لم يسبق لحكومة في لبنان أن حظيت بمثل هذا التأييد الدولي والعربي الذي كثيراً ما اتخذ طابع التحدي لمن يعارضها أو يطعن في شرعيتها أو صحة تمثيلها للأكثرية المنضوية تحت لواء ثورة الأرز .
.. وهو تأييد كان واسعاً على الدوام، ولكنه أخذ يتعاظم مع تفجر الحرب الإسرائيلية على لبنان ثم بلغ ذروته مع احتدام الخلاف بين الأكثرية والأقلية بما تعذر معه الاستمرار معاً فاستقال الوزراء الستة كحركة تتجاوز الاحتجاج إلى محاولة إعادة صياغة هذه الحكومة بما يضمن للمعارضة المشاركة الفعالة فيها من خلال تمتعها بحق النقض (الفيتو) على ما لا يمكنها القبول به.
وبرغم أن الدول، أجنبية وعربية، تعرف باليقين أن المعارضة تتمتع بقوة تمثيل واسعة لا تقل بأية حال عن شعبية الأكثرية ، بل لعلها أعظم اتساعاً، فإنها واصلت دعمها المطلق للحكومة… بل هي قد اندفعت به بعد خروج المعارضين إلى ذروة التحدي، موحية بأنها هي المستهدفة بالاعتراض، وبالتالي فهي المعنية بالرد أكثر من رئيس الحكومة وقادة التيارات السياسية الممثلة فيها.
تصرفت كبريات الدول الغربية بقيادة الإدارة الأميركية ومعها الدول العربية ذات التأثير وكأنها تخوض معركة فاصلة في مواجهة الحلف الإيراني السوري على أرض لبنان، لاغية بذلك شرعية المعارضة، متجاوزة مدى تمثيلها لجمهورها العريض جداً والذي لم يكن بحاجة إلى شهادة مهرجان يوم الجمعة الماضي لتأكيد اتساعه وتأثيره الشعبي الراجح.
ومع هذه المواقف الحاسمة بدا وكأن دائرة الأزمة قد أقفلت على لبنان واللبنانيين، وأن لا سبيل إلى كسر هذه الدائرة إلا بانفجار… وقد عجّل ذلك كله في تأجيج الخلاف، الذي كان لا بد أن يتسم بطابع طائفي بل مذهبي، وأن يسود من ثم مناخ ينذر بالفتنة، التي لا ينفع في صدها أن نكتفي بإنزال اللعنة على من أيقظها.
ربما لهذا اقتصرت مهمة عمرو موسى، خلال زيارة اليوم الواحد إلى لبنان، على الاستماع إلى وجهات نظر الأطراف جميعاً، في محاولة لاكتشاف المساحات المشتركة، بعد، بين الأطراف الذين يتمدد خلافهم حول صيغة الحكم وبرنامجه إلى الشارع الذي انقسم الآن إلى شارعين يفصل بينهما الجيش المنهك بالمهمات الثقيلة الملقاة على عاتقه والتي تشمل كامل الأرض اللبنانية وليس فقط موقعه الطبيعي على الحدود مع العدو الإسرائيلي.
إذن فبين الحكومة والمعارضة قوة فصل تتمثل في حجم التأييد الدولي العربي الذي أنشأ خندقاً بين الطرفين لا مجال لاجتيازه إلا بإنشاء جسر فوقه لإعادة الوصل بين الحليفين السابقين اللذين باتا الآن خصمين سياسيين يواجه بعضهما بعضاً: أولهما متمترس بالسراي ذات الحصانة والثاني يتمترس في الشارع الذي نعرف أين يبدأ ولا نعرف أين ينتهي.
من ينشئ هذا الجسر ومتى؟!
لم يكن في طاقة الأمين العام لجامعة الدول العربية أن يتنطح منفرداً لمثل هذا الدور. فهو يعرف أن قوته هي بقدر ما تمنحه الدول المعنية من التفويض، فإن لم ترغب، لهذا السبب أو ذاك، لا تتبقى لديه إلا مشاعر الأخوة والنوايا الطيبة والدعوات الصالحات… مع شيء من الغيظ من هذا الشعب الذي لم يتعلم من تجاربه السابقة، وهي مريرة، كيف يحصّن داخله .
وكان بين ما حدّ من اندفاع الأمين العام أن المواقف الرسمية التي أعلنتها بعض العواصم العربية مؤخراً قرئت على أنها انحياز إلى الحكومة في وجه معارضيها، إما لأسباب سورية ، أو لأسباب إيرانية ، أو لأسباب مشتركة تجاه الدولتين المعنيتين.
ولأن عمرو موسى يقرأ النوايا، فهو فضّل أن يدقق في هذه المواقف وهل يقصد بها دعم الحكومة (ومن معها) بما يمكنها من التفاوض من موقع القوة، أم أنها مقدمات لاشتباك مع المحور الإيراني السوري؟!
في التقدير العام إن ساعة التفاوض قد اقتربت، ولذا فإن كلاً من الأطراف المتواجهة يرفع سقف شروطه الآن ليمكنه المساومة غداً فيأخذ ليعطي،
لكن من أين ستبدأ القراءة.. وهل ستكون عراقية أم فلسطينية أم لبنانية ؟!
وماذا لو تأخرت القراءة، ليترك لريح السموم التي تهب من العراق تحت الاحتلال الأميركي أن تنقل تجربته الدموية إلى ما جاوره من أقطار، فتتحوّل الخلافات السياسية التي تبدو في ظاهرها محدودة وتتصل حصراً بالسلطة إلى مشاريع حروب أهلية صغيرة يضبط إيقاعها على ساعة المساومة حول أسباب اطمئنان الأنظمة المعنية جميعاً، والتي تفترض أن مركز هذه الساعة هو الساحة اللبنانية ؟!
ولقد عاد عمرو موسى إلى القاهرة عله يستخلص فيها جواباً عبر محاورات داخلية ستبدأ اليوم، وعلى هامش اجتماع اللجنة الوزارية العربية المعنية بالعراق.
فلكي تعرف ماذا سيجري في بيروت، هذه الأيام، عليك أن تعرف ماذا يهيأ ليكون في بغداد التي تختصر عواصم كثيرة الآن، أو انطلاقاً منها..
.. وتلك هي المسألة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان