جولة غير نقدية في العلاقة بين القارئ والكتاب
في العيد السنوي للكلمة والمعنى تستعيد بيروت بعض روحها وبعض رونقها المفقود. تتبدى معارض الكتب والانشطة الثقافية، وفي القلب منها الذي ينظمه النادي الثقافي العربي منذ نحو نصف قرن وكأنها »جائزة ترضية« لهذه المدينة الاميرة عن دورها التاريخي الذي ضيعته الهزائم العربية في الحروب الاهلية المتواصلة التي تسحب الجميع بعيداً عن ميدان المواجهة مع الذات عبر العدو الذي كان واحداً فصار كثيراً، وكان في الخارج فصار في داخل الداخل.
على امتداد الاسبوعين الماضيين كان زاد الناس عظيما من الافكار والكتب والمعارض والمسرحيات والندوات.
زهّر الكلام، وتلون الافق الخريفي بالابداعات المتعددة، وبالفرنسية في العرض السنوي الذي يأتي رديفا مكملا للنتاج الذي تضخه دور النشر من خبز المطابع.
وليس أجمل ما في المعرض الكتب بل الناس وهم يمنحون عيونهم للكتب، ثم وهم يحملونها وكأنها »أطفالهم«: بشيء من الاعتزاز والالفة والحنو.. وأحيانا بشيء من التحدي، اذا كان الكاتب في تصنيف القارئ »خصما« في أفكاره واستنتاجه التي تشكل نوعا من المحاكمة، بل ربما الادانة، للآخرين، تستفز المدارك لدحض الاتهامات او للرد عليها بما يناسبها من الحجج والبيّنات.
فالكتاب، بعدما يفرغ منه مؤلفه، ارض حوار مفتوح في زمن نحتاج فيه اكثر ما نحتاج إلى الحوار، بعدما سقط اليقين، او كاد، بالمسلمات التي رضعناها مع الحليب او التي تربينا عليها وأسهمت في تكوين وجداننا لحقبة طويلة تهاوت في اول مواجهة جدية مع نار العدو ومع الاسئلة الخطيرة التي تهاطلت علينا عبر مسلسل الهزائم التي واجهتنا ولم نواجهها.
أمتع ما في معارض الكتب ان تتأمل تلك العلاقة الحميمة بين الناس والكتب، رجالا ونساء وأطفالا وشبانا، على ان للصبايا حكاية اخرى مع نوع محدد من الكتب: دواوين الشعر، وبعض الروايات…
… وتكاد تحس بالغيرة من هؤلاء الشعراء باعة الاوهام حين تتأمل افواج الصبايا (وخلفهن طوابير من الشبان بطبيعة الحال) يتزاحمن امام اجنحة الدور التي تخصصت بنشر جديد اولئك الذين يتّبعهم الغاوون.
فأما الكتب فتحمل باليد، وأما الديوان فيُحضن قريبا من القلب وكأنه سيمنحه شيئا من الحماية بقدر ما سيمد صاحبته باللغة التي تفتقدها وهي تحاول ان تعبر عما يموج فيه من عاطفتها او يتفجر.
الأجمل، بالمطلق، هو صور الآباء والامهات ومعهم أولادهم والاطفال يتدفقون في شرايين المعرض، فيملأونه حيوية وفرحا، قبل ان يعودوا منه وقد تزودوا بكتب أنيقة الطباعة، جميلة الرسوم وفيها حكايات تعزز وعيهم وتخاطب فضولهم العلمي وتوثق علاقتهم بلغتهم الأم التي تكاد تتكسر النصال على النصال في صدرها لشدة ما وجه إليها من اتهامات بالعقم ومجاراة التقدم العلمي في عصره المذهل هذا.
لا تعتذر لمن ألغيته.. أو لمن ألغاك؟!
كيف يقبل من يملك السماء ويرفع نفسه فوق الإله ان يقتسم الأرض التي لم تكن له في أي يوم، مع غيره، أي مع صاحبها الأصلي؛ الذي لم يغادرها أبداً، لا قبل مجيء الانبياء ولا بعد هبوط الرسالات على الرسل المصطفين؟
الأرض هي الأرض، السماء هي السماء، الأنبياء هم الأنبياء، الاساطير هي الاساطير، لكن الحقيقة وحدها ليست واحدة بالنسبة للعائد من الحكاية وللذي اصطنع بجسده تراب الأرض فلم يغادره ولم تغادره حتى حين غُيّب عنها؟!
كيف يمكن قسمة الاسطورة الواحدة إلى واقعين بغير ان يلغي احدهما الآخر ليستنبت بالسلاح الأمر الواقع فوق قبر الحقيقة الإنسانية؟
الدبابة أقوى من الحقيقة، والطائرة الحربية تملك طاقة تدمير »الوقائع«.
وجدار الفصل العنصري قادر على تزوير جغرافيا الملكية الخاصة، لكن الذاكرة التي تتبدى وكأنها مؤهلة لتقهر الزمن فتفترض فيه تواصلاً غير منقطع أو متقطع، ترفض أول ما ترفض الذاكرة الأخرى التي يستعصي عليها النسيان.
في الذاكرة اليهودية يصيَّر الماضي مستقبلاً، بينما لا يقبل من الذاكرة الفلسطينية ان تكون موطناً لمن اغتيل وطنه.
لا يكفي اعتراف الملغى بمن ألغاه، وتسليمه بأن يقتسم معه المستقبل، ولو في هامش منه متنازلاً عن حقه في ماضيه وفي حاضره، بل ان يلغي الملغى نفسه. ان يشهد انه لم يكن يوماً هنا، وان عبوره كان مجرد اعتداء على التاريخ الذي لم يكن تاريخاً للاقوام التي لم تكن شعباً وللأرض التي لم تكن دولة، والتي اوجدها استمراره على أرضه وإصراره على التمسك فيها بل الانغراس فيها برغم الغزوات المتكررة والحروب التي لم تتوقف والمذابح التي كادت تلتهم كل الاحياء وكل أسباب الحياة.
من المطلوب منه ان يعتذر عما فعل؟
هل هذا الذي ثبت في أرض حتى جعلها وطناً، وأبقى حتى المقدس من الغير مقدساً وجعله مزاراً ومصدر بركة لأطفاله؟!
لا قبول ولا اعتراف، المرفوض يرفض القابل برضاه، والقابل بالإكراه، يصر على أن ينفي الآخر وجوده. يصر على ان ينتزع منه بعد السماء وأنبيائها الأرض بصخورها وأشجارها وأنهارها والفراشات.
محمود درويش الذي يهدي واحدة من قصائد الديوان للشاعر الراحل أمل دنقل، الذي غادرنا وهو يهتف محذراً، بل منذراً »لا تصالح«، يحاول ان يستغفل صديقه الذي انطوى على وجهه وغاب، وهو يجدد لمن يرفضه الدعوة لأن يصالحه على ظلمه فيرفض الظالم ويواصل التهام الجغرافيا والتاريخ بالمقدس فيها وغير المقدس.
إلى من يوجه محمود درويش خطابه: لا تعتذر عما فعلت؟
لعل الجواب في الديوان التالي الذي ربما يختتم مسيرة الأسئلة الصعبة التي يستحيل على الإسرائيلي ان يجيب عليها طالما أصر على انه مالك السموات والأرضين والمصائر في كل مكان وزمان.
محمود درويش »ولاّدة« السياسيين!
من بعيد، وقفت أتأمل محمود درويش يقبع في زاوية الجناح، مثل قط أليف، وهو يوقع ديوانه الجديد »لا تعتذر عما فعلت«.
كان هادئا تماما، وديعا ومجاملا بأكثر مما ألفنا منه، بشخصه او بشعره، معتزا بنتاجه الجديد الذي يكمل خطا صلدا باشر في حفره قبل سنوات طويلة، وما زال يواصل محاولة تعميقه برغم كل الصد الفظ الذي يلقاه من ذلك العدو الذي يرفض ان يكون إنسانا، والذي يرفض الفلسطيني ليس فقط كشريك، ولو بالاضطرار، ولكن كإنسان أساسا.
سألت رياض نجيب الريس بشيء من الفضول، وكأنما لأطمئن إلى صحة تقديري: كم سياسيا جاء إلى محمود درويش… وردت الزميلة السابقة زينة نصار، زوجة الزميل السابق اللاحق رياض نجيب الريس، بشيء من الاستهجان: من؟!
قلت لاؤكد سؤالي الجواب: كم من الرؤساء والوزراء والنواب وأهل السياسة جاء الى محمود طالباً توقيعه على ديوانه الرسالة؟!
قالت ضاحكة: اطمئن… لا احد!
وعقب رياض: كنت، بفضل حشريتي، مهتماً بمراقبة طابور المحتشدين امام الشاعر النحيل البنية، صاحب الرؤية، طلباً لتوقيعه… وتوقعت ان يحضر بعض اولئك الذين يدعون الاعجاب بالشعر او يظهرون امام الناس تقديرهم العالي لمحمود درويش، ويزعمون انهم يحفظون له الكثير من قصائده عن ظهر قلب. لكن احدا منهم لم يظهر.
وهمهمت: الحمد لله… انهم لا يخيبون الظن ابداً.
ثم لمت نفسي على السؤال، وأنا أبتعد من امام موجة جديدة من المعجبات والمعجبين بهذا »القائد السياسي« المموِّه نفسه بالشعر… ذلك ان السؤال بذاته غلط، وهو يتضمن اتهاماً خطيراً للحياة السياسة العربية عموماً، بكل قياداتها العليا والسفلى والاسفل من السفلى: اهو اكتشاف ان نقول ان حكامنا جهلة؟! او انهم لا يقرأون؟! او انهم وهذا هو لب الموضوع بلا خيال، وبلا إيمان بالناس، يجعلهم واثقين من ان شعبهم قادر على الإنجاز، ومن انهم اخيراً بلا ثقافة، وبلا علم، وان كانت الكثرة منهم من المكارين والمخاتلين والمخادعين والمؤهلين لكل تنازل وأي تنازل الا عن »العروش« التي باتت منحة من العدو، او »اغتصابا« لحق الشعب في حكم نفسه بنفسه، او مزيجاً من العيبين معاً!؟
أما الديوان الجديد، والخطير، لمحمود درويش الذي يتجاوز بذكائه السياسي عبقريته كشاعر، فله حديث آخر!
هل من المبالغة ان نقول ان شعر محمد درويش يولد سياسيين او انه يحمل الشباب على جناح الى السياسة، مع الحب، وأحياناً الى السياسة قبل الحب وبعده؟!
السياسي الوحيد في المعرض: ضد الطائفية
»السياسي« الوحيد الذي احتضن المعرض بحضوره فاحتضن له كتابه الأخير هو الرئيس سليم الحص.
ومع ان سليم الحص سبق له ان »طلّق« العمل السياسي ثلاثاً، أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، إلا انه ما زال يطل على »السياسي« من باب »العمل الوطني«، وما زال يُعمِل قلمه بما لا يقوم به من تحرك من أجل التحالف أو الاشتباك في المجال السياسي.
الكتاب الجديد لسليم الحص »ضد الطائفية« ليس كتاباً بالمعنى الفعلي، وليس جديداً، لأنه عملياً إعادة تجميع لمقاطع من مقالات كتبت في فترات مختلفة، ولكنها تنتظم ضمن سياق واحد ومحدد يلخصه عنوان الكتاب.
بين شعارات الحص المحببة ان في لبنان كثيراً من الحرية وقليلاً من الديمقراطية.
الكتاب الجديد لسليم الحص يؤكد بالمقابل ان في لبنان الكثير الكثير من الطائفية والقليل القليل من الدين.
ولعل هذه الحقيقة الثانية تؤكد الحقيقة الأولى، ففي غياب الديموقراطية من الطبيعي ان تسود الطائفية، وهكذا تصبح الحرية مساحة للفوضى ويصبح الدين أداة تفجير للواقع الاجتماعي بشعارات سياسية تبعد عن السياسة بقدر بعدها عن الدين، وعن مصلحة المجتمع بقدر ما تبعد عن مصلحة الوطن.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
في لحظة قد تكتشف ان حياتك كلها قد تختصر في من تحب، ان غاب فرغت من المعنى ولو احاط بك المعجبون او الاصحاب، وإن حضر اغناك وأعطاك حياة المعنى.
احفظ حبيبك حتى إذا اخطأ، واحفظه حتى إذا تناسى او قصر… لا تكون الحياة بغير الحب غير ايام مكرورة، تسحب نفسها ببلادة فوق مشاعرك حتى تلغيها. لك الحياة بقدر ما تحب فأقبل عليها في حبيبك.