأيام، بين 1918 و1920، ويعيد تقديمها كراوية لا كمؤرخ، وبلسان »بطلها« الذي ينزله من موقعه الأسطوري إلى مباذله وهمومه وطموحاته وعواطفه وأحقاده، كإنسان، وكساع الى الملك مضطر الى الانسياق في مناقصة مفتوحة: كلما ذهب الأكثر تشبث بالأقل، وكلما تبخرت الأحلام في وحدة لا قوام لها تذكر نفسه ونسي الآخرين من أولئك الذين خرجوا من السلطنة عليها شاهرين سيوفهم، والذين تجمعوا من مختلف الأقطار العربية خلف الدولة المجسدة للحلم البهي الذي لم يعرفوا أبدا كيف ينجزون صياغته.
وهكذا يتوالى مرور المناضلين والمفرطين والأتباع، ويدفعهم خالد زيادة بخاتمه، فيصنفهم بغير ان يحكم لهم أو عليهم: نوري السعيد، ياسمين الهاشمي، الشريف زيد، الشريف ناصر، ساطع الحصري، يوسف العظمة، إحسان الجابري، الركابي، الدروبي، الشيخ كامل القصاب، الدكتور الشهبندر، الأمير عادل أرسلان، اللواء عزيز علي المصري، راسم سرادست، أسعد داغر، الأمير سعيد الجزائري، الشيخ رشيد رضا، فايز الغصين، هاشم الأتاسي، عبد الملك الخطيب، رستم حيدر، جورج لطف الله، صبحي الخضرا، فؤاد سليم والشيخ محمد رضا الشبيبي وكثير غيرهم.
لأمر ما، حوّل خالد زيادة لورانس الى »ظل« يمرق خفيفا في الصفحات، ويكاد يكون بلا ملامح، مع أن »فيصل الأول« مرتبط في الذهن العربي بضابط المخابرات البريطاني ذاك الذي جعله العجز العربي أسطورة تكاد تجسد بذاتها »أعمدة الحكمة السبعة« الذي كتبه لورانس بعد تجربته العربية الغنية.
ربما لأن خالد زيادة بدأ حكاية فيصل من حيث انتهى دور لورانس، أي ما بعد معركة العقبة، وانتصار الحلفاء ودخول البريطانيين والفرنسيين هذا المشرق قائلين بلسان الجنرال اللنبي عند دخوله دمشق ومرقه أمام ضريح بطل حطين: ها قد عدنا يا صلاح الدين!!
وربما لأن خالد زيادة كان يريد التركيز على شخصية البطل التراجيدي، »الأمير الضليل« المعاصر، مع افتقاره الى الشاعرية والى الصدق الذي جعله يدين نفسه بارتباطاته السياسية (كما امرؤ القيس).
أو لعله التعاطف مع هذه الشخصية التي تتقاطع فيها ملامح الضحية مع أطماع الباحث عن عرش، والتي تبهت فيها السمات الملكية بقدر ما تأخذه العزة بالالتفاف الشعبي من حوله كمجسد لحلم قديم ومنسي افترض الناس ان لحظة إنجازه قد حانت، ثم سرعان ما استفاقوا الى واقع الخيبة وفجيعة السقوط الذريع في سوء التقدير السياسي.
أهم ما في الكتاب، الى براعة الرواية السردية، توقيته.
ولعل خالد زيادة قد تقصد أن تجيء روايته خاتمة لقرن من الخيبات والانتكاسات العربية، وهو القرن الذي تصور العرب في بداياته انه سيكون عنوان عودتهم الى التاريخ!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ينظرني حبيبي في عيني فيقرأ كلماتي التي لم أصغها بعد، ويترجم أفكاري التي لما تكتسب سياقها ولم يكتمل معناها. لا ينقطع الحوار بيننا ولا يختل، مهما طال الغياب. لقاؤنا متصل في الظن والتصور والتمني، من قبل أن يجمعنا الحضن الواحد والرغبة الواحدة التي تسكن قلبا واحدا بنبضتين!
طلال سلمان