كيف تحب وطنك إذا لم تعرفه؟!
تمخر السيارة عباب الخضرة، والبحر في الخلف يفرد زرقته اللازوردية مدى مفتوحا لوهم السكون الذي سرعان ما يبعثره الموج فيكتب بزبده الابيض حكاية هذا الانسان الجبار القادر على تطويع الزمان والمكان وعوامل الطبيعة متى واجهها بعقله ثم بعضلاته.
نصعد مع الطريق اللولبية التي يقل روّادها كلما ابتعدت عن الشاطئ، ونعبر القرى القليلة ذات الأسماء الطريفة والصعبة على النطق بالتركيب المتشابك لحروفها والتي نسيها الذين بنوها على قارعة الطريق، بغير ان يشغل بالهم كيف سينطقها من سيأتي بعدهم او من سيسترشدون بها للوصول الى مقاصدهم المخبوءة في ثنايا الجبال.
انه الخوف من السلطة ألجأ الناس الى هذه المدرجات التي تطوي أحضانها على دساكر ابتناها »العصاة« او »المنبوذون« وأعطوها »أسماء حركية« لا يعرف معناها غيرهم ولا يعرف طريقها الا الهارب مثلهم من الموت في البلدات الوادعة. الاسماء مخابئ في تجاويف صدور الجبال التي لم يكن يسكنها غير الشمس والضباب والوحش، والتي كانت هيبة السلطة لا تصلها الا عند »تغيير الدول«، فإذا ما استقرت الاحوال عادت هذه القرى لتهجع في نعمة النسيان.
الجمال مشاع للعابرين. لم يحسب للسياح حساب. البيوت مضافات لمن جاءت به الريح او حطه الضياع في هذه المنافي البكر.
اختلف الزمان الآن . صارت الطبيعة مصدرا للمال، وصارت الجبال والشجر والانهار والوهاد والغابات والكهوف وآثار العصاة، الأقدمين بالذات، مجالات للاستثمار والربح. لكأنهم خبّأوا كنوزهم للأجيال الآتية. والذين ضجروا من بيوت المدينة المسكونة بالدوي الغامض، ومن استراحات البحر والعبث في الرمال التي لا يشربها الماء ولا تشربه، أرادوا »التغيير« فمشوا وراء الشريط الأخضر حتى الذروة حيث فاجأتهم الحدود الدولية في قلب شجرة فوقفوا وقد صعقهم واقع التقسيم المفروض بالقوة على الشعوب المستضعفة التي كان عليها ان تنشطر نصفين شقيقين أحيانا بين دولتين متحاربتين حدودهما الدم والنار وفجيعة التاريخ الممزق حتى لا يفتضح التزوير فيه.
* * *
هتف كبيرنا حين بلغنا ذروة الجمال في »كسب«: كيف لنا ان ندّعي الحق في بناء العالم الجديد ونحن لا نعرف أبجدية بلادنا؟!
حاولنا ان نستذكر ما يعرفه »المواطن« عن »قطره« او عن »دولته«: المصري عن أرض الكنانة، من الفراعنة فيها الى الأثر اليوناني والروماني فالاسلامي العربي ثم المملوكي والتركي وصولا الى عصر النهضة وانتهاء بالثورة القومية، والمغربي عن مغرب ما قبل الاسلام وما بعده بالأُسر التي تعاقبت على العرش حتى انتهت الى العلويين، واليمني عن يمن ما بين مملكة سبأ وانطفاء الامامة، والعراقي عن أرض السواد بعربها وكردها وبقايا الأمم الغابرة التي لم تنقرض تماما بل امتد بعضها في الأحفاد الذين تكوّنوا من مزيج هائل من البشر بحيث يستحيل الانتساب الى »العنصر« فلا تتبقى الارض هوية ونسباً.
حاول السوري ان يستعرض ما يعرف عن طبيعة سوريا، متجاوزا التاريخ السياسي، وهل يعرف شمالها وجنوبها وشرقها والغرب، طبيعة وآثاراً للغابرين ومعالم عمران ومكامن للجمال الطبيعي؟!
وبرغم ان لبنان هو أصغر الأقطار مساحة فقد تبيّن ان معظم اللبنانيين لا يعرفون عنه ما يكفي، لان السياسة تدخلت في تاريخه فأفسدته وجعلته مزقاً ملفّقة، ثم تدخلت في جغرافيته فصار بعضها للبعض وبعضها الآخر للايجار بوصفه بهجة للناظرين وبعضها الثالث مهملا بكل ما فيه من آثار من شأن استقرائها ان يحسم الكثير من أسباب الجدل حول الهوية والأصل والفصل في هذا النسب المهجّن للبنانيين، وكأنهم مخلوقات من كوكب آخر لم يكن لهم قبل وليس لهم بعد الا في المغتربات البعيدة.
* * *
لا نعرف بلادنا، تلك حقيقة. لذا نصاب بالدهشة كلما قصدنا ناحية منها لم نكن قد سمعنا او قرأنا عنها الا لماماً وفي الكتب المدرسية او في بعض النشرات السياحية الموجهة أساسا لغيرنا، وبلغات الغير، اما نحن فتكفينا الإشارة.
لكن عثمان العائدي يعرف بلادنا بكنوزها الأثرية ومواقع السحر في طبيعتها متعددة مصادر الغنى.
ولانه يعرف أسرار اللعبة، فقد سخّر علمه وكفاءته في »صياغة الجمال« وفي تأطيره وفي توفير ما تحتاجه صناعة السياحة من امكانات ليقدم بلاده في أزهى صورها الاصلية للعالم.
في كل مدينة من مدن سوريا، تقريبا، تطالعك لوحة من إبداع عثمان العائدي، فتشعر ان لك هناك بيتاً يمكن ان ترتاح فيه لتتفرغ للتمتع بجمال الطبيعة الساحرة، او بعظمة التاريخ الذي يشهد لهذه الارض وأهلها بالعراقة وبالإسهام المؤثر والممتد أزماناً في الحضارة الانسانية.
الحب يبني الاوطان. كيف تبني في أرض تحتقرها او لاخوان لك تنكر أخوتهم، او تخجل من انتمائك الى أرومتهم ذاتها؟! هذا قبل ان نصل الى السياسة والسلطة، اي سلطة، ومدى إيمانها بشعبها او غربتها عنه، واعتزازها بتاريخها او تنكرها له.
عثمان العائدي أحب بلاده فبنى فيها وبنى لها وهو يواصل البناء مع ان نجاحاته في فرنسا على وجه الخصوص، وفي أنحاء اخرى من الدنيا، تشهد له بكفاءة استثنائية كمقاتل ضد الذين حاربوا فيه عروبته، وباستشفاف متميّز للتحولات الاقتصادية وموقع السياحة كصناعة وكاستثمار مجزٍ، وكان يمكن ان يكتفي بها فيرتاح ويريح…
ليس للنجاح سن للتقاعد، وليس للإيمان بالوطن حدود، وليس لقدرة الإنسان على الإنجاز حد إلا ذلك الذي يبتدعه لتبرير الانسحاب بالتعب من المواجهة.
بلادنا الجميلة تستحق ان نعطيها القليل لتعطينا الكثير، فوق ما أعطتنا، على مر الأيام..
بعضنا يفضل ان »يختلس« من ثروة بلاده فيشوّه جمالها ويسيء الى تاريخها، ثم يتباهى بالادعاء انها ما كانت لتكون لولاه..
ندخل الغد متى استقر فينا اننا نكبر ببلادنا وبها نغتني، وأننا من دونها نكرات حتى لو ملك واحدنا ثروة قارون.
ليس مطلوبا منا ان نخلق الجمال، ولكن ان نحميه من أنفسنا، ثم ان نستمتع به لنحب بلادنا وأهلها، أهلنا، أكثر.
إيقاعات ناقصة بالغياب..
الجو عائلي تماما، والنساء هن الاكثرية، وحشد الصبايا المتأنقات يفتقد معادله من »الفرسان«. للفتيان مزاج مختلف أبقاهم بعيدا عن الاجازة العائلية.
لم تكن اي من الصبايا بحاجة الى انتظار من يدعوها الى الرقص. انها تختزن كماً هائلاً من الشجن والرغبة في الانطلاق، وهذه فرصة لأن يتحرر الجسد فيعبّر عما لا مجال لان تقوله الكلمات، فإن حاولت لم تجد من يستحق ان يتلقاه. ثم ان الحراسة المشددة كفيلة بإحباط المغامرات الطائشة اذا ما توفّر لها الشريك الذي قد تستولده الغفلة.
ليس الوجد بحاجة الى دعوة. انه يعبق في الصدور ويطل عبر العينين الباحثتين عن ذلك التائه عن ذاته والذي يأخذه الضياع بعيدا عن الممكن الى المتوهم او المستحيل.
لا ضرورة للشراب، »الجو« يكفي. انها ساعة للانطلاق المشروع نحو الذات المخبوءة المخنوقة داخل حجاب الأم وعبوس الأب وتجاهل الشقيق.
الرقص أقصر الطرق الى النشوة. حرّر جسدك فاذا الدنيا جنّة. ترتفع الايدي بنداء النجدة، ويتأرجح الشعر من حول الوجه الناضح بعرق الفرح، ويهتز الجسد مرافقا الإيقاع، فإذا مباهجه متعددة، واذا التضاريس ومراتع اللذة فيه متعددة بغير حصر.
الرقص هو الحرية. الرقص أفصح اللغات. لا يحتاج الجسد الى من يترجم رغباته. انه يعلنها بأعضائه جميعا.
في الحلقة تستكمل الصبية ذاتها. تستخرج حوّاءها من قلب الثوب وتطلقها فاذا هي دنيا من السحر والمتعة. يستطيل العنق وحين يتلوّى ينثر عرق الرغبة في التعب، وينهد الصدر ثم ينغلق ربوتين بينهما منعرج الجوى حيث تتدحرج تلك اللآلئ الصغيرة متوهجة وهي تتشهّى الذوبان في كف الغائب او على شفتيه.
تراقص الصبية الصبية بنوع من التحدي للذي غيّبه غباؤه كما للذي حضر بغير عينيه. تتلوّى الخصور مفسحة في المجال أمام الجسد ليعطر الهواء بالتشهي، وتستذكر الشفاه الكلمات العجفاء للأغنية الهزيلة التي يطلقها المغني، فقط من اجل ضبط الايقاع.
يهزّ الطرب العجوز التي ولّى زمانها مع الرقص، فتتمايل في مقعدها، وتتكبد مشقة التصفيق وهي تردد ما يعنيها من كلمات الاغنية، كأنها تنشّط ذاكرتها.
لا وقت للحب، والغياب فرصة لكي يستحضر الخيال الأحبّة من قلب هجرانهم الذي طال. لكن الحلم قد يعوّض الغياب.
تتداخل الاجساد والاماني والاحلام وأطياف الأحبّة الذين لم يأتوا، ويكتسب المغنّي ملامح عائلية أليفة، وقد يترك له ان يكتشف السر المخبوء من خلال الطلب الخاص.
اما حين تصمت الموسيقى، فان المغني يستعيد ملامح غربته، بينما تحاول كل صبية ان ترمم الثوب الذي أفسده عرق النشوة وصورة الحبيب الغائب الذي لا يجيء الا مع البكاء.
أدونيس المستحيل
قدّم أدونيس في مقابلته التلفزيونية الاخيرة درسا متميّزا في »المكر«. توغل في الالتباس حتى كاد الجمهور يسلّم بأنه هو المخطئ او المقصر في فهم أفكار هذا الشاعر الواضح تماما، الصريحة مواقفه الى حد الجرح.
وحين انتهت المقابلة كان على الجمهور ان يغرق في بحر الالتباس البلا حدود، الى حد افتقاد اليقين.
كان السؤال دائما: من هو الأبرع والأدهى والأجود في إبداعه: الشاعر أم الكاتب الناثر في أدونيس؟!
صار اللغز ثلاثياً الآن بعد أدونيس المتحدث الذي يلغي المعنى بمزيد من المعنى، والذي يضخّ في نثره رؤى الشعر بينما ينساق في نثره مع المتصوّف حتى الوصول.
وهناك حيث يستقر، بعيدا كالظن قريباً كالسماء، يطل أدونيس ليكتب على صفحات وجوهنا القصائد التي لا نستطيع قراءتها فتُبقي أثره فينا بينما يغيب عنا مكملا كلامه الذي يعنينا حتى وهو يظل خارج وعينا.
لغات أدونيس كثيرة، ونحن بالكاد بدأنا فهم الحروف الاولى من كتابه »المستحيل«.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب ان تؤمن بالانسان. من احتقر إنسانيته في غيره لا يمكن ان يعرف الحب. لا يجيئك حبيبك على جثث الآخرين. الحب أعظم من ان يحتكره فرد. أجمل ما في حبيبك أن ترى فيه كل »الناس« وأن تحب فيه الناس. بالحب، تصير أنت وحبيبك الناس جميعا، فأنّى له ان تعرف الكره؟!