زاد الرئيس سليم الحص من »قليل الديموقراطية« الذي يتهم به النظام اللبناني مقابل »الكثير من الحرية« فيه، عندما وضع المعركة الانتخابية بكل وقائعها (التي آلمته وآلمت مقدّريه بلا شك) خلف ظهره، وقال إنه »من الطبيعي بل ومن الضروري« أن يكلَّف الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة المقبلة«.
لعل الرئيس الحص قد استند منطقيا إلى الوجهة العامة لاتجاهات الرأي المعلن للعديد من الكتل النيابية في المجلس الجديد، أو إلى »المناخ الشعبي« كما عبّرت عنه انتخابات بيروت بخاصة والنتائج في سائر المناطق بعامة.
ولعل الرئيس الحص أكثر من يدرك، وبالتجربة التي لا تخلو من مرارة، أن اللبنانيين بالذات يبدّلون مواقفهم لأسباب هي أقرب إلى العاطفة، وأحيانا إلى الغريزة منها إلى التقييم الموضوعي والأحكام الدقيقة التي تفرض الفرز بين الصح والغلط والمحاسبة في ضوء »الناتج« الذي لا يقبل الجدل.
كذلك فإن الرئيس الحص يدرك بالتجربة ان الخطأ إذا طغى يجرف الحقيقة، وأن المحاسبة إذا اشتطت فاتخذت طابعا كيديا ارتدت إلى عكس المرجو منها فصارت أقرب إلى »تزكية« المخطئ إذا ما تبدى في صورة »الضحية«.
إن المواطن لا يصدق »السلطة« في الغالب الأعمّ، ولا يطمئن إلى نزاهة أحكامها، ربما لهذا يذهب إلى التعاطف مع »الضحايا« حتى لو كان يعرف أنهم »مخطئون«.
والأمثلة أكثر من أن تحصى وهي لا تخص عهدا بالذات أو حكومة بالذات، فكل من صُرفوا من الخدمة في عمليات التطهير أو الإصلاح الإداري عاملهم الناس على أنهم »مظلومون« إما لأنهم »ليسوا وحدهم المخطئين« أو لأن »أخطاءهم لا تقاس بخطايا الأكبر منهم والذين لا يطالهم حساب«…
فكيف اذا كان »المظلوم« رئيس الوزراء ذا الوهج الاستثنائي، وذا المكانة العربية والدولية، الذي بنى لنفسه رصيدا متميزا بمساعداته الاجتماعية والتعليمية المؤثرة على امتداد عقدين من الزمن تقريبا؛ والتي شهد لها ذات يوم الرئيس الحص نفسه؟!
وكيف اذا ما اعتبر الناس ان سبب الظلم هو الموقف الذي اتخذه الرجل حرصا على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، واستطرادا على دور »الطائفة« وحقها في المشاركة في الحكم على قاعدة اتفاق الطائف واصلاحاته الدستورية؟!
وكيف اذا كانت »الحملة الرسمية« على رفيق الحريري بشخصه وبمن معه قد تجاوزت كل حد معقول، وفي لحظة سياسية شديدة الحساسية؟!
الباقي نتائج: ان يكون الحريري قد نجح في تحويل التعاطف الى موجة عارمة من التأييد سرعان ما اتخذت طابع الدفاع عن الكرامة، كرامة بيروت والبيروتيين و»الطائفة« التي اعتبرت مهددة في مكانتها وفي دورها وفي موقعها في الحكم.
… وان يكون رفيق الحريري قد »استعار« من سليم الحص صورة »الضحية« بينما هذا الرجل الذي نسبه الناس الى ضميرهم لانه كان يتبدى لهم دائما في صورة »مشكى ضيمهم« قد اتخذ بسبب صمته عن الظلم او تماهيه مع »الظالمين« صورة مغايرة لطبيعته التي عرفوه عليها طوال ربع قرن..
… وان تكون »الحملة الرسمية« التي تجاوزت حدود النقد السياسي الى الخصومة الشخصية قد جبّت حقائق كثيرة ابرزها: ان رفيق الحريري حين خرج من رئاسة الحكومة كان موضع خلاف واسع، وان خطته الاقتصادية التي اعتمدها طوال ست سنوات (لم يتم لأحد غيره ان يمضيها متصلة في رئاسة مجلس الوزراء) كانت محل انتقاد عنيف احيانا، ومحل اعتراضات شعبية ونيابية واسعة.
والواقع ان الناس المتشككين في جدوى خطط الحريري قد وجدوا انفسهم مضطرين لإرجاء النقاش حول الخطط ومدى نجاحها او فشلها الى ما بعد انجاز »معركة رد الاعتبار«.
لم يردّ الناس بهمومهم او باحتياجاتهم او بمطالبهم المتضخمة نتيجة الضائقة المعيشية التي قد لا يبرئون الحريري من بعض المسؤولية عنها، وانما ردوا بعواطفهم المستثارة واحساسهم بأن »كرامتهم« و»حقوقهم« في السلطة قد مست، اضافة الى ان الرجل حوكم وأدين وحكم بغير محاكمة عادلة، ودون ان تتاح له فرصة الدفاع عن النفس… ثم ان خلفه لم ينجح في ما أخفق او قصر فيه، واكتفى بتحميل »التركة الثقيلة« كامل المسؤولية دون ان يقدم انجازا يستحق الذكر.
حتى الذين كانوا ينتقدون الحريري وخطط حكوماته المتعاقبة ويحملونه كل أو بعض المسؤولية عن الديون وما ترتب عليها، وجدوا انفسهم يقفزون من فوق هذا الواقع لمواجهة »خطر اكبر« شعروا بأنه يتهددهم في معنوياتهم التي تتقدم في مثل هذه الحالة على لقمة عيشهم… وهكذا أعطوه أصواتهم ليحصنوه ضد محاسبة يرونها غير عادلة وتصيبهم هم بقدر ما تصيبه وأكثر.
طبيعي ان يكون الدكتور سليم الحص اول العائدين الى العقل والمنطق، بعد هدوء عاصفة العواطف والمشاعر والألم ومرارة الخذلان.
إنه رجل علم، ثم انه صاحب تجربة عريضة داخل الحكم وخارجه تؤهله لأن يعرف ان الحكم محرقة، وان المعارضة جلابة جماهير، فكيف اذا ما اختلط »السياسي« ب »العاطفي« وزادهما حدة تفاقم الهم الاقتصادي بنتائجه المباشرة التي تضيق مجال الرزق امام الناس وترميهم في دوامة التفكير بحماية مستقبل الأولاد من مخاطر داهمة اقساها خطر الهجرة يأسا من الوطن وأهله؟!
على هذا أحال الرئيس الحص الامر الى المجلس النيابي الجديد الذي لن يكون فيه، والى الاستشارات النيابية الملزمة التي أدى الاخلال بها او اختلالها، لهذا السبب او ذاك، الى النتيجة »السياسية« التي ستعيد بالمنطق سلفه الصديق القديم الذي صار في موقع الخصم الى رئاسة الحكومة التي اخذها منه او عنه قبل 20 شهرا تقريبا بطريقة لم تسعفه الظروف التي عاشتها حكومته في تبريرها، ناهيك بأن يستطيع التباهي بها او البناء عليها.
إنه موقف يزيد من »قليل الديموقراطية« في لبنان، مقابل »الكثير من الحرية« التي قد يرى الحص في نتائج الانتخابات النيابية تجسيما لها.
وليس مستبعدا ان نشهد انقلابا في الأدوار غدا، واذا وقع ما اعتبره الحص من باب »الطبيعي« او »الضروري«، فيستعيد الحريري حاكما صورة »الظالم« الذي توجه اليه سهام النقد والتقصير عن تحقيق الآمال والطموحات، بينما يعود الحص الى الصورة الأثيرة لدى جمهوره: الضمير، ولو بسمات »المظلوم« مثل الناس الذين خذلوه قبل أيام والذين قد يعودون اليه معارضا وقد برئ من السلطة فعكف على زيادة »القليل من الديموقراطية« بسلاح الموقف الذي شلته اخطاء الحاكم وقصور الحكم عن تلبية حاجات الناس لا سيما المعنوية منها.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان