رحلة في »مشحوف« الحزن العراقي المعتق
ربما بتأثير »الفجيعة« التي يبدو أنها ستضربنا ، مرة أخرى، ألحت على ذاكرتي هذه »اليوميات« المبتسرة من قلب المشهد العراقي المكتوب بماء الحزن:
زرت بغداد، لأول مرة، مدعواً الى الاحتفال بالذكرى السادسة لثورة الرابع عشر من تموز (1958). لم أرَ المدينة التي كانت محدودة المساحة، متواضعة الفخامة، بعيني، بل شغلتني في حركتي المقارنات المفتوحة بين المطبوع في ذاكرتي من قراءاتي عن »بغداد الأولى« عاصمة المنصور، بانيها، ثم الرشيد والأمين والمأمون، وقد جعلوها حاضرة الكون، دار العلوم ودار الحكمة، قيثارة الغناء وديوان الشعر ودار المتعة التي أوصلها »أبو نواس« لأن تكون المثال المشتهى في كل عصر وفي كل زمان.
كانت »الثورة« الثانية، في 8 شباط 1963، قد التهمت »الثورة الأولى« فلم يتبق منها إلا بعض »آثار« قائدها عبد الكريم قاسم، الذي سانده الشيوعيون وسائر ممثلي »الأقليات القومية«، في مواجهة المد القومي بقيادة جمال عبد الناصر الذي ظل يرفع شعار الوحدة العربية برغم انتكاسة تجربتها الأولى ممثلة بدولتها النواة التي قامت اثر »اندماج« سوريا في مصر، في مثل هذه الأيام من العام 1958، فأحدثت زلزالاً في العلاقات الدولية، كان بين أولى نتائجه الإنزال الأميركي على شواطئ بيروت، واستنفار القوات البريطانية في الكويت، وتكاثف غيوم الحرب على الحدود مع تركيا، فضلاً عن »المؤامرات« التي تولت نسجها أنظمة الجوار من تركيا وإيران الشاه، الى الأردن فإلى السعودية التي كان على رأسها، آنذاك، الملك الراحل سعود بن عبد العزيز (الوارث الأول لعرش مملكة القرآن والسيف).
ولأن معظم المبدعين والفنانين، رسامين ونحاتين وكتاباً وشعراء، هم من أهل اليسار، فقد كانوا قد »زينوا« شوارع بغداد الثورة وساحاتها وميادينها بعدد من التماثيل والأنصاب والجداريات، في حين أغنوا مكتباتها وبيوت العراقيين خصوصاً والعرب عموماً بالدواوين والروايات وكتب التراث بعد تحقيقها وتنقيحها الخ…
قصدت الكرخ، ووقفت على »جسر المسيب«، ومشيت في طرقات الرصافة، وطفت في مقام الإمام الكاظم، و»معادله« الإمام الأعظم، وأكلت »المسقوف« في واحد من تلك المطاعم الشعبية التي تتراصف في هذا »الصوب« من شاطئ دجلة بينما لا أثر لها في ذلك »الصوب«.
زرت مكتبة المثنى التي كانت أكثر من دار نشر ووكيل توزيع لمختلف الصحف والمطبوعات والكتب العربية والأجنبية: كانت نقطة ارتكاز لهذه المدينة التي لا تعلو منازلها أكثر من دورين، والتي ينام أهلها على السطوح، معظم شهور السنة، فيسمرون ويتباسطون وهم يتحلقون من حول »السماور« يحتسون الشاي ويسمعون تسجيلات لناظم الغزالي وأميرة اسكندر وحضيري أبو عزيز، وأحياناً لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفيروز، ويتبارون في الشعر ويحلمون بالنهضة والحرية والرفاه.
{ عدت الى بغداد، للمرة الثانية، في أواخر العام 1968… وكان عمر »الثورة الثالثة« التي حققها انقلاب العسكر تحت قيادة حزب البعث رأساً على عقب في 17 تموز من تلك السنة، فصار »تمديد« العيد بين 14 و17 من ذلك الشهر الذي لا تنفع في كسر حرارته كل مياه دجلة وكل النخيل وسائر أنواع الشجر شبه الصحراوي.
في هذه الرحلة الثانية فُتحت لي أبواب العراق جميعا بالأمر: قابلت بالرغبة قياديين في الحزب الذي أعلن نفسه حاكما الآن، كما قابلت بالدافع المهني معتقلين سياسيين من »رجالات العهد المباد« ومسجونين بالجملة، بينهم جنود بسطاء، وعمال مياومون، وأبناء سبيل اميون، إضافة الى عدد من الكتاب والشعراء وبعض أهل الجامعات ورجالات الاقتصاد.
التقيت قياديين، في الحزب الشيوعي المحظور، وقادة في »خط الحسين« الذي كان قد اعتمد الكفاح المسلح في »الاهوار«، في أقصى الجنوب المغبون والمحروم، مخالفا قرار الحزب »الرسمي«، مندفعا نحو تجربة خطيرة مثله الأعلى فيها تشي غيفارا.
التقيت اكراداً يفاوضون السلطة على وقف المذابح التي لم تكن تهمد حتى تنفجر من جديد تحت ضغط المطالبة »بحكم ذاتي« في كردستان العراق«، وتذبذب السلطات (في العهود المختلفة) بين القبول بالتفاوض بعد وقف العنف، فإذا ما اوقف تم نسيان المفاوضات، وبين رفض التفاوض إلا بعد تحقيق نصر عسكري كان يبدو في البدايات سهلاً، ثم يتجلى مستحيلاً بعد معارك قاسية وضحايا بالمئات، بل بالآلاف، وتهديم القرى الفقيرة، وتحطيم »روابط الاخاء« بين ابناء الشعب الواحد والتاريخ الواحد والمصير الواحد.
التقيت قياديين في حركة القوميين العرب معتقلين بتهم معاداة النظام وبنيّة التآمر عليه، و»ناصريين« مسجونين لأنهم يشتمون النظام.
كانت نخبة العراق في السجون او في الطريق الى المنافي، او الى.. الاغتيال!
{ أما في الرحلة الثالثة فقد قصدت »العتبات المقدسة« في النجف وكربلاء، وزرت الكوفة، متبعاً خط سير الفرات الى حيث يلتقي مع دجلة عند »القرنة«، وتظللت »شجرة آدم« الاسطورية التي يقال ان منها قطفت ستنا حواء تفاحة المعرفة وأغوت آدم بالتهامها ليغدو وتغدو معه بشراً سوياً، وليهبطا من جنة النعيم الى جحيم الأرض حيث أنجبا إبنيهما قايين وهابيل الى آخر ما تعرفون عن العقاب الالهي الذي وقع على جدينا العزيزين اللذين انجرفا وراء غواية ابليس اللعين، الذي كان من قبل قد »أبى واستكبر« ان يركع لمخلوق من طين بينما هو مبتدع من النار.
كان الفقر جارحاً، مستفزاً، وكان البؤساء في أخصب أرض الله يموتون بحسرتهم فوق أرض الذهب الأسود.
{ للأهوار وأهلها و»المشحوف« حديث آخر: فهذا »الغندول« الصغير الذي كان يسري بين الاحياء و»البيوت« المقامة على أرض »انتزعت« من النهر وتم تثبيت ترابها بغرس النخيل فيها، ثم في ظل النخيل وأرضه يتم تشييد غرفة أولى ثم ثانية، باستخدام سعف النخيل، وتصير الغرف بيوتا والبيوت احياء في قلب »النهر« الذي يتكون من فائض مياه شط العرب. الذي يتحول بعد اجتماع دجلة والفرات فيه بحيرة عظيمة تندفع سيولها الفائرة نحو الخليج جارفة معها »الطمي« فتمنح شاطئه العراقي لون أرضه السمراء…
الفقراء يبتدعون مباهجهم وينتزعونها بقوة ارادة الحياة من قلب الظلم والبغي والاضطهاد.
هذا »الغندول« اللطيف الذي يسري كالطيف بين البيوت التي أساسها ماء، والدكاكين ذات البضاعة الفقيرة، كان وسيلة الانتقال الوحيدة. حتى زيارة جار لجاره تتم بواسطته… أما المهرجان المبهج فيكون حين يتم زفاف شاب وصبية، فيزين كل مشحوفه، ويتحرك الموكب ذهاباً بأهل »العريس« وإيابا بالعروسين، والزغاريد تملأ الفضاء الملون بالفرح، والمياه تجري بقصة الحب التي استولدتها مرة أخرى تلك الثمرة المحرمة التي أغوى بها ابليس حواء فأغوت بها آدم… وما زالت الغواية تستولد »أبناءها« وترعاهم وهم يكبرون ويستعيدونها ويعيدون انتاجها مضيفين الى أبطال الخطيئة الأصلية المزيد من الخطاة الذين يدعون الله ان يأخذهم بعشقهم شهداء!
لكن الفقر والظلم والقهر والبؤس، كل ذلك يأخذهم الى استشهاد بلا اعتراف او مشيعين.
***
للعراق وجه الحزن المصفى. للعراقيين وجوه المظلومين. للعراقيات وجوه النكبة. لا مثيل لأحزان العراقيين المعتقة ولا شبيه، حتى لتقدر أن الحزن قد استولد هؤلاء الرجال الغليظة ملامحهم، بشواربهم الكثيفة، وشوقهم الفذ إلى الحياة وأطايبها، شرابا وطعاما ومتعة تسقط الجدار الفاصل بين المشروع والممنوع.
إن العراق يعيش كأهواره في قلب نهر الحزن الذي يمتد ليغطي كل تفاصيل الحياة، حتى الغناء. في لحظات تحس بأن الغناء هو صدى أنين المظلومين.
وبرغم افتراض الغنى في أهل »أرض السواد« فإن الغالبية الساحقة منهم فقراء… وهم اليوم دون خط الفقر، في معظم أرجاء أرضهم الفسيحة التي تشكو الإهمال، وتلتهمها »السبخة«، ففي مناطق عديدة ترى »الملح« قد التهم أرض الخصب فرماها ببياضه عنوان الجدب.
ويروي العائدون من عراق الألفية الثالثة و»الحرب الثالثة«، أن مشاهد الفقر كانت تطاردهم في كل مكان قصدوه: في الشمال كما في الجنوب كما في الوسط، وفي بغداد ذاتها التي تقوم من حولها أحزمة البؤس التي يتكدس فيها ألوف ألوف البشر البسطاء ومحدودي الدخل أو شبه المعدمين.
والفقر، هنا، ابن شرعي للظلم.
يروون ما يتجاوز الحكايات التي نشرتها الصحف عن إقدام العراقيين على بيع مقتنياتهم الخاصة التي كانوا يعتزون بامتلاكها، بما في ذلك الكتب العزيزة على قلوبهم.
فعراقيو هذه الأيام المهددون بحرب التدمير الشامل الأميركية يعيشون حالة من الضنك والعوز، ويفتقدون إلى الدواء والغذاء، وحتى النفط، لا سيما المحروقات، مع الإشارة الى أن برد العراق صحراوي ينخر العظام نخراً.
إنها المأساة الكاملة: حصار شامل، نقص فادح في الدخل بعد انهيار العملة، مرض وعوز وافتقار الى مقومات العيش، من الغذاء الى الدواء الى مازوت التدفئة… والى العدل الاجتماعي، والى الأمان، ثم الأمان، ثم الأمان.
ملايين المهاجرين والمنفيين في دنيا الشتات، وملايين الملايين في »المقهر«، يعانون الضيق في مساحة الحرية وفي حق التعبير عن أنفسهم كما وفي الرزق، وفوق ذلك كله خطر الموت تحت ركام منازلهم أو الملاجئ، حيث توجد، بفعل الهجوم الأميركي الكاسح الذي تحشد له الجيوش وحاملات الطائرات والصواريخ.
وللظلم في العراق أحاديث كثيرة يرجئها الخوف عليه.
حكايات مبتورة
ترقرقت النشوة في أفق القاعة الخالية إلا من رائحة الحريق، ثم تقطرت عليهما ندى معطّرا.
قالت: أخاف على حبي مني، وأخاف عليك من حبي. أمحكوم علينا أن نعيش حبنا في قلب الخوف؟!
ورد برصانة الحكماء: لا نجاة إلا في الجنون! إلى جهنم أيتها العقول المعطِّلة لإنسانيتنا!
* * *
ذهب الى العجوز يعزيه في زوجته، ففاجأه بقوله: سأتزوج مجددا، لا أطيق ان أعيش بلا امرأة…
ولكنك عاقل بما يكفي…
قاطعه العجوز المثقل بحزنه: بما يكفي لأن أعرف ان الحياة امرأة، وان بين النساء من ترضى بربع رجل لأن الحياة لها رجل!
* * *
قال: مررتُ بشرفة العشق فإذا هي معروضة للإيجار، وأشفقت على من ستكون له بعدنا…
قالت: أما أنا فأشفقت على مسحوق الهمس، وعلى الصدى المكتوم للكلمات التي ظلت حبيسة الشفاه التي انشغلت بما هو أكثر صدقا من الكلام.
تهويمات
الصحراء بعيدة، خلف هدبين أو ثلاثة.
ما أصعب العيش في قلب غابة من الأهداب.
* * *
حين آوته خيمة الورد، أسكره العطر فنسي الكلام.
قالت: سأعلمك اللغة التي تختصر الحياة بحرفين!
نطقت الحاء معطشة، ولما أعادها بعدها كافأته بحفل تخرج جعله يتجاوز بنشوته »أستاذته« البارعة!
* * *
قالت تصف ليل البرد: لقد عزّ عليّ النوم. عزّ عليّ الحلم. عزّ عليّ أن استحضر الدفء لأنك بقيت في البعيد!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
سمعت عاشقاً يناجي حبيبه، فأخذني الشعور بالذنب، لكن استمتاعي كان أقوى من ندم الخاطئ. لقد أضفت الى قاموسي كلمات جديدة سيسعد بها حبيبي.. ولسوف أفرح إذا ما اكتشفنا، من بعد، أن هناك من تعلم منا أو استعار لغتنا. لولا العشاق لذبلت اللغة وتهاوت في ذل يباس الشيخوخة.