أحمد فؤاد نجم يجيء بلا صوته ونسمعه فنخاف
الانتصارات تلد الأبطال، أما الهزائم فتلد، في ما تلد، الشعراء..
من قلب هزيمة 1967 وُلد الشاعر أحمد فؤاد نجم، ثم »اكتمل« الصعلوك الشيوعي بمقرئ المآتم الشيخ إمام، فكان الثنائي الفني السياسي الجميل الذي أعطى الجمهور العربي الممزق في عاطفته وفي عقيدته بعض أجمل ما غناه الناس، في زمان الانكسار، حباً بالوطن وإيماناً بقدرة الشعب على الصمود في الميدان حتى النصر.
كان »نجم« نشالاً محترفاً و»صبي ميكانيكي« وموظفاً في أوقات الفراغ في واحد من المجالس ذات الاهتمامات الثقافية التي كان يرأسها الراحل يوسف السباعي.
أما الشيخ إمام فقد هجر الشح والضيق في قريته الفقيرة حيث موتاها لا يملكون ما يسد رمق من يقرأ على قبورهم، وجاء إلى القاهرة ومعه لوثته الفنية بحثاً عن قريب كان يجد رزقه في الموالد، يرافق المنشدين بالدف ويعوض غياب المريض أو المشغول في ذلك اليوم منهم، ويمارس هواية النحت في الحجارة المنحوتة أصلاً والمرمية في حوش آدم المتفرع من درب آدم المتفرع من الغورية، قلب القاهرة الفاطمية.
جمعتنا بداية »حلقات الذكر« حول أسباب الهزيمة، قبل أن يتبلور سياسياً وعسكرياً ومن ثم فنياً خطاب رفض الهزيمة، بينما مدافع حرب الاستنزاف تؤكد الإرادة.
ثم صارت محطتنا الأخيرة في ليالي المؤتمرات واجتماعات مجلس الجامعة العربية سهرة مع نجم والشيخ إمام يرتبها واحد من الأصدقاء الذين لا يخافون، فنسمع جديدهما ونغني جميعاً »مصر يا أمه يا بهيه… يا أم طرحه وجلابية، الزمن شاب وأنت شابه هو رايح وانت جايه… جايه فوق الصعب ماشيه، فات عليك ليل ومية، واحتمالك هو هو، وابتسامتك هيَّ هيَّ، تطلع الشمس تلاقيكِ معجبانية وصبية… يا بهية«.
مع حرب الاستنزاف التي ردت الكثير من الاعتبار إلى الجيش المصري، وإلى قيادة جمال عبد الناصر والعمل القومي إجمالاً، رقّت النبرة واختفت الحدة التي بلغت حد التجريح في بعض قصائد نجم.. صار النشيد توكيداً لاستعادة الثقة بالنفس، خصوصاً ان تلك الفترة شهدت بداية مواكب الجنازات للقتلى من الجنود الاسرائيليين عند خط بارليف، على الضفة الشرقية لقناة السويس، الذين ثبت انهم يموتون ايضاً، اذا هم وجدوا من يواجههم فلا يهرب ويقاتلهم فيقتل منهم في دشم احتلالهم المصفح، ويسمع عويلهم بأذنيه عبر سكون القناة المعطلة بين السويس وبور سعيد.
ذات صباح، قبل ثلاثين سنة أو يزيد، جاءني احمد فؤاد نجم الى فندق شبرد لكي يعرف »كيف يعيش الصحافيون البرجوازيون الذين يدعون انهم حملة هموم الامة«… دخل مبهوراً، وطلب »عصيراً بالفراخ«، واستحم وأخذ معجون الاسنان والصابون والمشط، وطلب »فطاراً ملكياً« ثم انطلقنا وهو »الدليل« في شوارع القاهرة، بغير وجهة محددة، حتى صار العصر وهو لم يتوقف عن الثرثرة، نثراً وشعراً، ونكات داخلة وخارجة… بعد الغداء، رجعنا الى الفندق، وعند الباب قال لي نجم بشيء من القلق: تأكد ان محفظتك معك، اخاف ان تكون قد غدت في جيبي انا، بحكم التعود!
***
في اواخر ربيع 1972، كان »نجم« قد وجد من يجمع له قصائد ديوانه الاول »يعيش اهل بلدي«، فجاءني به صلاح عيسى وحسين عبد الرازق »لأهرِّبه« معي الى بيروت، حيث سيتولى »الرفاق في مجلة الحرية طباعته«. وفعلا حملت معي الديوان المحظور، وسلمته الى محمد كشلي، فكلف به سامي مشاقة، وتمت طباعته، ولم احظ بنسخة منه الا تهريباً، ونتيجة تواطؤ ياسر نعمة معي.
وبعدما طبع الديوان بدأ تهريبه المنظم الى مصر، ولم يكن »الرفاق« في حاجة إلي في هذه المهمة.
في تلك الفترة كان الثنائي نجم وإمام قد غدا ظاهرة وطنية مصرية، وأخذت اشرطة الثنائي تتسرب الى خارج مصر فتنشأ من حولها »حلقات السماع« وتنقل لتعميمها على الشباب الغاضب، الرافض الهزيمة، المنادي بالعودة الى الميدان في كل الارض العربية… فلما اضيف الى »المصريات« الجرح الفلسطيني ثم الجرح الاممي مع اغتيال تشي غيفارا الذي شكل قدوة لجيل، وقدم نموذجاً للمخلص لفكرة الثورة حتى الاستشهاد، بلغت تجربة الثنائي ذروتها كلاماً ولحناً وأداء.
وانفجر غضب الشباب المصري، وتم اعتقال المئات من الطلاب، فكان درة الثنائي نجم وامام »رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني«، ثم جاءت بعدها القصيدة الرائعة »صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر«… وقبلها او معها غنى الشيخ امام رائعة نجم »يا غربة روحي روحي، لا تهدي على سطوحي، وسطوحي تطلع فدان، والفدان عايزه مروة، والمروة عرق الانسان..
كان احمد فؤاد نجم قد باشر رحلة الانطلاق بزواجه من الزميلة المميزة الاسلوب ذات الجذور الايرانية والثقافة العربية الاصلية والمزاج الاستثنائي في تطرفه، صافيناز كاظم.
كان الزواج حدثاً فريداً في بابه بين مخلوقين نادرين ومتناقضين في كل شي: صافيناز ذات ميول إسلامية واضحة، ونجم شيوعي بمزاجه، ثم أنه صعلوك وهي »هانم«، وهو عابث في مسلكه ومعاشه وهي صارمة مع نفسها ومع الآخرين.
لم يفاجأ أحد بخبر الطلاق حين تم، وان كنا قد استغربنا صمود الزواج بضع سنوات كانت ثمرتها فتاة هي بالتأكيد أجمل ما انتجت صافيناز وأبهى ما نظم أحمد فؤاد نجم..
بعد ذلك تزوج نجم ثانية من مطربة ناشئة آنذاك هي المعروفة الآن: عزه بلبع.. لكن زواجهما الذي زعما انه قد توج حباً عارماً لم يعمر طويلاً.
رحل الشيخ إمام بعد قطيعة امتدت أعواماً وبقي »نجم« الذي، للحظة، حاول مغادرة الشعر إلى منصب مشروع الزعيم السياسي فخسرنا الشاعر ولم يربح الزعامة ولا ربحت السياسة التي باتت من المندثرات في وطننا العربي المعقم ضد السياسة!
* * *
عدت أتأمل بطاقة الدعوة من جديد: إذاً فلسوف تسهر بيروت مع هذا الشاعر الذي دخل ذات يوم، وجدان الأمة، عبر تعبيره عن وجعها وعن تشوقها إلى بناء ذاتها، وتبين طريقها إلى مستقبلها.
لقد رحل ذلك الشريك العبقري، شبه الأمي الذي أوصل الكلمة المثقلة بالمعنى عبر النغمة البسيطة والتي تخترق الركود والخنوع واليأس والاستسلام وتصل إلى الناس عفية، مُنشية، متفائلة و»مثقفة« بقدر ما هي عفوية وصادقة في تعبيرها عن الأمل وعن أنبل العواطف وأرقّها.
»ترمّل« أحمد فؤاد نجم، خسر المنادي صوته، وخسرت الدعوة حاديها الذي كانت بصيرته أقوى من أبصارنا جميعاً وأشد نفاذاً.
السؤال: هل تخفف الشاعر من أوهام الدور السياسي الذي لبس له »الجلابية« وسافر به إلى جهات عديدة »معقمة« ضد السياسة، وعاد إلى أهله ينهل منهم الشعر ليقوله فيهم ولهم؟!
أهلاً بصبي الميكانيكي الذي نخاف منه وعليه ان يفضحنا أو يفضح نفسه فنبدو جميعا من أهل الماضي.
وفي أي حال يستحسن أن تتنبهوا الى محافظكم!
كتاب للجميع: ثقافة الجنون الناجح!
أعترف أنني للوهلة الأولى ظننت أن فخري كريم يتحدث في واحد من أحلام اليقظة: كتاب للجميع يوزع مجانا مرة كل شهر، وتتوزع أكلافه »دار المدى« مع الصحيفة المستعدة لتحمل خسارة إضافية تزيد من »الانكسار« في »ميزان مدفوعاتها« بغير أمل في معجزة، يبتدعها »سنيورتها« كضريبة القيمة المضافة.
قلت في نفسي: إن هذا الشيوعي السابق ما زال يرطن ببعض أحلام الزمن الجميل ووعوده التي تبدى في لحظة أنها تكاد تلامس أطراف أصابعنا ثم جاءت صاعقة الهزيمة فبعثرت بعضها وأحرقت البعض الآخر ورمتنا في أسفل سافلين.
عاد فخري كريم يلح، ثم فاجأنا أنه اتفق مع الزميلتين »الثورة« السورية و»البيان« الإماراتية، وانه ويا للهول قد باشر طباعة الكتاب الأول.
بعد أيام بلغت المفاجأة ذروتها حين اقتحم علينا فخري المكتب وفي يده بضع نسخ من مجموعة الكتب التي تم التوافق المبدئي على اختيارها للعام الأول وعددها »دزينة« كاملة تغطي اثني عشر شهرا!
قال: تعودتم أن تتهموني بثلاث إنني عراقي كردي، شيعي وشيوعي، أي أن بيني وبين الجنون، في نظرك، خطوة واحدة… ها أنا قد مشيتها!
أصدرت »السفير« الكتاب الأول، »حي بن يقظان« وقد جمع فيه فخري كريم المؤلفين الثلاثة لهذا السفر الفلسفي الإغريقي الذي يتوغل في نظر البعض داخل »الوحدانية« بأكثر مما تطيق، وهم ابن سينا وابن طفيل والسهروردي مع مقدمة طويلة ودقيقة في شروحاتها. وتعليقات منبهة كتبها احمد أمين.
… وقد جمع فيها خلاصة ما توصل إليه والده بعد المقارنات والمقابلات من استنتاجات تزيد من أهمية هذا السفر »الكلاسيكي« في علم الفلسفة وفي اجتهادات الموحدين.
نجح فخري كريم في امتحانه الأول حتى استحق أن ننوه بعبقريته التجارية هنا: إذ إنه أقنعنا بأن الخسارة المادية تؤدي الى ربح معنوي عميم، متجاهلا أن لدينا من المعنويات ما يفيض عن حاجتنا برغم الهزائم وإن كان لا يكفي لتطوير »السفير« فكيف إذا ما أثقلت بكتاب للجميع مرة كل شهر؟!
ولقد يرد علينا الرفيق السابق بأننا في التجارة أكراد مثله!
الشماغ الإنجليزي ورأس الهبل العربي!
لفتني ويلفتني كل يوم على شاشات الفضائيات العربية لا سيما الخليجية منها إعلان مستفز!
الإعلان عن »الحطة« أو»الغطرة« أو»الكوفية« أو »الشماغ«، لكل حسب لهجته ومقاس رأسه وولعه بالألوان، لا سيما الأحمر منها.
ما يستفز في الإعلان كثير ولكنني ألخصه هنا في أمرين:
الأول أنه يقدم لابس الحطة أو الشماغ وكأنه أبله دخل هذا العصر بالغلط.
والثاني الإصرار على التوكيد بأن »الشماغ« الذي لا يستخدم في تصنيعه الماء الثقيل، مثلاً، أو الكوبالت، أو »الهاي تيك« كالتي تنتجها إسرائيل، هو »صناعة إنجليزية مائة في المائة«!
تباهي الزبون بصناعة غيره، مما لا يحتاج عبقرية أو المواد الخام النادرة الوجود، يؤكد البلاهة فينا.
منذ ألف عام، ألفين، ثلاثة آلاف عام أو يزيد والعرب يحصّنون رؤوسهم بالكوفية والعقال. كانوا كذلك أيام عزهم ثم أيام فقرهم، وهم كذلك الآن وهم بعض أغنى أغنياء العالم!
ألم يكن بإمكانهم إقامة مصنع أو مصانع محلية تغطي لهم رؤوسهم وأجسادهم (حتى لا ننسى العباءات) بدل أن تظل بلاهتهم ظاهرة في التجارة كما في السياسة وفي »السلام« كما في الحرب التي نسوا كيف يخوضونها إلا كفيلق »أجنبي« يحمي مؤخرة حليفهم الذي يقتلهم ألف مرة في اليوم!
من أقوال »نسمة«
الحب لا يشيخ وإن شاخ المحبون. انه يظل مصدرا للقوة وللرغبة في الحياة لانه يضيف الى أطايبها المعنى الذي لا يتناقص بمرور الايام … ولقد قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
رأيت أمس صورة نادرة للحب في عجوزين قاربا الثمانين من العمر. كانا يجلسان كأنما في حضن الأصفى والانقى من العاطفة، يستمعان إلى شيء من الموسيقى، وكلما همّ أحدهما بالقيام سانده شريكه الأبدي، حتى لتحسهما كياناً واحداً، جسداً واحداً وليس روحاً واحدة توزعت على جسدين.