لا بد من النسيان، أي ممارسة التخلي، أي الخوف من الحقيقة. النسيان طاعون ديني وسياسي وأخلاقي. لبنان مدمن على التناسي، أي النسيان عن سابق تصور وتصميم. استبدال الوقائع بحشرات تثرثر كلاماً بائداً. المهم، أن نعيد هندسة الماضي، بقناعة الصمت.. الماضي الحقيقي الصحيح، يُدمِّر. البناء على الجبن يقين مشترك، بين الطوائف في لبنان.. أما في منظومة المقابر العربية، فلا يجوز استحضار الأموات والقتلى والمساجين والارتكابات. باختصار، نحن والعرب معنا، نريد ماضياً رمادياً. هو ماضٍ برسم لغة العميان.
لمَ كل هذا الكلام؟
فقط، لأن لبنان وأشباهه يقتاتون من الدجل والعمى والاطمئنان إلى سدة المصالح والثروات والمنهوبات.. والأهم، الخوف من ثمن الدم.
نشرح: هل من الضروري أن يكون عندنا قضاء جدي، يُعيد للحياة نصابها الأخلاقي؟ هل يدركون أنه تم اغتيال الضحايا مجدداً وتبرئة القتلة بالنسيان؟
نشرح أكثر: القضاء يُمارس الإعدام، بالصمت وتغطية الجريمة، ولا تعوزه آلة الاجتهاد، التي هي من نسل “ماريكا” وفاضلات شارع المتنبي. القضاء مفطور عندنا على الطاعة، وفي السجن العربي الفسيح، القضاء حذاء في خدمة مقام السلطان والحكام والأمن والأمان.
نسأل: لماذا لا يفتح ملف المجازر والجرائم والإبادات اللبنانية، إبّان حروب “الأخوة الأعداء”. هؤلاء القيمين راهناً، على حراسة العفو، عن كل المجرمين، الذين ما زالوا على قيد الحياة وعلى “قبور الموت”. أبشع ما في لبنان قضاؤه. ولكنها ليست البشاعة الوحيدة.
ثم نسأل عن الذين قُتلوا غدراً. أنا عاجز عن تذكر ونبش الذين تم اغتيالهم حتى الآن: سمير قصير قتله قلمه. القول والكتابة بالحبر، تواجهه السلطات بالدم. الحبر السلطوي لونه أحمر. من قتل جبران تويني؟ لا أحد. ولو!!! أليس عندنا أمن “بيفلِّي القملة”. قيل لنا إن أجهزة الأمن وما تُزوّد به من وسائل هي الأكثر حداثة، يعرف اللبنانيين، حتى فراش الأزواج. الأمن، كالقضاء، مثل إمرأة قيصر. عفيفة إلى درجة اكتمال الإحالة من العلنية الدامغة، إلى السرية المطبقة.. من قتل جورج حاوي؟ “إسرائيل”؟ “النظام العربي”، أو.. أي كان. أين التحقيق.. نكتة لا بد منها. القضاء يكتب بالماء، يضاف إليه ألوان كثيرة، غب الطلب أو غب التغييب، ودفن القضايا في إضبارات العفن وفي زنزانات الحقائق والجرائم.
ثم، من قتل كلاً من: وليد عيدو؟ أنطوان غانم؟ فرنسوا الحاج؟ وسام الحسن؟ محمد شطح؟ لقمان سليم؟ كمال جنبلاط، معروف سعد؟ طوني فرنجية؟ سليم اللوزي؟ رياض طه؟ واللائحة تطول..
الإحصائيات غير الرسمية تشير إلى حصول 95 محاولة اغتيال. هناك كلام سري آمر: “هذا بريء، لن أسمح لأحد أن يمسه”.. أو ليكن العفو عن القاتل والقتلة.
ثم نسأل: جريمة الزمن اللبناني الملبد بالخيانات المتبادلة، من يمنع التحقيق فيها؟ جرائم عصر فادح. أبرياء صاروا شظايا. الأمكنة رماد. المرفأ حديد تلوَّى وجدران سجدت، وأبنية ترمدت، وأناس، فحم أناس، من كل جنس ولون وطائفة ومن جنسيات كثيرة، وحتى الآن، ممنوع فتح الملف. فلينس الملتاعون أحبتهم. هذا ليس وطناً، بل مقبرة للقتلى والأحياء الضعفاء. قيل لي في جلسة عائلية، ما لا أستطيع قوله. ختم مداخلته بالنصيحة الذهبية: “إنسَ”. إنما، كيف ننسى بيروت وشوارعها وأشلاءها.. وماضيها وحاضرها ومستقبلها؟
خلاصة المجزرة: لا تسأل. عليك أن تتمرن على العيش مع الهزيمة والجريمة والقتل، وأن تُمجّد قتلة يتبؤون سدة السلطة السياسية. من المفضل أن يُصار إلى فضح القضاء والأمن ووزارات الأخطاء التي تعاملنا كالخصيان. (كلن يعني كلن). ما زالوا مصرين على منع الكشف وطمس الحقيقة والمعرفة.. ولكنهم يا ناس يعرفون الجريمة والمجرم. ثرواتهم السياسية عمارة من النفاق والنهب والادعاء والتحريض الطائفي الكريه الذي ينتهي عادة بلقاء “الأخوة الأعداء”.
حسناً. لبنان ذو طبيعة خاصة.. أو بالأحرى، له خصائص يلزم الانتباه لها وحمايتها. أهمها: “ممنوع تعرف”. وإذا عرفت “سكوت” وإلا..
من الضروري أن نسأل عن المساءلة. يا حيف. من يستطيع ويتجرأ على محاسبة “زلمة” البيك أو الزعيم أو الأستاذ أو القائد أو الجنرال، أو.. شياطين القبض على الأموال والأرواح؟ وجماعات الزحف على البطون.
لا تسأل: لكل سؤال أجوبة و.. عقوبات. تفضل السلطة دائماً، الإقناع بالعنف..
من يحكمنا؟
من يحمينا؟
من يرأف بحالنا؟
من يسأل عنا؟
من يدمر المؤسسات؟
أي حرية يتنعم بها اللبناني؟ الحرية علكة فقط لا غير.. مدمنون نحن على تصديق الكذب الفاجر لأولي السياسة والمال والطائفة والعمالة؟
عبث. لا تسأل. 15 عاماً من القتل والتدمير والاغتيال والتصفية والإحلال، والاحتلال، ولم يسأل أي من قادة القتل والمذابح سؤالاً واحداً: هل غسلتَ يديك من دماء اللبنانيين؟ من دماء أهل الدامور، وتدمير الوسط التجاري، والخطف على الهوية، والتصفية العلنية، والتبديع الإذلالي؟
لقد غسلنا لهم أيدينا، واستغليناهم في مجالس وزراء ومجالس نواب، من دون كلمة تعزية “لشهداء العبث الطائفي والمذهبي والعقائدي”.. وزعماء الادعاء الوطني والقومي والـ.. إلى آخره.
الأسوأ من النسيان، هو التناسي. أي إخفاء الجريمة والتكتم عن المرتكب. قلة قليلة تطوف بدماء أبنائها طلباً للعدالة. قلة متعثرة تُعرّج في الشوارع مطالبة بحفنة من الودائع.
سؤال: أين رياض سلامة؟ غريب. الوفاء فضيلة. كل المرتكبين نهباً وبهوره، يحمون قائد أوركسترا النهب.
قيل، والقول لأحد أنبياء الشعر:
لا يلام الذئب في عدوانه / إن يك الراعي عدو الغنم.
رياض سلامة هنا وهناك وفي كل مكان في لبنان. الأوفياء لخدماته الجزيلة أفرجوا عنه، وطاردوا حفنة مودعين، يُطربون بأصوات الفراغ والصمت!
اللقب الجديد لرياض سلامة هو ترجمة حية لقول رفيع: لا تعبدوا ربين الله والمال. مسكين هو الله. المال، هو الله المعبود، والصيارفة هم كهنته وحماته.
ورياض سلامة ليس وحيداً. هو أحد آلهة الجمهورية. مطوَّب مراراً، لبنانياً ودولياً و.. سماوياً ودينياً. من مثله؟ لا أحد.
أما بعد؟
لا جواب واحداً على سؤال واحد؟ من سرق أموال المودعين؟ حتى الآن لا أحد. ماذا كانت ردة فعل الناس؟ غضب منخفض الصوت. من يسأل عن قتلى (شهداء) إيقاظ الشارع من غفوته؟ لا أحد. الجرحى للنسيان.
أين المساءلة؟ كيف يتحوَّل القضاء إلى جرصة، والاعلام إلى بورصة؟ وزارة المال، من ارتكبها ليلاً نهاراً؟ وزارة الصحة ومافيات الدواء؟ الجيش “الصامد” لا تهزه. واقف على شوار الطوائف.
علينا أن نقتنع. لسنا وطناً. الوطن مستحيل. الراهن هو الاحتلال الداخلي. فسّروا لنا، كيف لمطلوبين للقضاء، أن يعفو عنهم “نواب الأمة” أو عفواً، نوائب الأمة.
نحتاج إلى قرن نضالي تام، لننفض عنا العفن السياسي. ولنقنع الناس، بأن لبنان كله متهم بأنه معادٍ لأبنائه. أما الأبناء، ولكي ينجوا من العقوبات، لجأوا إلى إتقان الطاعة.
لا تحلموا بتغيير، أو بثورة، أو بإصلاح. هذا من المستحيلات المستعصية.
ماذا بعد؟
لم يعد اللبناني بحاجة إلى دولة وسلطة. تم تحرير الكهرباء من واجباتها، لقد قتلت بقرار: نفذ ولا تعترض. برافو. الكهرباء ملك أمراء الموتورات.. المشافي الحكومية: يا حرام. جريمة فاخرة. المستشفيات الخاصة تأمر ولا تقبل بالنصائح حتى. المدارس والجامعات اللبنانية. إنسَ. زمن الريادة العلمية والإبداعية تم ذبحه من سنوات وعقود. الإدارات: إذا سمع بها علي بابا، تذكر الأربعة مئة ألف حرامي، وربما أكثر كثيراً.
أما المستحيلات المصانة فهي: لا تفكروا بوطن. هذا ملجأ للفقراء، والأغبياء، وموطن قدم لغزوات المال والأعمال وتجار العقارات والنفط و.. إلى آخره.
لبنان تعرى بالكامل. كان لبنان الوليد، واعداً. وأدوه مراراً. النواب؟؟؟ استبدلوا الكلمة. نوائب أفضل وأصدق..
عبث. الزمن الماضي خرقة وممسحة. الزمن الآتي: قناصو فرص وبائعو ذمم. غداً، يصير التسكع على أبواب المصارف، طقس ديني.
إنما.. إنما.. إنما، لست يائساً. تبقى لنا فسحة وسع السماء معاقرة الجمال بالفنون. من يقوى على الإبداع لن يدوسه النسيان.