أقسى نقد تلقاه «الحريري الأول» كان ذلك الذي تولى توجيهه إليه «الحريري الثاني»..
.. وهو قد كرّر النقد مرتين خلال أربع وعشرين ساعة، بكلمات قليلة ولكنها مثقلة بالمرارة والدلالات الموجعة:
{ الأولى في بيان «النعي» الرسمي لحكومته الراحلة، والذي كاد يجيء على شكل «بشرى سارة للجمهور الكريم»،
{ والثانية في توصيف ما ستكون عليه حكومته المقبلة لتأتي انتقامد من أو تعويضد عن قصور سابقتها الذي كاد يبلغ حد التآمر على رئيسها ـ المنقذ.
وأكيد أن رفيق الحريري لا يفتأ يهنئ نفسه، منذ أن نجح في تمرير القرار بقبول الاستقالة، على نجاحه في الإجهاز على حكومته اللعينة، وبيده لا بيد عمرو (؟!) من غير أن أو من قبل أن يسقط معها أو بسببها.
وهو قد عبَّر عن تهانيه لذاته بأسلوب لا يتسم بالكثير من التواضع، حين عاهد «شعبه الصادق» الذي «غمرني مجددا بثقته» بأن يكون «محط آماله»… في حماية ما تحقق!
في بيان الاستقالة قال الحريري بضرورة «تحقيق الانتقال إلى وضع حكومي جديد ومتماسك، يؤسس لمرحلة جديدة من التعاون بين المؤسسات، ويمنع التخريب بمسار الاستقرار السياسي والاقتصادي والوطني».
أما في بيان «قبول التكليف» فقد تعهد الحريري بأن يشكل «حكومة قادرة على مواجهة الاستحقاقات كافة»، معترفد بأن «العمل الحكومي في الفترة الماضية أصيب ببعض عوامل الخلل السياسي» مؤكدا أن «المرحلة المقبلة لا تحتمل التساهل ازاء ذلك»؟!
وأما مواصفات حكومة إنقاذنا من الحكومة السابقة فقد حددها الحريري بدقة: «حكومة متضامنة، متماسكة، تحمي الحريات العامة التي يكفلها الدستور، وتؤدي دورها الكامل في معالجة المسألة الاجتماعية، وترسيخ مسيرة الاستقرار السياسي والاقتصادي والإنمائي (…) حكومة تعمل للاستقرار ولا تتسم بصفة الانتقالية»..
لا يحتاج المرء إلى عبقرية لكي يفهم أن هذه الصفات جميعا لم تكن متوفرة في الحكومة الراحلة، والتي استطاعت برغم هذه «الهنات الهينات» أو ربما بسبب هذه «الهنات الهينات» أن تعمِّر وأن تدوم وتدوم وتدوم حتى تخطت العامين ونصف العام في دست الحكم!
كذلك لا يحتاج المرء إلى ذاكرة حديدية لكي ينتبه إلى أن مثل هذه التوصيفات وأبهى منها وأجمل وبكلمات أفخم قد أضفي على الحكومة الراحلة عند تقديمها للناس ثم على امتداد عمرها المديد، وحتى ما قبل الرحيل بساعات (وفي مجال تسفيه الدعوة إلى تبديل تلك الحكومة إياها أو تعديلها)..
ü ü ü
الحريري الأول يتنحى، إذد، ليتقدم الحريري الثاني على «أنقاضه» وليس كامتداد له تماما.
بالنسبة للناس لم تكن ثمة حكومة. كانت ثمة ثلاثون صورة أو أقل قليلا لرجل واحد. وأقلية «الثلث المعطل» لم تظهر في أية لحظة في الصورة، لنفترض أنها هي التي عطّلت.
لا يعني هذا أنه لم يكن ثمة تمايز في المواقف، أو ثمة مواقف لبعض الوزراء، لكنها كانت أكثر حكومة في لبنان يصح أن يقال فيها إنها «حكومة الرجل الواحد».
ربما لهذا يظهر عمق الاختلاف في طبيعة الشكوى من تلك الحكومة بين ما يقوله الحريري الآن فيها، وما كان وظل يقوله الناس فيها على امتداد «عهدها» الميمون!
لم يكن مصدر شكوى الناس أن الحكومة غير متضامنة أو غير متماسكة بالقدر المطلوب، لأن الموضوع بالنسبة إليهم هو حول ماذا يكون التضامن والتماسك،
وفي ما يتصل بهموم الناس الحقيقية فلقد ظلت الحكومة متضامنة ومتماسكة حتى اليوم الأخير… ضدهم، وهنا بعض النماذج الجوهرية لا غير:
{{ في الاقتصاد والوضع المالي، وإلى جانب واقع النجاح في وقف انهيار سعر العملة، فقد ظلت الأسعار ترتفع حتى بات لبنان واحدا من أغلى بلاد العالم!
وفي ظل عجز الموازنة المتفاقم والذي كان وما يزال يمنع الزيادات الضرورية في المرتبات والأجور، فإن الضرائب والرسوم قد زادت بوتيرة وحشية فالتهمت الى جانب تلك الزيادات البائسة بعض لحم المكلف اللبناني، لا سيما من هو من فئة صغار الكسبة كالموظفين والأجراء وأصحاب الدخول المحدودة، أي الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
ولقد كانت الحكومة متضامنة ومتماسكة في مواجهة شكاوى الناس، وإن كان الوزراء ـ كأفراد، وخارج مجلس الوزراء ـ يقولون قول الناس ويجأرون بالشكوى مثلهم!
{{ في التربية والتعليم ـ ازداد وضع المدرسة الرسمية بؤسد على بؤس، ووقع خلل فاضح في السياسة التربوية يجسده التقصير (المقصود؟!) عن إعادة النظر في البرامج والمناهج، والتخلي عن هدف إعادة كتابة التاريخ الموحد وما يتصل بالتنشئة الوطنية.
كذلك لم يتقدم الجهد لاعادة توحيد الجامعة الوطنية خطوة واحدة الى الأمام، بل لعل «التفريع» قد بات «قانونا مقدسا» الآن وبعدما تحصن بالحساسيات الطائفية والمذهبية.
وفي أي حال، لم يلمس الناس في أي يوم أي انقسام داخل الحكومة بسبب القصور أو التقصير في هذه المجالات، بل كان التضامن والتماسك نموذجيين،
الوجه الآخر للمسألة أن الدولة تحولت إلى «تحصيل دار» يجمع الخوات والضرائب للمدارس الخاصة، كأنما ما تقدمه لها مباشرة لا يكفي!
وفي هذا المجال كانت الحكومة متضامنة تضامن اليد مع الذراع!
{{ في مجال الادارة ـ لا يكابر الحريري الأول فيعترف ومعه «كل» حكومته ان وضع الادارة الحكومية الآن أسوأ مما كان يوم أطل على الحكم كوعد بالتغيير أو التطوير أو الاصلاح ناهيك بأنه «صاحب مشروع بناء الدولة الحديثة».
وليست العلة في أن عملية التطهير (أو الاصلاح الاداري) المرتجلة والمبتسرة والمشوهة قد حصنت الفاسدين والمرتكبين واللصوص فحسب، بل العلة في المنطق الذي كان وما يزال يرى الحل في إنشاء إدارة خاصة رديفة (وبديلة) لكل إدارة، وكان وما يزال يعتمد «الدفع المباشر» لهذه المجموعة المختارة أو تلك من الموظفين لكي تنجز ما ترى «الحكومة» ضرورة إنجازه من «المصالح» التي تبرّر نفسها بأنها عامة لكنها في الغالب الأعم تؤدي الى ازدهار في المنافع الخاصة.
ü ü ü
بعد سنتين ونصف من الحكم نجدنا أمام النتائج التالية:
1 ـ نجح جميع الوزراء.. وسقطت الحكومة!!
في كل يوم كانت أجهزة الاعلام تنقل للناس أكداس الصور عن «الانجازات»، وفيها الوزراء يخطبون (وبأكثر من لغة) ويعلقون الأوسمة ويقصون الشرائط ويتلقون التهاني والتبريكات على جهودهم الرائعة في مجالات الصحة العامة والأشغال العامة والتربية العامة والزراعة العامة والاقتصاد العام والنقل العام والكهرباء العامة…
لكن المحصلة، كما يقول رئيس تلك الحكومة، كانت بائسة وتستدعي التغيير «ولا تحتمل التساهل ازاء ذلك»!!
2 ـ الأقلية القليلة تسقط حكومة الأغلبية الغالبة!
برغم أن المعارضين أو المعترضين داخل مجلس الوزراء لم يزيدوا في أي يوم عن أربعة أو خمسة (ودائما دون العشرة)، وأنها لم تمنع أبدا استصدار القرارات المطلوبة فإن الحريري الثاني يتعهد بألا تضم حكومته الجديدة أي معارض أو معترض توفيرا للاستقرار!
وبرغم أن المعارضين في المجلس النيابي ظلوا أشتاتا ولم يجتمعوا أبدا على مواجهة الحكومة، ولم يتحمسوا في أي يوم لمجرد طرح الثقة بها، فإن الحريري الثاني يتهم الحريري الأول بأنه لم يواجه بالحزم المطلوب تلك الأقلية المخربة!
3 ـ حكومة البلد المفلس تنفق (وتهدر) ما تعجز عنه حكومات أغنى بلاد الدنيا..
ففي ظل الوضع الاجتماعي والاقتصادي المأزوم، رأى الناس من مظاهر البذخ والاسراف والسخاء في دفع العمولات والسمسرات عن صفقات النهوض الاقتصادي ما يتجاوز أي تقدير،
ربما لهذا استخلصت بعض البعثات الأجنبية التي استقدمت الى بيروت لتقدم شهادة على «الاستقرار» وعلى «التقدم على طريق الازدهار»، أن الوضع الاقتصادي اليوم أسوأ مما كان قبل سنة، وأنه قبل سنة كان أسوأ منه قبل سنتين،
وليس بإمكان من يشهد موكبا واحدا من مواكب الحكام، أو يحسب كم يكلف أهل الحكم الدولة (أي المكلف اللبناني) إلا ويستغرب كيف لم يخرج اللبنانيون إلى الشارع بسيوفهم!
… خصوصا وأن بعض أسباب الأزمة الاقتصادية (في ما عدا الهدر) مفتعلة ولها وظيفة سياسية تتصل بالنكايات والأحقاد المتبادلة بين الرؤساء والكبراء الذين إذا ما اتفقوا دفع اللبناني أكثر وإذا ما اختلفوا دفع ذلك المسكين أكثر من الأكثر!!
ü ü ü
تبقى الاشارة الى أمرين «عارضين»:
الأول ـ انه في ظل تهاوي مشروع التمديد المرتجل والمستعجل لرئيس الجمهورية فلا أقل من مكافأة داعيته الأول (والأخير؟!) رفيق الحريري بالتمديد له «ولايـة جديدة» على رأس حكومـة متضامنة ومتماسكة..
الثاني ـ انه أما وقد تجلى العجز العربي العام عن إنقاذ ما تبقى من عروبة القدس، ولو نظريا، فلا أقل من تأمين النجاح لمهمة إنقاذ رئيس الحكومة اللبنانية من… حكومته!
والحمد ” ان التوفيق قد حالف المخلصين في سعيهم فأنجزوا هنا وعوّضوا بعض القصور هناك وهنالك!