لعل اللبنانيين كانوا الأسرع والأصدق في التعبير عن عدم أسفهم لسقوط تجربة حماس في السلطة، وارتكابات عناصرها أو المتلطين بشعارها أو سلطتها، وهي الارتكابات المهينة للتاريخ النضالي العريض للشعب الفلسطيني الذي حمل راية التحرير وقدّم شبابه أرواحهم بالآلاف وهم يحاولون استعادة حقهم في أرضهم وإقامة دولتهم المستقلة فيها.
ذلك أن اللبنانيين المثقلين بهمومهم المصيرية، والذين يعيشون في قوقعة مخاوفهم متعددة المصادر ومتنوعة الأسباب، وإن ظلت الفتنة الهاجس الأعظم، قد تعرّضوا لغزوة تحمل الشعار الإسلامي في مخيم نهر البارد وعبره، فضلاً عن مغامرات دموية أخرى لتنظيمات شقيقة أو مشابهة ل فتح الإسلام ، فكلّفتهم العزيز من الأرواح وأثقلت عليهم بخسائر معنوية ومادية تتجاوز قدراتهم… ثم أنها هدّدت علاقاتهم بأشقائهم الفلسطينيين، على وجه الخصوص، وبالتحديد منهم من يحملون الشعار الإسلامي أو يتلطون به.
ثم إن اللبنانيين قد رأوا ما رآه غيرهم من العرب، أساساً، وسائر المتعاطفين مع القضية الفلسطينية في تجربة حماس مع السلطة في غزة، وما رافق محاولة تصفية الأخوة الأعداء المنتمين إلى فتح من تصرفات يندى لها الجبين ومن ارتكابات تجاوزت في وحشيتها كل حد… وكان منطقياً أن يصلوا إلى الاستنتاج البديهي: إن مثل هذه التنظيمات لا تؤتمن على مصائر الأوطان والشعوب، برغم ادعائها أن الدين الحنيف يستبطن وجدانها ويهديها إلى طريقها السوي نحو أهدافها.
بهذا المعنى، لم يخطئ الرأي العام الفلسطيني، بمن فيه المخلصون وأصحاب الوعي السياسي من المنتمين إلى حركة حماس ، بصورتها الجهادية الأصلية، في تشبيه الخطيئة المميتة التي أقدم عليها السلطويون من حركة حماس في الاستيلاء على السلطة في غزة، وهي صاحبة الحق الشرعي فيها، وبالانتخابات الديموقراطية، بمغامرة الراحل صدام حسين في غزو الكويت واحتلالها بالقوة الهمجية قبل خمسة عشر عاماً إلا قليلاً.
كان الرأي العام العربي، وحتى الدولي، يميل آنذاك إلى مطلب صدام حسين تعويضه عن خسائره الفادحة في حربه على إيران الثورة الإسلامية، التي استطالت لثماني سنوات مرعبة بخسائرها في البشر والعمران والقدرات المادية.
لكن صدام حسين استأخر تلبية مطالبه، فأقدم على مغامرته التي كلفت العرب، بالنتيجة، خسارة العراق، ولجوء أقطار الخليج إلى ما يشبه الحماية الأجنبية.. وباختصار التعجيل في خسارة العرب يومهم وغدهم.
وهكذا فإن محازبي حماس ومناصريها في غزة قد تصرفوا بعمى الرغبة في احتكار السلطة، فارتكبوا كثيراً من الأعمال المشينة، وحقّروا تاريخ نضالهم، وأساؤوا إلى رموز تسكن وجدان شعبهم… بل إنهم لجأوا في بعض ارتكاباتهم إلى التشبّه بالعدو الإسرائيلي، فتصرفوا مثله، وبالأساليب ذاتها، بل وفي المواقع ذاتها.
وها هم يحصدون ثمرة ما جنت أياديهم: لقد انفضّت عنهم أكثرية العرب، كمواطنين، ممّن كانوا يواكبون تجربتهم في خوض الانتخابات، وخضوعهم لآليات الديموقراطية، ومن ثم تسلمهم الحكومة… بل ووقفوا في صفهم ضد الرئيس وضد السلطويين في فتح الذين لم يتورعوا عن الاستعانة على شركائهم بالأميركيين والغرب عموماً، وبالاحتلال الإسرائيلي، قبل ذلك وبعده.
بل إنهم الآن يحاصرون أنفسهم، بخطيئتهم السياسية، بأقسى ممّا تحاصرهم الدول التي كانت تريد لتجربتهم أن تفشل، العربية منها قبل الأجنبية ، و الإسلامية قبل المسيحية ، كاثوليكية كانت أو بروتستنتية.
لقد نجحت حماس في تكتيل القوى المتنافرة والمتصارعة في ما بينها، ضدها، وكتبت بأخطائها السياسية صك عدم جدارتها، بتحمّل مسؤولية السلطة… ولن يأسف أحد على هذا السقوط الذي سيعكس نفسه على طموحات تنظيمات مشابهة في العديد من الأقطار العربية والإسلامية.
ومع أن سقوط حماس قد وفّر تزكية لسلطة فتح إلا أن فلسطين قضية وشعباً قد أصيبت بخسارة فادحة جديدة، من شأنها أن تكشف يأسها من حاضرها وتضعف إرادة الصمود فيها أمام عدوها الذي سيكسب المزيد من المناصرين العرب وهو يضيّق على الفلسطينيين في غزة، ويغدق على السلطة في رام الله ليديم الحرب الأهلية بين الأخوة، بذريعة أنه يساند الشرعية مثله مثل الإدارة الأميركية وسائر من تسبّب في اغتيال السلطة الفلسطينية مع إعلان ولادتها.. في أوسلو!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان