الرواية هي الراوي، تماماً كما أن الشعر هو الشاعر،
وغسان كنفاني كان نسيج وحده: فهو الرواية الراوي، والشعر الشاعر والرسم والرسام والنحت والنحات، والكتابة والكاتب.. كل ذلك من داخل إيمانه العقائدي الذي تزيد فيه الصوفية عن الالتزام الحزبي بغير أن تخربه.
لذلك كان غسان كنفاني فلسطين أكثر مما هو الفلسطيني، وبالتالي فهو ”العربي”، ولأنه فنان متعدد المواهب فإن إنتاجه جميعا جاء مدموغا بهذا الطابع ”القومي” حتى بعدما هاجرت حركة القوميين العرب إلى الماركسية ثم استيسرت حتى تعدت حدود الثورة الثقافية لماوتسي تونغ في الصين.
ثم ان غسان كنفاني كان يعرف انه على موعد مع الموت، لذلك كان يتعجل ان يقول ما عنده، وما أكثر ما عنده، في الوقت المتاح، وهو قصير قصير.
ربما لهذا كتب غسان كنفاني كثيرا جدا، وكتب في مجالات عدة قد تبدو متباعدة، وقد يتعارض الاهتمام ببعضها مع الاهتمامات الأخرى.
لم يضيع غسان كنفاني ساعة واحدة من عمره القصير بغير إنتاج.
ولم يسمح للصحافي فيه بأن يلغي الكاتب، وواءم بين الروائي والقاص، ثم اقتطع من أولئك جميعا بعض الوقت لهوايتي النحت والرسم، محتفظا بهامش بسيط للشعر، أما أوقات الفراغ فقد خصصها لرئاسة التحرير في صحيفة يومية، ولإصدار ملحق أسبوعي عن فلسطين، ولكتابة بعض أدبيات ”الحركة”، بغير ان يخل لحظة بواجباته كمحرر في مجلة ”الحرية”،
مع ذلك كان لديه دائما فائض من الوقت لإنشاء العلاقات وتوطيد الصلات مع الصحافيين الأجانب وشرح وإعادة شرح القضية الفلسطينية لهم، والرد على الحملات الدعائية الصهيونية،
ثم انه وجد متسعا من الوقت لقصة حب رائعة مع ”آني” التي حملت في قلبها الى جانب غسان ”ليلى” و”فايز”، والتي أطلقت روح فلسطين في بلادها الاسكندنافية، فإذا ”عكا” تذيب الثلوج وتستقطب المناصرين والمتعاطفين الذين جاؤوا بالعشرات ليشهدوا للحق وليناضلوا من أجل الحرية لفلسطين والفلسطينيين.
ندر أن جمع كاتب بين فنون الإبداع وفن النقد.
في العادة، يكون المبدع والناقد على طرفي نقيض: ذاك يكتب وعلى سن قلمه الناقد، وكثيرا ما يطعنه بسن القلم ذاك، والثاني يتربص بالكاتب ليهشم أو ليدل على مكامن الضعف في نتاجه. وكثيرا ما تتحول معارك النقد والردود إلى مبارزات تتكسر فيها الأقلام على الأقلام ويفقد القارئ يقينه فينصرف الى ما أحب من النتاج مع تحياته للناقد.
غسان كنفاني بين قلة من الكتّاب جمعوا بين النقيضين: المبدع والناقد.
ربما لأنه صحافي،
ربما لأنه متعجل، يريد أن يفرغ من قول ما عنده،
وربما لأنه لم يكن يجد المساحة الكافية لإبراز ذلك ”الولد الشقي” الكامن فيه، والذي كان يشكل الوجه الآخر لغسان: لا بد من قدر من السخرية لكي تتأكد مأساوية القضية، ولا بد من كثير من الجد لتخطي السياسات والتصرفات والكتابات الكاريكاتورية الرائجة.
وهكذا انطلق ”فارس فارس” من داخل غسان كنفاني، وكتب بالطرف الآخر للريشة، مستولداً الضحك والقهقهة من خلال إعادة عرض النتاج الجديد في صورته الأصلية!
ولقد نشأت منافسة حقيقية بين غسان الأول (كنفاني) وبين غسان الثاني (فارس فارس)، كثيراً ما استدعت تدخل ”قوات الفصل”، لا سيما في ملحق ”الأنوار” الأسبوعي، حيث كان روبير غانم المهوم في بكائيات عشقه يعاني من الالتباس الدائم بين المبدعين، فإذا ناقش كنفاني رد عليه فارس، وإذا ما حاول الامساك بفارس صعقه غسان بنتاج متميز جديد.
أخيرا، أمكن لفارس فارس أن يعود الى الساحة من جديد،
ولا يحتاج الأمر الى تخمين: انها ”آني” العظيمة التي عملت بجهد كي تجمع أو تحرض على جمع كل الكتابات النقدية لغسان كنفاني.
ولقد تولت دار الآداب إصدار هذا الكتاب الجديد معززا بمقدمة نقدية طويلة كتبها محمد دكروب، مستعرضا فيها نقاط التماس والاختلاف والتوافق بين غسان كنفاني وفارس فارس.
* * *
كان ”ملحق الأنوار” غرفة في الطابق الثاني من المبنى القديم لدار الصياد،
وكان لغسان مكتبان: واحد في ”الأنوار” حيث يسهر على العدد اليومي، والثاني في تلك القاعة الزجاجية التي منها كان يرشق الكتّاب والروائيين والشعراء بسهام نقده، مطمئناً إلى أن تستره سيحميه،
لكن الرسائل المؤيدة، والردود المتفجرة، كثيرا ما سدت الطريق بين قاعتي التحرير والملحق، موفرة لغسان كنفاني الفرصة لكي يندفع أكثر فأكثر في تحدي فارس فارس فيكتب المزيد من القصص والروايات ليثبت أن نقد الآخرين لا يعفيه من المسؤولية عن تطوير إنتاجه حتى الذروة.
مع ذلك تبقى أعظم روايات غسان كنفاني، بل أعظم كتاباته إطلاقا، تلك التي أبدعها دمه المتناثر على الزيتون والبيوت القليلة المتناثرة آنذاك في مار تقلا، يوم 8 تموز 1972، والتي منحته تأشيرة العودة الى عكا.
وشكرا لأن العظيمة التي تستبقي غسان بيننا دائما، ولعلها بعض القلة التي تستبقي فينا فلسطين بصورتها الأصلية المضمخة الآن بدماء كثيرين من جيل غسان كنفاني ورفاقه وأبنائه وتلامذته والآتين لكي ينتسبوا إلى دمه.