هاتفت صديقتها هذا الصباح متلهفة لتقول لها “غبنا، كل عن الآخر، أسبوعا. غبنا منذ انتهينا من حوار عن استمتاع اللحظة. وصلك بدون شك ما وصلني من أشكال متنوعة من العتاب والشكوى والثناء والمساندة على بعض ما دار في حوارنا. كل ما وصلنا يستحق على كل حال الرد والنقاش. هناك ما استوقفني أكثر من غيره وهناك ما صدمني وإن برفق ريشة ناعمة. اتهمتنا إحدى المهاتفات بأننا في حوارنا الاسبوع الماضي عن استمتاع اللحظة أغفلنا أو تجاوزنا في تحليلاتنا لفعل اللحظة وسلوكياتها حدود الحرية الممنوحة لنا، نحن النساء. صديقتي: أما وقد انتقل الجدل من استمتاع اللحظة الى حرية المرأة تعالي نتدخل فنناقش ما يمسنا من جوانب في قضية الحرية”.
أجابت الصديقة بدون كثيرأو قليل من التردد قائلة “معك كل الحق وبخاصة بعد أن شكلت بعض الردود عن غير قصد سحابات كثيفة من الشجون والآلام. أنا على الطريق، فانتظريني”.
***
أطلت الصديقة صاحبة الدعوة الى الحوار الجديد بخطاب دفاع عن اختيارها موضوع الحرية في زمن القيود. قالت “أنا لا أطالب بحرية كاملة ولا مطلقة للمرأة في عالم ما يزال الرجل فيه مهيمنا. أريد فقط أن أحظى ببعض متع يحتكرها الرجل، متع حاز الرجل حق توصيفها وسلطة تحريمها او تمريرها واحتكر حق اصدار الأحكام على من تساورها نفسها الأمارة بالسوء الاستمتاع بها أسوة بالرجل.. يؤلمني أشد الألم أن الرجل ما يزال يستخدم نفوذه وقوته ليجبرني بهما على تقييد حريتي بنفسي والخضوع له في لحظات يختارها، فهو السيد، سيد الوقت وفي مواقع يختارها فهو السيد في المكان. يختار الوقت والمكان للاستمتاع باستلاب سعادة ليست في معظم الحالات من نصيبه وحده فقد ساهم في صنع كثير من حلقاتها شخص آخر هو أنا، المرأة.
تسأليني ماذا أريد هم أن يفعلوا. أجيبك بسرعة وبدون تفكير طويل، أريد ان يتركوني أقرر بحالي ولحالي ما يمتعني ويسعدني وما ينفرني ويتعسني ويخنقني. أنا الأدرى بحالي ومزاجي ورغباتي. منهم من يقرر أنه صاحب حق في أن يحدد لي رغباتي و أن يحبسها ويفرض التعتيم على أحلامي ونشواتي وشهواتي، وفي الوقت نفسه يعين نفسه صاحب الحق الأوحد في أن يختار من بين كل هذه الرغبات والنشوات واحدة دون غيرها ودون استشارتي ودون اي اعتبار لرأيي. في النهاية، أي بعد كسر إرادتي ونفي شخصيتي ينصرف ليعود يكرر سطوته أو يرحل رحلة اللاعودة دون أدنى اعتذار تاركا إياي لمجتمع وقلب لا يرحمان.
أنا أريد، وكل النساء أيضا، نريد ان نجرب ما يجربه الرجل أو بعضه على الأقل وبعدها فقط يحق للمجتمع أن يحاسبنا. هم الآن يحاسبوننا على ما لم نجربه من قبل. هّذا ليس من العدل في شيئ. دعونا نجرب ونخطئ ، ولن نخطئ كما يشيع عنا بعض الرجال ورجال عينوا انفسهم باسم الدين أعداء نساء”.
***
قاطعتها صديقتها لتقول “أرجو ألا تبالغي في المطالب. تعرفين كما أعرف وتعرف كل النساء أن أمنا حواء بالغت في مطالبها وفي تقديرها لمساحة حريتها أو أخطأت في التوقيت فطردت من الجنة. تعرفين أيضا بعد سنين طوال من السعي والجهد أنهم يتعاملون معك على اساس قاعدة ان حريتك أخطر عليهم وعلى العالم من اي تهديد آخر. أو لعلك لا تعرفين حتى الآن ورغم كل ما قاسيت أن كل قسط تحصلين عليه من الحرية يخصم قسط مماثل له في اللحظة نفسها من إرادة الرجل وهيمنته. تذكرين كم حاولنا عبر فلاسفة وثغرات في التاريخ نشر القناعة بأن حريتنا إضافة الى قوة الرجل والقبيلة او الدولة او الامبراطورية. ما حققناه يا عزيزتي من نجاحات سرعان ما أغرقها طوفان رد الفعل من رجال قساة وأنظمة الطغاة وعصابات التطرف الديني فكرا كان هذا التطرف أم سياسة أم حربا.
أتظنين أن هؤلاء وغيرهم ينسون كيف أن نزول النساء الى الشوارع في ثورة 1919 حفز الرجال وأثار نخوتهم فأضاف الى قوتهم والى قوى الثورة والتغيير في المجتمع. هي الثورة التي على أثرها تشكلت حركة “الاخوان المسلمون”. ليست مصلدفة يا صديقتي. كذلك لن ينسى رجال كثيرون في كافة أطياف السياسة والدين ما فعله وجود هذا الكم من النساء في ساحات الثورة المصرية في يناير 2011 وشهور بعده. كن الوقود الذي أبقى الشعلة مشتعلة وأحدث شرخا عميقا في منظومة القوى الكارهة لتحرر الانسان المصري، وبخاصة المرأة وخروجها الى الشارع وثورتها على الظلم والقمع والتعذيب. رجال يمارسون أعمالا كريهة ضد مجتمع ناهض وبخاصة ضد نساء اخترن التحرر بالمساهمة في إقامة حكم جديد يحترم كرامتهن ويحارب الفساد ويمهد لبناء مؤسسات ديموقراطية يكون للمرأة فيها مكانة ودور تستحقهما.
***
أشكرك يا صديقتي، أشكر لك عودتك المتكررة وفتحك سيرة ثورة يناير ودورنا فيها. يتهموننا بأننا أثرنا الفوضى وقضينا بأيدينا وأفعالنا على الثورة. تعرفين ان الحقيقة اختبأت في مكان أمين ترعاها قلوب مؤمنة بالثورة وأهدافها. أما أنا وأنت فأظن أننا سنواصل العمل حتى نحصل على حريتنا على اكمل وجه ممكن. أنا لم أتجاوز يوما حدود حريتي. لم أتخطاها فأسيء اليها وإلى نفسي. لم تكن حريتي ولا حريتك سببا في الفوضى. يكفيني انني عشت لأرى نساء بالملايين تهتف رافضة حتى قلت أننا ندخل عصر لاءات النساء بعد عصور عديدة من “نعم” التي لم تثمر الا الاستكانة والخنوع. نعم التي نرددها نحن النساء في كل مكان نختلط فيه بالرجال، نرددها في البيت ومواقع العمل ومؤسسات المجتمع، لم نجن منها الا قيودا أكثر وأشد على حريتنا ونقص في ارادتنا وظلم في نصيبنا من طيبات المجتمع وثماره المادية والمعنوية.
كم مرة صارحتك فيها برغبة جياشة تحثني على الصراخ في مكان عام. هي الرغبة في التنفيث عن مخزون مكثف من المكبوت في داخلنا. هي الرغبة في الرفض العلني لتوجيهات في ذيل توجيهات نتلقاها منذ كنا “في اللفة” أو كنا نحبو. لا تتحدثي بصوت عال. لا تختلطي بالرجال في الشارع او مكان عام. لا تردي على من أساء لك بالفعل أو باللسان. اسكتي على الظلم في البيت وفي العمل فأنت إمرأة. أنت إمرأة. أنت إمرأة. اخيرا فهمت السر وراء إقبال المرأة المصرية في الأحياء الشعبية على الانضمام لجنازة لا تعرف الميت فيها. كانت الجنازة فرصة نادرة للصراخ والندب وإعادة تدوير طاقة غضب لظلم واقع من الرجل سيد العائلة او من سوء معاملة او عنف منزلي أو اغتصاب متكرر. أنا الآن لا أتعرض شخصيا لشئ من هذا ولكن صراخي سوف يظل وسيلتي لإعلان غضبي لحريتي المنقوصة أوارادتي المعتدي على حرمتها.
***
الطريق طويلة يا رفيقة دربي. فليعلم القاصي والداني اننا لن نقبل بأقل مما طالبت به حواء. سنجتهد ونحسن الأداء ونواصل التفوق ونفتح أمام الرجال والسلطة كل ابواب الحوار. لن نغلق بابا في وجه رجل كما فعل معنا. الجنة ليست كما يزعمون بعيدة عنا، الجنة تحت أقدامنا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق