تخرجتا في وقت واحد وبالشهادة نفسها وتقدمتا للعمل في مؤسسة كنت أديرها. عملتا بالقرب مني خلال فترة الإعداد لشهادة أعلى. كنت في مثل عمرهما وإن أكبر بسنوات قليلة. مرت فترة التدريب بيسر. لم تكلفاني جهداً مضافاً أو مشاق غير متوقعة. لاحظت منذ البداية أنني أدرب فتاتين تشتركان في رغبة قوية لمعرفة المزيد عن كل شئ يقال أمامهما أو كلفتهما، أنا وغيري، بقراءته. كثيرا ما كانت إحداهما تعود بعد الدرس لتطلب شرحاً أعمق وتأتي الأخرى لتعرض رأياً نقدياً في موقف اتخذته أو مقال كتبته أو محاضرة ألقيتها. أجادا معاً وتفوقتا ولفتا اهتمام أشخاص لهم مكانة متميزة في حقل أو آخر من حقول المعرفة. أذكر أن أحدهم جاء إلى مكتبي ليستأذن في حجز إحدى الفتاتين فور انتهاء التدريب لتعمل معه أو تحت إشرافه. ثم جاءت سيدة معروفة في الوسط الثقافي، وبعد أن طلبت من عامل البوفيه إغلاق باب الغرفة بعد تقديم القهوة، نهضت من مقعدها ومشت نحوي حتى اقتربت جداً ثم انحنت لتهمس في أذني ببلاغ أنها نجحت في تدبير منحة دراسية للفتاة الأخرى، وإنها تحاول تدبير منحة ثانية لزميلتها وهي حريصة ألا ينتشر الأمر فيتدخل فيه من تسميهم أعضاء وأنصار جماعة الثلث المعطل. خلال الأسبوع نفسه اتصل رجل “كبير المقام العلمي” يسأل إن كان يمكن للفتاة التي تجيد الفرنسية تخصيص ساعات من وقت فراغها لمساعدته في الانتهاء من كتابه الذي طال انتظاره، مبدياً استعداده تقديم مكافأة مجزية أقترحها أنا وأعرضها بنفسي على الفتاة.
•••
انتهت دورة التدريب وتسلمتا العمل وصارت لهما شعبية في أوساط الأنشطة البحثية والسياسية. بعد فترة قصيرة حصلتا على المنحتين وسافرتا معاً وعادتا معاً لتلتحقا بالعمل في مؤسسة إقليمية يشرف على إدارتها الرجل الكبير الذي سبق أن استفاد من خبرة واحدة منهما. قبل استلام العمل اتصلتا بمكتبي تستأذنان في زيارة مجاملة بوعد ألا يجوران على وقتي ووقت المكتب. رحبت باقتراح الزيارة وأذكر أني اشترطت أن تبدأ الزيارة عصراً، أي بعد أن يتحقق الهدوء، وأن تستمر إلى ما بعد تناول العشاء، وأن يتخللها جلسة أسمع فيها منهما سرداً مفصلاً لما اكتسبتاه من خبرات خارج ساحات الدرس وبخاصة في مجالات العلاقات العاطفية، ولتقييم التجارب، تجربة الإقامة في الخارج بعيداً عن الأهل، وتجربة الدراسة الجامعية في مجتمع آخر، والأهم تجربة هذه العلاقة الفريدة بين فتاتين التصقتا الواحدة بالأخرى لأكثر من عشر سنوات متصلة بما فيها الفترة التي قضيتاها معي.
•••
بعد العشاء انتقلنا إلى غرفة مريحة. اخترت للجلوس الأرائك المتواجهة. ابتسمت الفتاة الأكبر وهي بالمناسبة ليست أكبر وإنما أوحت دائماً بهذا الاحتمال. وقالت هذا بالضبط ما كنت تفعله معنا للحصول على اعترافاتنا، هناك اختلاف بالتأكيد. فهمت أننا هنا لندلي بشهادات وليس باعترافات. وعلى كل حال كلتانا هنا لم تتعود أن تخفي عنك سراً. حاولنا بلا شك نحن ومعظم الزميلات العاملات كما الزائرات ولكن كنت دائماً أسبق إلى معرفة ما في صدورنا. أذكر أننا التقينا ذات صباح عند مدخل عمارة المكتب، سألتني كعادتك عن أحوالي ومزاجي وهنأتني بمناسبة عيد ميلاد أمي. شكرتك وأنا متلهفة على الوصول إلى الغرفة التي أعمل منها لأتصل بأمي مهنئة بعيدها. على فكرة، انكشافنا عليك بهذا الشكل جعلك فرداً من العائلة، عائلتي وعائلات كل الزميلات والزملاء. جعلك أيضاً صديقاً شخصياً، صداقة لم تطلبها ولم نحلم بها ولم نتحدث عنها أو نناقشها في أي يوم من أيام علاقاتنا المديدة. كانت، وأظن أنها ما تزال، كالصمغ السائل تلتصق بفضله الأشياء وتبقى حرة لا تفقد الكثير من خصالها ومعالمها.
•••
تخلصاً من حرج المجاملة حتى وقد صدرت إلى هذا الحد ناعمة وتلقائية توجهت بالنظر والحديث إلى زميلتها الصغيرة، وهي ليست أصغر وإن قادتنا تصرفاتها إلى اعتناق هذه الصفة عنها. هي أطول قامة من زميلتها واشتهرت بين الأقران والقرينات بشعرها الأسود اللامع والمنسدل دائماً في نعومة وبراءة حتى كتفيها. كان على هذا الوضع قبل عشر سنوات وعادت من الخارج وما يزال عند مكانه. لم أبخل بملاحظاتي فسألت مادحاً كيف أنها حافظت على هذا الشعر وعلى عينين بسواد محبب، لم يقترب منهما كحل أو غيره من الملونات. أجابت كعادتها بكلمات قليلة ولكن شافية وصادقة، قالت “تعرفني، تعرف عني أنني لا أضع الألوان والمساحيق. أتعامل مع الطبيعة باحترام، أحترمها فتحترمني. أعرف تماماً أن يوماً سيأتي يتجاوز أحدنا حدوده فيرد الآخر وقد نفد صبره”.
أخذت رشفة من مشروبي وانتظرت حتى فعلتا بالمثل مع المشروب الذي قامت كل منهما بإعداده لنفسها. استأنفنا الحديث. فتحت موضوع العلاقة مع الجنس الآخر خلال سنوات الإقامة في الخارج. سألت عن الزواج وقد نما إلى علمي أنهما تزوجتا من أجانب. تطوعت للحديث الزميلة التي راح الظن يصورها لي على أنها الأكبر وهي ليست الأكبر، هي الأقصر طولاً والأقوى صوتاً. نظرت إلى صديقتها نظرة فيها عتاب المحب وقالت هي تزوجت. لم تأخذ بنصيحتي فتزوجت من رجل لم تختبر عواطفه وعواطفها بعناية وصبر. قاطعتها زميلتها الأصغر وهي ليست أصغر ووجهت حديثها ناحيتي. قالت “هو أكبر مني بما يزيد على عشرين عاماً. درسني القانون الدولي. أظهر لي منذ اليوم الأول إعجابه بقراءاتي المكثفة في الموضوع الذي تخصص فيه وطلب مساعدتي كباحث مساعد في دراسة كبيرة يقوم بها تؤهله مرشحاً لجائزة نوبل. انبهرت وشعرت بالفخر الكبير. كنا في مرحلة من مراحل العمل معه نقضي الأيام بلياليها في القراءة المشتركة والنقاش، نكاد لا نفترق. عاملني بكل احترام. كان يقول مزهواً بنفسه أنه سيحصل إن آجلاً أو عاجلاً على جائزة نوبل ولكن يتمنى لو عاش ليراني وقد ارتديت أنا نفسي روب الترشيح “لأنك أكفأ وأحسن من درست بل أوفر قدرة وذكاء أكاديمياً وفكرياً من أي زميل دارس لهذا الفرع من القانون الدولي في كل الجامعات التي اختلط بأساتذتها”. توقفت لتلتقط أنفاسها فتدخلت صديقتها لتكمل الرواية بنفسها.
•••
قالت “هكذا بدأت سيطرته عليها. مشكلتي أنا مع هذا الرجل وعلاقته بصديقتي أنني أنا نفسي كنت واثقة أنه صادق في كل ما فعله من أجلها. كنت حريصة طول الوقت على ضرورة التأكد من أن العلاقة بينهما ما تزال تدور في فلك العلم والقانون الدولي ولم تنتقل إلى عوالم العاطفة المتبادلة أو من طرف واحد حتى جاء اليوم الموعود. عادت من صومعته في منتصف الليل زائغة العينين وعلى غير عادتها دخلت غرفتها متعللة بصداع خفيف ورغبة في النوم. أعرفها وأحياناً أكثر مما أعرف نفسي، ولا أخفي عنك ما لم أعترف به أمام إنسان آخر، أحبها أكثر من حبي لأي شخص آخر، بل أحبها أكثر من حبي لنفسي، وهي تعرف ذلك. بعد مرور ما يزيد على ساعة لم أقدر خلالها على النوم وبالي مشغول بصديقتي. نهضت من فراشي وذهبت إلى غرفتها. فتحت الباب في هدوء فوجدتها متيقظة ومتوترة. تعللت بأن وجدت الضوء في غرفتها لم ينطفئ فأحضرت معي قرصين من البنادول ودورق ماء. حدث ما توقعت، رأيتها تلقي بنفسها في أحضاني وشعرت بدموعها تبلل قميص نومي. نجحت في تهدئتها، رحت أمسح بيدي على شعرها بينما هي تتمتم بما يشبه الكلمات. فهمت منها أن الأستاذ العظيم قال لها أثناء مناقشة عميقة حول الآثار المترتبة عن انحسار الالتزام بالقانون الدولي في العلاقات الدولية، قال أنه يحبها ويتمناها زوجة له وهو المنفصل قانونياً عن زوجته السويسرية منذ عامين. استمرت تتمتم. أنها المرة الأولى التي تسمع رجلاً كبيراً في العمر والمكانة ومتزوجاً يعلن حبه لها. للوهلة الأولى ظننت أنه ربما صدر عنها بدون وعي منها رد فعل قوي، ولكن غير مناسب، لمدحه المتكرر لعملها وإشادته بتفوقها الأكاديمي والشهرة التي حازتها في دوائر القانون الدولي والمحاكم الدولية. قدرت أن الأمر اختلط عليها فتداخلت العواطف مع الواجب مع الامتنان فأجابته بأنها سعيدة بعرضه وتوافق على أن يتزوجا كما أراد في اليوم التالي. كتمت الغصة في حلقي. حبيبة عمري وصغيرتي تتزوج وبرجل غير مناسب. هي بالتأكيد لا تبادله الحب، قلت لنفسي وكررتها مراراً. همست في أذنها بالسؤال، هل تحبينه؟ لم تجب مباشرة. سمعتها تتساءل هامسة وكأنها تنتظر إجابة من داخلها، وكيف يكون الحب؟”
استطردت المتحدثة موجهة الخطاب لي، “تعرف من تجربتك معنا ومن تجاربك الأخرى ومن درايتك العميقة بعواطف المرأة في كافة مراحلها العمرية أن هذا النوع من الزواج ليس من طبيعته أن يطول. أؤكد لك على كل حال ودرءاً للشبهات المحتملة أنني لم أتدخل بأي صورة من الصور لإنهائه. لم أشجعها على الخروج منه ولكني أيضاً وبكل الصراحة الممكنة لم أشجعها على الاستمرار فيه. ها هي أمامك اسألها إن شئت”.
استدرت قليلاً لأواجه صديقتها وصديقتي، رأيتها والحب لصديقتها طاغ والدموع تملأ مقلتيها. اعتدلت في جلستها بعد أن مسحت دموعها ولملمت الخصل المتمردة في شعرها ونظرت لزميلتها ثم نظرت تجاهي، وبصوت ناعم كالكلمات التي ينطق بها قالت “أدركت في الزواج كم أنا أحترم الرجل الذي صار زوجي، أحترمه وأبجله، ولكني أدركت أيضا كم أنا أحبها، أحب صديقتي، ولا أستطيع العيش بعيدا عنها”.
ينشر بالتزامن مع موقع “بوابة الشروق“