يوميات كويتية… في ما يتعدى مباذل السياسة!
يستقبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت كل عام جديد بمهرجان القرين؛ والمهرجان تظاهرة فكرية فنية يحشد لها المجلس، كل مرة، كوكبة من المفكرين والكتاب والبحاثة في ندوات تتناول أبرز المسائل المطروحة او التي تفرض نفسها من هموم الواقع العربي، وما أكثرها، الى جانب العديد من معارض الفنون التشكيلية والحفلات الموسيقية تحييها نخبة من الفرق المتعددة الهوية فتعرِّف بفنون بلادها رقصا وغناء وموسيقى.
موضوع الندوة، لهذا العام، كان يفرض نفسه بغير اجتهاد: »التحولات الدولية وتأثيرها على مستقبل الخليج«. وقد أعد »الورقة المدخل« زميلنا السابق واللاحق والدائم والذي هجر العمل اليومي في الصحافة الى الغوص في شؤون الفكر والأبحاث والدراسات ذات الطابع الاستراتيجي: سعد محيو.
ولأن سعد محيو عروبي الهوى تقدمي النزعة مستقبلي الرؤية فقد »قرأ« الخليج بعين تجربته »اللبنانية« فافتقد هناك مصر ودورها التأسيسي الجامع كما افتقده في بيروت، ولم تشغله الحروب الأميركية للسيطرة على منابع النفط عن رصد النجاحات الإسرائيلية الباهرة في الحرب على العرب (مجتمعين) في فلسطين… وكان بديهيا ان يرى في الغياب المفجع للديموقراطية عن المجتمعات العربية »أم الأسباب« في توالي الهزائم، داخلياً وإقليمياً وفي افتقاد »القيمة« وتناقص »الاعتبار« على المستوى الدولي.
ولقد شهدت هذه الندوة المتنوعة المحاور، المتعددة الأصوات، جولات من النقاش الحيوي حول التجارب الديموقراطية، الوليدة أو المتنامية أو المحدثة، في منطقة الخليج العربي، حيث تحتفظ الكويت بحق الريادة، واحتل موضوع الحقوق السياسية للمرأة مساحة ملحوظة، خصوصاً ان الكويتيات بين السابقات من نساء العرب، لا سيما في منطقة الجزيرة والخليج، في اقتحام مجالات العمل مسلحات بالكفاءة والعلم حيث سجلن تفوقاً ملحوظاً على أقرانهن من الرجال وقدمن صورة مشرقة عن قدرات المرأة العربية… (وهي كما تعلمون جميعاً غير محدودة!!).
في هذا المجال كان بديهياً ان يتميز »فارس« الديموقراطية وحقوق الإنسان في الكويت الدكتور غانم النجار الذي يجمع الى الصدق الحماسة والى الوعي شجاعة التصدي والمواجهة بالمنطق والحجة مقدماً بنفسه النموذج لمناضل عربي صامد حتى في زمن الانكسار… وان يتكامل مع ذلك المثقف الاماراتي المجادل الدمث الدكتور محمد الغباش الذي يتقبل وجهة نظرك باحترام شديد يقنعك بتبديلها لتصير صحيحة.
إشراقة جديدة لشمس الواعظين
أما المفاجأة السارة فكانت شخصية: انبثق أمامي فجأة، كالبشارة، المفكر الإيراني المستنير و»المجاهد« ضد التعصب وضيق الأفق محمود شمس الواعظين.
هي المرة الأولى نستعيد قدرتنا على التلاقي بعد انقطاع استطال أربع سنوات، أمضى »شمس« معظمها يقاتل من يفترض فيهم حماية الثورة من أعدائها فإذا بهم لا يطاردون إلا أبناءها البررة… وهكذا فقد لاحقوا شمس الواعظين ورفاقه من »الإصلاحيين«: ما إن يصدرون صحيفة نظيفة وشجاعة في قول الحقيقة حتى يعطلها أولئك الذين يتوهمون أن حماية الثورة لا تتم إلا بالسكوت عن الخطأ، وبكتم الأصوات الناقدة، وإخفاء الحقائق.
لم يرتدع شمس الواعظين ورفاقه عن »غيهم« فكان لا بد من التأديب بالتوقيف والمحاكمات والسجن، بتهم تداني التكفير والردة.
أقفل »المحافظون« على تخلفهم خمس صحف، أصدرها شمس ورفاقه على التوالي: كلما أصدر الإصلاحيون صحيفة عطلوها بتهم شتى بلغت حد التشكيك في إسلامهم.. ومع الإقفال توقيف ومحاكمة وأحكام بالسجن، فضلاً عن »منع السفر«.
محمود شمس الواعظين اليوم أقوى إيمانا بالثورة والتغيير مما كان قبل المطاردة والمحاكمة والسجن. تغلّب على مرارته ومضى يتابع جهاده. لكنه أكثر خوفا على الثورة. يخاف عليها من »حراسها«، ويخاف أن تبتعد عنها الأجيال الجديدة التي ولدت في أحضانها وآمنت بمبادئها ولكنها ترفض أن يحجر على عقلها، وأن تفرض عليها الوصاية، وأن تمنع عنها معرفة أحوال الدنيا بحجة حمايتها من السقوط في فخ التضليل الأميركي أو الانسياق وراء »بهرجة« الحياة الدنيا كالموسيقى والأغاني والأفلام والموضة والكتابات العابثة والهمبرغر والبيتزا… والأخطر من هذه جميعا: الفضائيات! لذلك يعتبر »الدش« أو الصحن اللاقط للفضائيات من رجس الشيطان، يطارده »الحرس الثوري« على سطوح البيوت فينزعونه حتى لا يعرف الشباب ما يتوجب عليهم أن يعرفوه لكي يكونوا شركاء في القرار سواء في ما يعنيهم في بلادهم، أو لكي يكونوا على بصيرة ودراية بما يدبره »الشيطان الأكبر« للشعوب في مختلف أنحاء العالم.
و»شمس« هادئ بأكثر ممّا تتوقع، واثق من صحة موقفه تماما، لم يهتز إيمانه بالثورة، وإن كان قد فقد الثقة بقدرة مؤسسة الحكم على التعامل مع العصر ودور شعبها في خدمتها وخدمة وطنه، وبالتحديد مع الخمسة ملايين من خريجي الجامعات الذين انتزعوا القيادة الفكرية والعملية في مجتمعهم (انطلاقا من بيوتهم)..
ما هذا الإيمان الذي يمد هذا الرجل القصير القامة، الهادئ النبرة، الساهم النظرة كشاعر، بكل هذه الصلابة؟
النائب الفدائي الذي ما زال صحافياً… ووزير المصالحات!
في بيت »فدائي« الصحافة العربية في الكويت محمد جاسم الصقر الذي لم يعوضنا »شغبه« الدائم في مجلس الامة عن روحه الاقتحامية في »القبس«، تحلّقنا من حول »شمس« نستمع الى تحليله الدقيق للصراع المحتدم في ايران بين الاصلاحيين بقيادة الرئيس المنتخب اثنين وعشرين مليونا من الاصوات، محمد خاتمي، وبين »البيت« الحاكم باسم العصمة وولاية الفقيه والحرس الثوري والمليشيا وصرامة المؤسسة الدينية.
كان بين المجموعة المدعوة الى العشاء الحميم ثلاثة من النواب الكويتيين، قبل ان ينضم إلينا رابعهم الذي يحاول ان يتعلم السحر وتأخذه الغواية والاعجاب بالذات الى خارج تاريخه »القومي« الدكتور أحمد الربعي.
وبينما محمود شمس الواعظين يتحدث عن أزمة الحكم الثوري في ايران كان صاحب الدار وزملاؤه النواب »يُسقطون« كلامه على أزمة الحكم الوراثي في الكويت، وكنت شخصياً أقارن في ذهني بين الصراع الايديولوجي العنيف هناك وبين الصراع الشخصي المصلحي الملتبس طائفياً ومذهبياً وسياسياً على قمة السلطة في لبنان، لأنتهي الى التسليم بصحة المقولة الشهيرة: كلنا في الهمّ شرق!
واقتحم علينا جلسة الاستماع والمقارنة وزير الاعلام (بالاصالة) والنفط (بالوكالة) وإعادة تنظيم المعادلة بالمصالحات داخل »العائلة« ومع خارجها (بالتطوع غالبا وبالتكليف أحيانا) الشيخ أحمد الفهد الاحمد الصباح، فأصغى بانتباه وشارك بتحفظ فلم يبح بسر ولم يعترض على رأي مخالف، وان كان »القلق على الامة«، يسكنه كما يسكننا جميعا.
صار الحديث »كويتياً« بامتياز، وتبدت احتمالات الحرب الاميركية على العرب (والمسلمين) بمجموعهم عبر العراق نتيجة منطقية لغيابهم عن الوعي ومن ثم غيابهم عن المسرح الدولي لانشغالهم بمحلياتهم بكل ما فيها من عصبيات ومن صراعات شخصية ومن افتقاد للمرجعية ومن ضياع عن الهدف ومن تشتت الجهد في غابة الخصومات والنكايات والاحقاد والاطماع التي تقودهم واحدا واحدا الى الاجنبي للاستقواء به على الاخوة الاعداء.
وكان بديهياً ان تدور فلسطين في أفق تلك الصالة المحتشدة بالهموم فلا تكاد تجد لها متسعاً »لتهبط« فيه، وان كانت الاحاديث والافكار تندفع اليها فتستحضرها… وفي لحظات محددة كان يتم الاندماج الكلي بين جورج بوش وارييل شارون، كما كانت تضيع الحدود بين الفلسطينيين والعراقيين والكويتيين والسوريين واللبنانيين (وحتى الايرانيين) فإذا نحن جميعا في خانة الضحايا ولا نصير.
»قطاميو« الإيمان تحت مظلة الغربان السوداء
لكي يكون للرحلة الكويتية ختام من المسك فقد تلاقينا مجموعة من أهل »الزمن الجميل« في دار العروبة بضيافة القابض على جمر قوميته العربية بيديه جاسم القطامي.
كانوا كوكبة من جيل المناضلين الذين أكدوا في الكويت هويتها القومية منذ ما قبل استقلالها وقيامها كدولة، وشكلوا لفترة طويلة طليعة صلبة الإيمان، فاستحضروا »الشارع« في الكويت وجعلوه طرفاً في القرار السياسي عبر المشاركة الكثيفة في الانتخابات، ثم عبر الاعتراض على الخطأ متى وقع، وعبر القيام بدور »الرقيب« على الاداء الحكومي المجتهد في منع الشطط أو الانحراف بالقرار نحو المصالح الشخصية، متى وقع.
كان هناك »حكيم« الحركة الوطنية، والقائد المؤسس في حركة القوميين العرب، الدكتور أحمد الخطيب، الذي »اعتزل« الحياة النيابية لكنه لم ولن يعتزل »العمل الوطني« والكفاح من أجل تعزيز الديمقراطية في الكويت بداية، وفي الوطن العربي عموماً..
وكان هناك أيضا القائد النقابي العريق والسياسي المحنك في علم التكتيك، عبد الله النيباري، الذي صار مطالباً بمفرده بأن يستحضر كل »الغائبين« أو »المغيبين« ممن كانوا يمثلون التيار القومي العريض الذي »كوّت« نفسه مكتفياً بمهمة حماية الديمقراطية، وهي إنجاز عظيم في هذه اللحظة السياسية حيث يبدو وكأن القرار العربي مصادر بكليته، نتيجة للغياب العربي المفجع عن دائرة التأثير والاستسلام لما يقرره لهم عدوهم.
تبادلنا الشكوى من ظلم الأقدار واليأس من الحكام وارفضاض الناس عن الشعارات البراقة التي لم تعد تعني ما عنته لهم لأجيال سابقة، خصوصاً ان حملتها اليوم وجلّهم حكام أو شركاء في الحكم مطعون في صدقهم أو في وعيهم أو في قدرتهم على الانجاز.
وعدت بشحنة من الأمل مصدرها ذلك الرجل الذي لا ييأس ولا يسلّم بالهزيمة ولا يفقد إيمانه بعروبته: جاسم القطامي، المعزز دائماً بزوجته ورفيقة نضاله »أم محمد« التي تستطيع ان توزع الأمل وان تزرع الثقة بالنفس وتحض على الانجاز، في شعب بكامله.
عدت من الكويت المظللة بالغربان الأميركية السوداء الآتية لضرب العراق، وأنا »قطامي« الإيمان بأن فجراً ما سينبثق من هذه الظلمة الخانقة، ان لم يكن غداً فبعد غد، ولن تقبل هذه الأمة بأن تعلن وفاتها ذاهبة الى الاندثار..
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
علّمني حبيبي أنه إذا غضب مني عاقبني بإظهار مزيد من الحب، فصرت كلما أردت منه أكثر أغضبته ليسترضيني، وحين كشف لعبتي قال: الحب اكتمال… أروع ما فيه أنه يعيدنا أطفالاً تسعدنا المشاغبات الصغيرة التي تزيد من بهجته من دون أن تخدش فيضانه المهيب