أن تعيش بلا غد، أن تعيش بلا أمس… تلك هي المسألة!
قالت الصبية ذات العشرين ربيعا، بغير مقدمات:
أحاول ان أستبقي لنفسي يقيناً… كل ما حولي حطام او هو بناء متصدع سينهار قريبا. لا الدولة في بلادي دولة، فالحكام أقوى من المؤسسات، يزيلونها او يدمرونها ليبقوا وليمكنوا لتسلطهم ولامتداده في الزمن وفي المجتمع أعمق فأعمق. في حضورهم لا يبقى مجتمع، فإذا ما غابوا اكتشف المجتمع انه بلا رأس وأنه ايضا مدمَّر من داخله.
صمتت للحظة ثم أضافت بشيء من الحرقة:
أكاد أحسد أبي. انه يعيش في ذاكرته، وفي ذاكرته ما يؤنسه من أحداث ماضية. لقد شهد، حسب ما يقول، انتصارات عظيمة. شهد قيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر. ومن قبلها كان قد شهد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، وشهد بناء السد العالي، وحركة التصنيع الواسعة في مصر، واعادة الارض الى الفلاحين. شهد تفجر ثورة 14 تموز 1958 التي اسقطت الحكم الملكي وحلف بغداد الاستعماري في العراق. شهد انفجار الامامة في اليمن بثورة 26 ايلول 1962. شهد انتصار ثورة المليون شهيد في الجزائر وعودة هذه البلاد العظيمة الى اهلها وهويتها الاصلية بدينها وتاريخها.
قلت في ما يشبه الهمس:
وأنا ايضا اعيش في ذاكرتي ومعها… لكن الذاكرة ليست الحياة. الذاكرة ماض، بينما الحاضر يتخذ مسارا مناقضا لكل الذي كان.
قالت بحدة: وماذا عني؟!
أطرقتُ بخجل وكأنني مسؤول عن افتقادها ما يشيع الامل في حياتها… ولكأنما أشفقتْ عليّ فعادت تقول:
اعذرني، رجاء… لست أقصد ان جيلكم هو المسؤول عن خيبتنا، ولكنكم عشتم أياما تستذكرونها بفخر، باعتزاز، بفرح. كانت بلادنا العربية ذات دور في سياسة العالم، وكانت شريكة في العديد من القرارات المؤثرة في مسار الأحداث على الصعيد الدولي… أما في أيامنا فنحن نكاد نخجل بعروبتنا التي امتهنها الحكام والقادة الذين وصلوا الى سدة السلطة بالدبابة او بالوراثة الملكية او بإبادة المنافسين والخصوم، احزابا وقوى وقيادات سياسية ونقابية.
كنت أهز رأسي بالموافقة والألم يعتصرني، حتى إذا ما هدأت وتوقف سيل انتقاداتها المتدفق، حاولتُ ان أخفف عنها باستخدام الحيلة القديمة. قلت:
تلك مرحلة، كان علينا ربما ان نعبرها. لعلنا لم نكن مؤهلين وقادرين على حمل الانتصارات بأعبائها الثقيلة.
عادت، مرة اخرى، تحاول التخفيف عني، قالت بلهجة تنضح بالاعتذار:
لست الملوم. أظنك، كمواطن، وكصاحب قلم، في موقع الضحية. ولست هنا لأحاسبك. انما كنت اقارن بين جيلكم وجيلي لكي أقول إنكم عشتم أياما اكثر اشرافا، وبالتالي فعندكم ملجأ في ذاكرتكم. أما نحن ففي عراء الخيبة والحطام وافتقاد اليقين.
قلت بلهجة الواعظ:
ستكون لكم ايامكم! ربما هذا من حظكم، أنكم تبدأون من الصفر.
قالت وهي تنهض لتنصرف: وأين الصفر؟ انه ما نبحث عنه، بل ما نطمح الى الوصول اليه… فنحن تحت الصفر بقامات!
***
في اليوم التالي مباشرة تعرضتُ لغارة مضادة: جاءني رفيق سلاح قديم، كان احد الوجوه المشرقة للنضال القومي في الخمسينيات والستينيات.
اول ما لفتني فأثار إشفاقي انه يمشي وقد تحدّب ظهره، فانطوى على نفسه كمن يطويه ألم في معدته… وسألته عن صحته، فرفع رأسه وهو يقول: أتريدني ان استعيد قول الشاعر: »أتسألين عن سقمي صحتي هي العجب«!
طلبت له قهوة، ولكنه كان قلقا في مجلسه، يتعجل القيام للانصراف، قلت:
اهدأ، معنا وقت.
قال في ما يشبه صرخة الاستنكار: ومن أين الوقت؟ لقد انتهى زماننا يا صاح. المشكلة انه انتهى وبقينا… وها نحن نعيش خارج الزمن. كيفما التفتُّ وحيثما التفتُّ أرَ شواهد على فجيعة جيلنا. أين البدايات من النهايات؟! والله، إننا افضل مما يرى ابناؤنا في صورتنا الراهنة.
قلت أعزي نفسي معه: لقد حاولنا!
عاد يتفجر وجعا: هل يُعقل ان ينتهي جيلنا الى كل هذه الهزائم المفجعة؟ لقد قاتلنا حين توجب القتال. رفعنا مطالب الناس المحقة، تظاهرنا وصادمنا الشرطة وصادمتنا واعتقلنا وسُجنا مرارا. كتبنا مبشرين بالتغيير، وعملنا له ما وسعتنا الطاقة… من هنا فجيعتنا، إذ لا تستوي هذه النهاية مع البدايات الواعدة.
أين الغلط؟!
لم أكن اعرف من أين أبدأ… فتركت له ان يستنتج، ولم يتأخر، إذ عاد يقول:
يتهموننا بأننا قد حولنا القادة الى آلهة، واننا ضخمناهم ثم عبدناهم… هذا غير صحيح. فأما القائد الذي منحناه عاطفتنا وتأييدنا فقد عاش فقيرا ومات فقيرا. كان نظامه سيئا ومتخلفا بل معاديا لأفكاره وطموحاته، حتى انه قتله… ولقد كنا نخرج اليه بالملايين ونلقاه بلا حرس، وأين سيكون للقلة من الحراس مكان في طوفان البشر الآتين لتوكيد ايمانهم بالشعار الصحيح وبالهدف الأمنية.
قلت مستدركاً: لعلنا لم نكن على وعي كاف بحقيقة أوضاعنا. حتى القائد العظيم أظنه قد تعلم من تجاربه وأخطائه، فغاب عنا وهو في قمة النضج، أي عندما اشتدت حاجتنا إليه وكان قد بات مؤهلاً لأداء مهمته التاريخية، بعدما تزايد وعيه بالعدو وبحقائق العصر وبالتحولات الهائلة التي كانت تبدل في المواقع وفي موازين القوى بين المعسكرين الدوليين الجبارين.
قال بحزن: المشكلة اننا الآن أكثر وعياً، ولكننا اضعف بما لا يقاس من ان نؤثر في القرار، بينما القادة فينا أضافوا إلى نقص الوعي التهالك على السلطة، فانبطحوا يطلبونها من العدو… ونحن اعجز من ان نقاوم العدو فيهم، واعجز من ان نقاوم العدو وهم معه في الخندق الواحد… ثم اننا اعجز من ان نتخلص منهم. نتحمل وزر خياناتهم وانحرافاتهم، إذ نرى أنفسنا مسؤولين عن استقوائهم علينا، ونعجز عن محاسبتهم كما عن قتالهم، ونظل برغم كل محاولات التبرؤ مدانين بأننا مسؤولون عن وجودهم في سدة السلطة، وعن استمرارهم فيها، بينما لا يد لنا لا في تحكمهم بمصائرنا ولا في إزاحتهم ولو بالدم عن مواقعهم.
* * *
بين الصبية التي لا ترى لها مستقبلاً لأنها بلا ذاكرة، وبين الكهل الذي استغنى عن الأمل بمستقبل أو عوّض نفسه عنه باسترجاع الزمن الجميل والعيش في ذاكرته، مسافة هائلة تفصل بين الجيلين.
وهي مسافة يحتلها، حتى إشعار آخر، العدو… سواء بوجهه الإسرائيلي القديم أم بوجهه الأميركي الجديد.
وفي الحالين فإن النظام العربي برموزه المتحكمة يعطي العدو بعض ملامح وجهه، ليلتبس الأمر على الرعية، أو يأخذ من هذا العدو القديم الجديد مدداً ليستقوي على رعيته.
وبين الذاكراتين فراغ ولا اتصال.
النيل في الرباط
النيل في الرباط، ومجراه وريدي.. يسري هادئاً، هادئاً، وأتقدم فوق صفحته مبهوراً بمتعة الدوران في اللجة المسكرة، حتى تشدني فترفعني أجنحته التي من نار فتعبر بي الحدود والسدود، وأتخطى معها حواجز اللغات واللهجات وتقليد التحريم.
النيل في الرباط، واليد الرقيقة تدفعني نحو شلالاته الهادرة، تسلمني موجة من الشبق المُعْوِل إلى تنهيدة جارحة الرقة، ونواصل الاندفاع معاً لنستبق الطوفان فيسبقنا ولا يغرقنا بل يهدهدنا ثم يمتد فراشاً للهاثنا المبشر بالحريق.
النيل في الرباط، ومجراه وريدي، واللحن المثقل بالوجد يخدر صفحته فإذا هي مرآة للقمر الذي نتغزل بجماله كما تنعكس صورته في بحر الظلمات… وأنت معلق فوق ذروة النشوتين، مضمخ بالطيب الذي يستقطره السحرة من أنفاس الجنيات.
آه، من العطرين. الشميم وحده يسحبك من توهم الغياب في لجة الحلم، ويفتح عينيك فتتوارى بكثير من الجلال تلك الأطياف التي لا تُرى ولا تُلمس، والتي كانت تحتشد كما الأولاد الفقراء في عرس ريفي، يغنون ويرقصون وقد يهزون السيوف ابتهاجاً واستقداماً لزغاريد أمهاتهم فرحاً ببلوغهم سن الرجولة.
هو الحلم لولا أن وعيك يسجل تفاصيله الدقيقة المغزولة بالهمس الحميم.
ها أنت داخل الحلم لا خارجه. لا يمكن أن يكون للحلم جسد من لجين يمسك بك وتمسك به، تلاغيه ويلاغيك، تداعبه ويداعبك، يرتفع بك وتهبط إليه، ثم تطيران معاً وتخفق الأجنحة عبر غمغمة ما بعد الكلام.
لو أنه خارج المشهد لربما كان استطاع أن يصفه بأفضل مما يصفه الآن.
كان السرير من الشِّعر. وكان الصوت كأنما ينبثق من ينبوع الشبق ويتدفق صافياً، رقراقاً يأخذك إلى الخدر، ثم يعيدك ضغط الذراعين الرقيقين وقد استعارا قوة النشوة إلى وعيك بأنك تغرق وتغرق وتغرق في بحر تتمنى أن يكون بلا ضفاف.
يسري النيل في الرباط وهو يغني »يا حبيبي أنا روحي معاك« وتردد ضفاف المدينة الملكية الأنيقة التي لا يدخلها الفقراء »على بلد المحبوب وديني«.
.. وتدور الحكاية بلا خاتمة، فالبداية تبحث، بعدُ، عن بدايتها!
إضراب!!
خلافاً لقواعد ألزمت نفسي بها، أردت أن أنشر مع »هوامشي« هذه القصيدة بالعامية لشاعر ليبي يحترق في أتون خيباته لأنه أصر على أن يحفظ شرف الكلمة… إنه خروج »مبرر« على القاعدة!
÷ مشتاق نِسمع شعر مش مَخْصي
ولا خاص.. ولا شخصي
محتاج نقرا شعر ينبض حي..
ما يهاب حتى شيْ
ولا انصاعْ عن سلطان ولا عن بَيْ
ويشيلني من كَبُوتي.. ورخصي..
محتاج..
نِقرا.. قصايد بَحرها لو هاج
لا يهاب »هولاكو« ولا.. »الحجّاج«..
غضبةْ قوافيها.. هدير امواج..
لا تنبطح.. لا يعتليها حد..
ولا تغوص في الأرياش والديباج..
أبغى قصيدة حين نقراها
نشعر بصدري بالمحبة ضاج
باغي قصيدة.. مش كلام أفلام
مستّف وجاهز دوم للإخراج..
ودّي الشعر يكون…
خارج على القانون
ما يراقبه واحد أساساً صَمّ
صوّان.. والصوان ماله عيون
ولا هو مطيّة تنشرى بالكَمْ
ولا جارية تغنّي على »هارون«
ولا قيء من دجال أو مأبون..
الشعر عندي الدم..
في وان ما يصمد لنصرة حق
نفزع .. نقول نعَمْ
ولا يهمني في الحق.. لا سلطان
لا شقيق.. لا صاحب.. ولا بِنْ عَمْ..
لا »بوش« لا »شارون«
لا مَلك بدّل التاج.. حط قرون
الشعر عندي السم..
يجري ينظف عمر هذا الكون..
واللي يكون يكون!!
أحمد قاسم الحريري
من أقوال نسمه
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يهبط الحب بالمظلة على من حبس نفسه في غرفة بلا نوافذ، ومن ذهب إلى محام كبير ليحدد له عقداً محكماً يشرطه على من يطلب حبه.
الحب ان تفتح نوافذك وعقلك وقلبك. الحب هو الآخرون أيضاً. الحب ان تقبل الناس وتنتمي إليهم. حبيبك بين الناس. حبيبي هو كل الناس. هو أرضي وأنا أرضه. لكم أحب الأرض!