نواف سلام ومناف منصور: »أهل النخبة« وأنظمة الطوائف
يكاد تاريخ لبنان السياسي يكون مجموعة من صفقات التسوية بين الخارج والخارج، منذ الإمارة إلى المتصرفية إلى الجمهورية إلى دولة الاستقلال.
أما الحكم فيه فسلسلة متتابعة من الصفقات بين »القيادات« الممثلة للطوائف، التي لبعضها أو لمجملها علاقات بالخارج… وهي صفقات كثيراً ما كان يتم نقضها بعد بضعة شهور من عقدها.
فالشراكة بين »بطلي الاستقلال« بشارة الخوري ورياض الصلح فضها طرفها »الأقوى في السلطة«، رئيس الجمهورية، بعد سنة واحدة وأخرج بنتيجتها »الأقوى في الشارع«، رياض الصلح من رئاسة الحكومة… وتركه معارضاً حتى اضطرته إليه حاجته إلى مساندته في معركة التجديد، فكانت انتخابات 25 أيار الشهيرة (1947)… بعد أقل من أربع سنوات على قيام »دولة الاستقلال«.
أما الشراكة بين كميل شمعون وشريكه الأقوى في الشارع كمال جنبلاط فقد فضها رئيس جمهورية »الثورة البيضاء« بعد أسابيع قليلة، انقض بعدها على الرمز الأول للجبهة الوطنية الاشتراكية فشن عليه حرباً تواصلت طيلة عهده… بل هي امتدت لتشمل معظم الشركاء في تلك الجبهة، ومن قبلها في الكتلة الدستورية.
وبحسب منطوق النظام، و»ميثاقه الوطني« الذي يعتبر من التراث الصلحي (مع الاعتراف بفضل ذاكرة الاستقلال نصري المعلوف في المساهمة في صياغته) فإن رئاسة الجمهورية كانت مركز الاهتمام الخارجي، وكانت البوصلة الدالة على مركز النفوذ الأول في لبنان: فرنسا في البداية، بريطانيا مع فرنسا، ثم الشراكة المستجدة بين لندن وواشنطن، ودائماً مع مراعاة سوريا والحفاظ على »حصتها« في »الجمهورية الوليدة« التي كانت تنظر إليها دمشق بريبة… أما حين علا المد القومي، وقامت دولة الوحدة بقيادة جمال عبد الناصر، فقد استقرت المعادلة على حق الاختيار لبطل القومية العربية رئيس الجمهورية العربية المتحدة، على أن يراعي في اختياره الحصة الغربية التي صارت وقفاً على واشنطن.
وبغير توغل في السرد التاريخي يمكن اعتبار »اتفاق الطائف« إعادة صياغة للتسويات القديمة مع الأخذ بالاعتبار التحولات التي طرأت على موازين القوى من حول لبنان، وبالذات موقع سوريا في هذه الموازين..
وحين تمّ إقرار اتفاق الطائف، تحت الرعاية الثلاثية للسعودية والمغرب والجزائر، (وواشنطن من خلفها جميعاً) كان مركز سوريا ضعيفاً، بحيث استُبقي لها بالكاد »حق الفيتو«… أما بعد غزو صدام حسين الكويت فقد تبدل الوضع تماماً، وأخليت »الساحة اللبنانية« تماماً للنفوذ السوري، فتمكنت الطائرة الحربية السورية من قصف القصر الجمهوري في بعبدا لإخراج »العماد المتمرد« منه، ثم تُرك لدمشق أن تعيد صياغة الاتفاق ونظامه بما يتناسب مع مصالحها وما يوفر لها أمنها الاستراتيجي.
* * *
نواف سلام ومثله كل »أهل النخبة« لم يستطيعوا، حتى هذه الساعة، أن يتقبلوا هذا التعديل الجذري في »الصيغة« المنسوبة لاتفاق الطائف. إنهم يرون في التطبيقات، بدءاً من التعديل الدستوري مروراً بقوانين الانتخابات النيابية، وأعداد النواب، وولاية رئيس المجلس… إلخ، خروجاً صريحاً على النصوص الأصلية لذلك الاتفاق الذي بات مثله مثل »الميثاق الوطني« مرجعية أخلاقية ولكن مجريات العمل السياسي، بدءاً من اختيار الرؤساء إلى اختيار النواطير تتم بمعزل عن المعايير الأخلاقية وتحكمها التوازنات بين الأقوياء.
بهذا المعنى فاستنتاجات نواف سلام صحيحة بمجملها:
»فالطائف نجح في احتواء العنف الطائفي، لكنه عزز الطائفية. ومع أنه صمم ليعيد توازن صيغة المشاركة في لبنان، فإن تنفيذه أبقى لبنان بلا توازن… وفوق ذلك لا يزال مستقبل لبنان بعد الطائف، كما قبله، رهناً بالعوامل الخارجية«.
وهو يكاد يرد على استنتاجاته بنفسه في محاضرته التي كتبها بالإنكليزية وأصدرها مؤخراً في كتاب بعنوان »اتفاق الطائف: استعادة نقدية«، إذ يقول:
»… فمع أن الإصلاحات الداخلية هي حجر الزاوية لاتفاق الطائف فإن الاتفاق ما كان ليرى النور لو لم يشمل بنوداً متعلقة بتنظيم العلاقة اللبنانية السورية وأخرى بالسبل المؤدية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان«.
ولقد اختار نواف سلام كمدخل إلى ما يريد قوله كلمة معبّرة لسارتوري، جاء فيها:
»عبر تسهيلك أمراً تجعله يتحقق. وكلما تنازلت كلما طُلب منك التنازل، وما هو مرفوض يصبح مقبولا… وإذا كافأت الانقسامات والتقسيمات المجتمعية فإنك تزيد من حدتها. وفي النهاية فإن آلية ليبهارت (ديموقراطية المشاركة) قد تؤدي إلى تفكيك للتوافق أكثر مما تساهم في بنائه…«.
ترى هل كان سارتوري يعني لبنان بنظامه وسياسييه أكثر مما كان يعني أي بلد آخر؟
* * *
ممثل آخر »لأهل النخبة«، ولو بالتجنيس (سياسيا) لمس هذه »الاشكالية« في النظام السياسي في لبنان عبر حديث اوسع نطاقاً، في مداه الجغرافي كما مداه الفكري، جعله في كتاب أعطاه عنواناً معاصراً هو »شرق الخصوصيات، شرق العولمة«.
يحاول مناف منصور الذي كان قريباً، في فترات معينة، من مركز القرار في لبنان (رئاسة الجمهورية) ان يقرأ في الاحداث التي شهدتها المنطقة العربية ليستنتج انها مقبلة على مزيد من التحولات التي سوف تمتد من السياسة الى منظومة القيم الاجتماعية، ومن الدين الى الثقافة، ومن العلاقة بين السلطة والمواطنين الذين كانوا او فرض عليهم في الغالب الاعم ان يكونوا »رعايا«.
حول لبنان يستنتج مناف منصور: ان العودة بلبنان الى ما كنا عليه في العام 1975 باتت تعتبر انجازا… وان »تجميل الطائفية لا يبني المواطنية، وان شرعنة المحسوبية لا تبني شرعية الدولة«.
ويخلص الى اتهام السلطة بأنها »ضد حالها وضد المجتمع«… وبأن »وحدة الشعب ثابتة وليست السلطة هي التي اعادت الوحدة… لأن السلطة عاجزة عن اداء مثل هذه المهمة«.
اما في الحالة العربية فيخلص منصور الى مجموعة من الاستنتاجات قد تكون في مجملها سليمة، ولكن القطع في امور التحول قد يكون مبكراً جداً، ثم ان المرارة التي تغلف الاستنتاجات كثيفة لدرجة انها تدمغها بطابع شخصي الى حد ما… يقول منصور:
ان بين اسباب تعثر الكيانات العربية غياب المشاركة الواسعة في بناء الدولة، وفي غياب الديموقراطية كان الحكم في الغالب ارتجاليا، انقلابيا…
وان الصراع الخفي كان بين مفهوم الدولة والعصبية السياسية الطائفية والعرقية، وان الولاء كان دائما للنظام لا للدولة.
»… وفي هذا الاطار فإن السلطة والمعارضة جاءتا وجهين لعقلية واحدة، وغالبا ما قامت بينهما جدلية المناوبة… وبالتالي فلم تقم دول في هذه الكيانات العربية.
ثم ان السلطة تتأثر بمصالح الخارج اكثر مما تنبع من الداخل.
والسلطة لا ترى في اهل الكيان شعبا او مواطنين بل صفوفاً من التابعين.
…واهل الكيان لا يثقون بالسلطة الحاكمة… والسلطة دمى متحركة والشعوب دمى ساكنة«.
اما الاحكام القاطعة التي يفترض ان السياسات العربية قد أدت اليها فهي:
{ مع كامب ديفيد انسحبت حرب الجيوش العربية الاسرائيلية من الشرق الاوسط.
{ ومع سقوط بغداد وحروب رسم خارطة دولة الاراضي الفلسطينية جرى دفع الصلح الاسرائيلي الفلسطيني الى الواجهة.
ولو ان مناف منصور مؤرخ لتحفّظ قليلاً او كثيراً، ولكنه يكتب بمرارة الخيبة والتهاوي العربي من عباءة الدين السياسية (سقوط الخلافة العثمانية) الى حمل شعار دولة الوحدة العربية (التي فشلت) الى حمل هوية التعددية واستقلالية القرار، الى حمل هوية التكتلات الجغرافية التي لم يصمد اي منها لعاديات الأيام.
القلم… والأجساد المكتوبة بالحبر!
كتبت في كراسة الورد:
»يوزعك الشوق على القارات ثم تبقين وحيدة في زمن الثلج.
لا مجال لأن تتجمعي بين ذراعين اثنين لجسد واحد. لكأن الحب ينشرك او ينتشر بك بين العواصم، فإذا انتِ نثار من الكلمات تغتسل بها العيون بينما يشتد ظمأك الى ذلك الهمس المتفجر بالرغبة والذي يخرج جسدك من قبر الكتاب ليبعث فيه الروح ويطلقه غابة من شجر الغواية والتفاح المحرم.
يتململ الصدر في زنزانة القميص، فيفك زرٌّ نفسه، ثم آخر… لقد ضاق الصدر بالآهات التي لا تجد الأذن التي تستحق ان تذوب فيها فتتفجر الهنيهة زمنا لبهجة الروح.
ضجرت عيناي من الوجوه المطموسة الملامح بالانبهار.
صار جسدي يكره اسمي… واسمي ينفر من جسدي فيكاد يتبرأ منه.
كيف تستقيم المعادلة، مجددا، بين القلم الذي يكتب الاجساد بالحبر، وبين الرغبة التي لا يطفئ ظمأها الحبر، والتي تود نارها لو انها تحرق اقلام الدنيا جميعا.
من يترك الحياة ليحبس نفسه في كلمات باردة لا يمكن ان تضخ الدفء الا اذا احرقتها نار الشبق.
النار ولادة!
الى النار كل هذه الاوراق التي تتلاقح فوقها الرغبات فتستولد المزيد من الكلمات المغيبة معانيها لأنها مبنية للمجهول، حتى لو كنت تعرفين الفاعل والمفاعيل جميعا.
ماذا ان تكون سطرا اسود على صفحة ملساء تستدرج أناملك لان تفرغ ما في عقلك الباطن من شخوص ومشاهد؟!
زوّجتُ الاستحالة بالاستحالة، وطلقتُ الحلال من الحرام، زوّجت العاشق بالمهجور، وأطلقت سراح اليائس ليفتك بالأمل، ثم مددت فراش اللذة بمدى القارات جميعا في انتظار الشريك الذي اطلبه ولا يطلبني، وأرغب فيه ويصدني، وأتعلق بطيفه ويجلدني…
سأكسر هذا القلم الفضاح الذي يهتك اسراري ويجلببني بالخطيئة فيرتكبني الكل ثم يهربون مني الى الندم وأظل وحيدة يوزعني الشوق على القارات فأعجز عن ان اتجمع في زمن الثلج بين ذراعين اثنين لجسد واحد اطلبه قبل ان يطلبني، وأظل اطلبه فلا يستجيب لأنه وحده صاحب الخيار ومالك القرار«.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب يلغي الفردية، لذلك يصعب على المغرور ان يحب إلا إذا انتصر حبه العتيد على الطاووس الذي ينفخ صدره الممتلئ بنفسه زهواً.
أعرف بيوتاً يملأ ردهاتها ريش الطاووس، فأطمئن إلى ان الحب قد طهرها فصارت دافئة ومزركشة بأوسمة الانتصار على عاشق ذاته.
ذاتي حبيبي… فكيف لا أعشق ذاتي فيه؟!