لكأننا على مسافة قرن أو يزيد من ذلك اليوم القائظ من آب 1990 حين انفتح الباب للطوفان فسرعان ما غمر الأرض العربية جميعد في ليلة مثلجة من كانون الثاني 1991، قبل خمس سنوات بالتمام.
لقد اختلف كل الناس عما كانوه، الحكّام والمعارضون والرعايا، وأصاب التبديل كل شيء: الأرض، الدول، الحدود، موازين القوى، ثم مصادر الثروة وأولها النفط ووجوه إنفاقها وعلاقة الثروة بالسلطة وكيف وبمن تتمثل فيها.
اختفت فلسطين، القضية والرباط المقدس وآخر ثورة عربية، ساحبة معها إلى عتمة النسيان حقبة النهوض القومي بكل إنجازاتها وإخفاقاتها، ومحوّلة «العروبة» من مشروع حضاري مستقبلي إلى بعض ذكريات ماضي التخلّف البليد!
لقد استولد صدام حسين عالمد جديدد مختلفد عن الذي كان، أو أنه وفّر اللحظة التاريخية المناسبة للإعلان عن ولادة هذا العالم بمعطياته الجديدة والغريبة وغير المألوفة والتي تكاد تبتدع شرعة جديدة وشروط حياة جديدة لإنسان القرن الحادي والعشرين.
ما أكثر ما اخترع صدام حسين، وما أكثر ما ألغى!
إنه يستطيع الآن أن يدعي أنه قد أنجز ما لم يستطعه أحد قبله ولن يقدر عليه أحد بعده،
ـ فهو قد غزا الكويت فألغى العراق،
ـ وهو قد هدد بضرب المصالح الغربية، والأميركية أساسد، فوفّر فرصة ذهبية ونادرة حتمد لعودة جيوش الاحتلال الغربية تحت العلم الأميركي هذه المرة، إلى المنطقة، بأراضيها الشاسعة وبحورها العديدة وأجوائها الصافية على مدار السنة!
ـ وهو قد أطلق رصاصة الرحمة على «منظومة المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي العظيم» من خلال إجباره على مواجهة تحدٍّ لم يكن مستعدد له ولم يكن ليخطر له في بال، لا في المكان ولا في الزمان ولا في الذرائع والتبريرات.
ـ ثم إنه أطلق بضعة صواريخ على إسرائيل، مع الوعد بإحراق نصفها، فإذا هو يلغي العرب جميعد ويحرق ثروتهم المختزنة وأرصدتهم السائلة، ويفتح البوابات العربية كلها للسلام الإسرائيلي في شرق أوسط جديد تهيمن عليه بالكامل،
كذلك فقد استطاع مع «صحبته المختارة» التي سارت في ركابه «قائدد» و«بطل تحرير»، أن يعهِّر كلمات مثل الثورة والتحرير والوحدة، كما لم يحصل عبر مختلف الحروب الشرسة التي شُنت على هذه الآمال والطموحات المشروعة لأمة مقهورة بالهيمنة الأجنبية والطغيان الداخلي المعزز بالتجزئة والكيانية التي تستدعي الحماية الأجنبية وتستولد الفتن بين الأعراق والعناصر المكوّنة للأمة أو الشعب، سواء أكانت «قومية» أم «دينية» أم «طائفية» أم «مذهبية».
لقد دمّر الواقع والحلم في آن،
دمّر واحدة من أقوى الدول العربية وأغناها، موفرد الذريعة لمن كان يرغب في الفرار من الميدان، لأن يخرج الآن من «العرب» وعليهم، وكأن الانتماء إليهم هو الذل والهزيمة والتخلف والقمع، والتبرؤ منهم هو الطريق إلى التقدم والعزة واقتحام العصر.
كذلك فهو قد دمّر «الاحتمال» و«الممكن»، إذ كان العراق احتياطيد عظيمد لدعوة التحرير، أو حتى للراغبين بتسوية تستحق تسمية «سلام الشجعان»، المتداولة بغزارة وبكثير من التجاوز الآن.
أما الأحلام فقد حوّلها إلى كوابيس، وإلى اتهامات بالخبل والهبل والقصور العقلي، توجه إلى كل مَن يحملها الآن أو كان يحملها ذات يوم،
ü ü ü
هل هو فرد واحد هذا الصدام حسين؟!
أم أنه حصيلة دهر من الأخطاء والتراجعات والطفرات والمغامرات المدمرة؟!
هل هو شخص أم نموذج لنمط من الفرديات والديكتاتوريات القمعية التي تحصر السلطة والثروة بيد شخص واحد، بل بمزاج شخص واحد، وتخوله حق إلغاء الناس جميعد واختزالهم بذاته وحده لا شريك له.
يقول جورج بوش إنه أخطأ وأساء تقدير قوة صدام حسين فتسبّب باستمراره حاكمد فردد بينما شعب العراق يغرق في وهدة الفقر والضياع وافتقاد وحدته الوطنية ووحدة أرضه ومستقبله.
على أن الخطير أن الأمة جميعد هي التي تدفع ثمن صدام حسين. تدفعه من سمعتها، وتدفعه من أهليتها للحياة ومن حقها بغد أفضل.
إنها تدان بصدام حسين، ولا تحاسب عليه باعتباره الشذوذ والخروج عن القاعدة، بل بوصفه «المثال» للحاكم العربي. إنها تحاسب عليه في العراق كما في كل قطر عربي آخر. وتحاسب عليه في حاضرها كما يحسم من مستقبلها رصيد أخطائه وخطاياه.
ü ü ü
«منجزات» صدام حسين لما تنته: فلولاه لما كان مؤتمر مدريد الذي ذهب إليه العرب بمذكرات جلب أميركية،
ولولاه لما كان التيه الفلسطيني الجديد واتفاق أوسلو الذي أخذ القيادة إلى «الداخل»، وأخذ فلسطين ليُلحقها بإسرائيل،
ولولاه لما كان وادي عربة والالتحاق الهاشمي بالمشروع الإسرائيلي، مع أوهام باستعادة العرش الهاشمي في العراق المحطوم الإرادة والكيان،
ولولاه لما كانت هذه الهرولة التي يتبارى في ميدانها ملوك ورؤساء وأمراء ومشايخ وأشباه حكام في ما بين المغرب الأقصى والخليج واليمن السعيد،
كأنهم كانوا ينتظرونه فوافاهم في الموعد. ألم تكن غالبيتهم معه في «تحرير» الكويت، فإذا هم الآن قد سبقوه إلى تل أبيب؟!
ولولاه لما كان هذا الصلف الإسرائيلي الذي لا يستطيع الأسلوب الناعم لشمعون بيريز تمويهه، في موضوع الانسحاب من الجولان السوري والجنوب اللبناني، تتويجد «للمسيرة السلمية» التي ترعاها واشنطن لضمان مستقبل الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.
وأخيرد فإن صدام حسين مرحلة كاملة من الضياع العربي والهرب من مواجهة الذات والأخطاء والارتكابات والقصور، وليس شخصد بذاته.
ومن هنا يجيء العقاب جماعيد،
ويضيع جيل آخر من الأجيال العربية في محاولة التكفير عن خطأ السكوت على الخطأ والانقياد له.
والمهم إنقاذ المستقبل، وهي مهمة تكاد تكون الآن مستحيلة،
ولعلها تنتظر نهاية حقبة صدام حسين، الفرد والنموذج.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان