قتل العروبة ليعيش الاحتلال!
ترتفع اصوات الهزيمة الجديدة، هذه الايام، مبشرة بموت العروبة.
يقول النادبون: الحمد لله اننا تخلصنا من هذه »الآفة« التي دمرت ماضينا وكادت تدمر مستقبلنا لو اننا بقينا على تمسكنا بها!
ويقول من »حررهم« الاحتلال الاجنبي من إسار عروبتهم: ماذا انجزت بدعة العروبة؟ لقد جاءتنا بأنظمة القمع والمخابرات والاغتيال فقضت على الديمقراطية في دول المشرق! أما في الخليج، فقد تلطى صدام حسين بشعارات »البعث« لكي يحتل الكويت. ولولا القرار الاميركي الشجاع لما أمكن »تحرير« الكويت! وها هو »البعث« يسقط في العراق فتتكشف المآسي بل الكوارث التي خلفها، من التخلف الى الفقر المدقع الى المقابر الجماعية، الى الشروخ العميقة التي ضربت وحدة المجتمع وكيانه السياسي!
أما عند الحديث عن فلسطين فترتفع اصوات النادبين حتى تصير صراخاً: ماذا أفادت العروبة فلسطين؟ لقد أضاعتها كلياً في 1948 و1967 و1973 و1982… وها خريطة الطريق الاميركية تحاول إنقاذ ما تبقى منها!
ويصل هؤلاء الى الخلاصة المنطقية التي يرون فيها الحقيقة المطلقة:
لقد تسببت العروبة بإعادة الاحتلال الاجنبي الى مجمل الاراضي العربية. إنها بشرى سارة أن تسقط العروبة. ليبحث كل شعب في هذه المنطقة عن مصيره، منفردا، وضمن ظروفه الخاصة ووفق مصالحه الخاصة. لماذا النفخ في بدعة هي من نتاج الاستعمار القديم لتجميع ابناء المشرق في مواجهة السلطنة العثمانية! لقد أدت العروبة غرضها، من زمان، وآن لها ان تسقط! والأكرم ان نشيعها الى مثواها الأخير لكي نعرف طريقنا الى مستقبلنا، كل في كيانه الذاتي، وفي ضوء مصلحته.
تحاول المناقشة فيجيئك الرد قبل ان تكمل جملتك الاولى: ها هو العراق يظهر بحقائقه الاصلية. انه يتشكل من عرب وكرد وتركمان وكلدان وآشوريين وأقليات أخرى، والعرب عشائر وأهل حضر، ثم إن العراقيين يتوزعون شيعة وسنة ومسيحيين، صابئة ويزيديين وطوائف اخرى. لم يكن العراق عربياً في أي يوم فلماذا نجعله بالقوة القاهرة عربياً؟
تتصور للحظة أن هذه »القاعدة« قد اعتمدت في مختلف الاقطار العربية: العشائر والقبائل حيث الغلبة السكانية تعود إليها، وجنسيات السكان في اقطار الخليج حيث يغلب الوافدون على اهل البلاد الاصليين، والاعراق والاثنيات والطوائف والاديان والمذاهب في مختلف أرجاء هذه الارض التي كانت تصنف »عربية«. اذن هي حروب اهلية لا تنتهي بين أمم بلا حصر. وحدها إسرائيل تبدو، في هذه الحال، »شرعية«، وشرعيتها ترتكز على الدين الذي حولته السياسة الى قومية. في حين ان »السياسة« عند العرب ألغت »قوميتهم« في الوقت نفسه الذي كانوا يخرجون فيه من »إسلامهم« بوصفه »إرهاباً«.
عرب خارج العروبة، ومسلمون خارج الإسلام، وأقليات بلا هويات وطنية، إنها عودة الى ما قبل الدولة. إنه خروج من التاريخ.
انه تجريد للأرض من هوية اهلها، الذين سيغدون والحال هذه شراذم من »البواقي« و»مخلفات« العصور الغابرة.
انه جدل خارج السياسة، سينتهي مهما حسنت النوايا الى اعتبار الاحتلال العنصر الجامع لهذا الشتات من الاقوام والجماعات التي أضاعت هويتها ووقفت في غربتها عن ذاتها تنتظر من »يتبناها« ويمنحها اسماً وعائلة كأي لقيط.
ماتت العروبة، عاش الاحتلال! لا يهم ان كان إسرائيلياً او اميركياً!
ماتت العروبة: هي الحروب الاهلية حتى قيام الساعة!
العجان والعجين الذي أفسده النقد النادر!
(مقتطع من كلمة في تأبين محيي الدين صبحي في مقر اتحاد الكتاب العرب في دمشق)
لم ينتظر محيي الدين صبحي ان يأتيه الموت الى قلب كلمة »لا« التي يستوطنها منذ الهزيمة الاولى.
لقد تقدم الى الموعد الذي اختاره بنفسه وحدده بوعيه الذاتي حين أحس انه لم يعد يستطيع ان يقدم اكثر مما قدم، وحين اكتشف ان التغيير فوق طاقته، وخارج اهتمام القادرين عليه، وأن الشهادة اعز من ان ينالها كما نالها غسان كنفاني في مثل هذه الايام من العام 1972، في ضاحية مار تقلا بالحازمية، الضاحية الشمالية لبيروت المقاومة.
كان يستعجل الرحيل ليوفر على نفسه ان يشهد المزيد مما شهدنا ونشهد من اهانات للأمة بتاريخها وجغرافيتها وكينونتها، على امتداد الثلاثين سنة الاخيرة.
لم يكن في نيته ان يطلب لنفسه اكثر مما لديه: اي لا شيء!
ولأنه كان قد بلغ اوج انسانيته، اوج قوميته في زمن اندثار الحركة القومية وانقلابها على ذاتها لعلها تنسّب الى العولمة، فقد اتخذ محيي الدين صبحي قراره الشجاع: طوى رايته على قلمه، بعدما كتب به آخر كلماته »نرجو ممن أحبه ان يذكره في صلاته«.
لم تتسع لنعيه نشرات الأخبار التي لا تهتم إلا بالموت الجماعي لأقطار هذه الأمة، منفردة، او مجمّعة، ودائماً مهانة ومقزمة في اشخاص بعض حكامها في قمم التنازلات على ضفتي الخليج الجميل الممتد من شرم الشيخ الى العقبة الملكية.
***
لقد فسد العجين أيها العجان!
… وماذا يستطيع نقدك بالكلمات ان يفعل في مواجهة النقد النادر؟
فسد العجين لأنهم سمموا الخميرة، والجياع لا يملكون ترف الاختيار.
لا وقت للمراثي، خصوصاً والراحل لم يكن يملك إلا ما لا يورث.
لم يكتب المدائح ليذهب ورثته في طلب المكافأة.
لم ينافق حاكماً ليتخذ منه مستشاراً لا يمكن ان يدله إلا على أخطائه.
لا اوسمة. لا جنازة ملكية. لا ايام حداد تنكس فيها الاعلام.
ماذا أن يكسر كاتب قلمه بعدما تعب من تصحيح الكلمات والمفاهيم والاساليب، في محاولة لاستنقاذ الصح، او لاكتشاف المواهب وسط أكوام الصفحات المسودة بالخواطر الشخصية والمغامرات والتمنيات والرغبات المكسورة؟!
أيها الساذج البريء حتى الجرح: ماذا جنيت من تمسكك بالاصول في زمن الخروج على الاصول؟!
لقد انتدبت نفسك حارساً على باب اللغة المقدسة، في زمن يهرب من هذه اللغة اهلها، فينبذها الحاكم والمحكوم، فلا تنفع الاول في صفقات التفريط، ولا تنفع الثاني في تحصيل علوم العصر او حتى الرزق الحافظ للكرامة الشخصية.
وجعلت من نفسك مسؤولا عن اكتمال المعنى بالمبنى، وعن سلامة الفكرة في الكلمة، في زمن قتل الافكار بأكوام الكلام الهادفة الى تزوير المعنى بالمبنى.
لقد اعطيت القلم نور عينيك: تحاول ان تصحح، ان ترشد، ان تؤكد على الاصول، اصول الكتابة وأصول الشعر وأصول النقد…
وكأي ناقد رصين وجاد فقد افدت الكتابة والكتاب، الشعراء والحركة الشعرية، وكسبت عداوات كل من يصنف نفسه عبقرياً فريداً في عصره، لا يعرف غير ذاته ولا يعترف بغير ذاته.
وها انت ترحل بغير مشيّعين، ايها الدمشقي مسلكاً ولهجة وتقاليد حياة، اللبناني إقامة وإنتاجاً، المغربي في محاولة لتجسيد الدعوة الى الوحدة العربية فكرياً، الليبي في ترشيد التحريض على الثورة وحفظ عروبتها، الراحل إلى باريس من اجل استبقاء الدعوة الى الوحدة عربيا، العائد الى نقطة البداية ليكمل الدائرة في دمشق الياسمين.
ها قد اكتملت الدائرة، ايها الصديق الذي لم يأكل الا من عرق قلمه، والذي لم يكتب إلا رأيه، في زمن تأجير الأقلام واسترهان الآراء لدى مرابي التأليف والنشر والتوزيع.
بين مغامرة اغتراب وأخرى، كان يأتينا في »السفير« وهو يحمل بين يديه عاصفة جديدة يريد ان يطلقها في وجه الغلط السائد.
ومع ارتفاع أمواج الغلط كان عناده يتعاظم حتى قرر في نهاية الأمر ان يحاسب على الكتابة بالسياسة، وأن يؤسس لمنهج يعيد ربط الكلمة بالواقع الاجتماعي الاقتصادي الثقافي، فيحاكمها في ضوء إسهامها في حركة التغيير، فلم يؤمن يوماً، ولا سلم مرة بمذهب الفن للفن. ذلك ترف لا تملك ان تمارسه أمة مغلولة الإرادة، ممنوعة من ممارسة حقوقها الطبيعية في أرضها، مقهورة في واقعها السياسي، متخلفة عن عصرها بالأمر!
كان محيي الدين صبحي قد بلغ قمة نضجه… حين تعذر عليه أن يجد المنبر الملائم لنشر نظريته الجديدة المتكاملة سياسياً وفنياً، ثقافياً واجتماعياً.
فسد الملح، أيها العجان، فطبيعي أن يفسد العجين.
وها نحن نأكل من الخبز المر، كل يوم، ونشكر الله على نعمه!
لقد سبقت: سكنت في الغد وأخذت تحاسب بمنطقه العلمي هؤلاء الذين يفترضون أن الاغتراب عن الذات والأرض هو الغد.. فكان طبيعياً أن ترحل ممروراً، مقهوراً، مدحوراً في الأفكار التي حاولت إنضاجها وإغناءها، وأن تلحقك الهزيمة الى باب بيتك فتنصرف عائداً الي دمشق المهددة في وجودها وفي مصيرها، في هويتها العربية وفي دورها القومي.
وكان آخر ما كتبت:
»إن سوريا مضطرة لأن تحشد كل رصيدها السياسي والتاريخي لدفع الضرر المزمع والداهم، فهل يكون محقاً امرؤ تمنى الموت في حقبة ضاع فيها العراق وهددت سوريا.
أخشى ان أقول إن هذا هو زمن الموت اللذيذ…«
لقد تحققت امنيتك، أيها الجبان، وأضفت إلينا عبئاً ثقيلاً: أن نعوضك وهذا أمر صعب المنال في زمن.. النقد النادر!
تهويمات
÷ دخلت تمشي على ظلها ولم يكن له ظل ليهرب إليه.
ارخت شعرها مظلة عطر وهي تقول: لماذا تجلس بعيداً؟ مساحة واحدة تكفينا؟
لم يفهم تماماً، وعندما جلس الى جانبها انتبه الى ان المساحة تتسع لألف رجل آخر!
قالت التي لم تقرأ الشعر قط: النور هنا على الشرفة ضعيف، دعنا ندخل…
لم يتحرك الرجل الذي كان يشرب بعينيه الشعاع الواسن لبدر ربيعي يتهادى بجلال كاشحاً بمهابته الظلمة وبقايا الغيوم الشتوية وقصائد رديئة نظمها هواة متعجلون.
قالت المرأة: ضاق الوقت.
قال الرجل: فعلاً، الغرفة واسعة جداً، السماء ضيقة، الثرثرة فسيحة جداً، الصمت ضيق، كيف سنسمع صوت الليل… كيف يعرف الحب من لا يعرف الشعر؟ كيف يبصر من يرى المصباح أعظم نوراً من بدر ربيعي يعطر الليل بالموسيقى؟
÷ قالت تلك التي كانت جميلة للفتى الذي لا يتقن الكلام: لا تعاملني كأمك! تحب المرأة من يخاطب فيها صباها!
همهم الفتى كلمات غير مفهومة، فقال الحزن بلسان المرأة: لا أريدك ابناً، وترفضني صديقة… لم يتبق مني إلا »المدير«، قم الى عملك وإلا حسمت منك الوقت الذي أهدرته في انتظارك!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب لا يشيخ، يتكاثر أجيالاً ولكنه يستمر متدفقاً فيروي عطش الظامئين. لا يشعر بالشيخوخة إلا من ينثر حبه للجميع وينسى نفسه. حبيبي يستطيع ان يعيش ألف عام حتى وهو يروي من مائه قبيلة كاملة. كلما أعطيت من حبك زاد، أما من يحبس حبه في صدوره فيختنق به. أطلق حبك مشاعاً تكن لك الدنيا دار خلود!