كنتُ شابّاً حينما التحقتُ بـ”السفير”، لهذا قصة صغيرة كما هي دائماً أوقاتي في “السفير”. هناك دائماً أقاصيص قصيرة في كلّ مكان يسوده جوٌّ عائلي. كنّا في الجريدة مُتشابهين على اختلاف مصادرنا وأعمارنا واتّجاهاتنا. القُرب كان من الفترة ومن الأمكنة ومن البلد نفسه، بما فيه من مجتمعات عدّة، وتواريخ مُتقاطعة، ولُغات بل وأجواء شتّى. بدأت “السفير” في ظرف خلّف وراءه نكسة 1967، لكنّ الجريدة حملت في كلّ أعدادها، منذ أنشِئَت، كلمة منسوبة إلى جمال عبد الناصر.
كان هذا مذهب طلال سلمان بالطّبع، لكنّنا لا ننسى أنّ عبد الناصر يومها كان قد غاب، وتحوّل إلى نُصُب تاريخي، ولم يعد سوى ذكرى ماضٍ ذهبي. ماضٍ هو نفسه تعكَّر بالهزيمة، لكنّ ما سبقه كان كلّ إرثنا القريب، كلّ ذخيرتنا الحيَّة، كلّ أشواقنا. صحيحٌ أنّ النكسة أحرقته، لكنّ رماده ما زال يُغذّينا ويُقيتُنا، ولم يعرض على محاكمة ولا على نقد فعلي. خرج الناس في كلّ ناحية يهتفون باسم عبد الناصر، كنوع من إنكار الهزيمة، كمطالبة باستمرار الحلم، كانتصار لفظيّ على النكسة.
موت عبد الناصر الذي بدا وكأنّه استمرار للهزيمة وسقوط إضافي، أمّن هذه المفارقة التاريخية، فبدا أن جريدة كـ”السفير”، وُلدت من رحم الأحزان. كانت، من حيث لا نتوقّع، تبدأُ أيضاً من ذكرى الحلم. كان هذا لا تاريخياً بالطبع، لكنّه كان كلّ رصيدنا وبقي هكذا، وربما سيبقى، إلى حينٍ غير مرصود. نحن فقط، منذ ذلك الحين وما قبله، نُسمِّي وقعاتنا انتصارات، أو نُراكم انتصارات بقدر سقوطاتنا.
نحن ما زلنا في ظلال هزيمة 67، أعقبتها مقاوماتٌ وحروب شعبيّة، كما أعقبتها هبّات وانتفاضات، لكنّ جميعها لم تستطع أن تمسح آثار النكسة. لكنّنا دون أن نصل إلى ذلك، ما زلنا ننتصر كلّ حين، ونُراكم انتصاراً على انتصار، بحيث إن لفظيّة النصر هذه تكاد تكون لغتنا السياسية. “السفير” لم تكن داعية من هذا النوع، لكنّها تأسّست في جوّ معركة، وبقيت في هذا الجوّ الذي مِن حينه بقي يسود عقوداً، هي تقريباً كلّ عُمر الجريدة.
حملت الجريدة من أعدادها الأُولى هذا الاستشهاد من عبد الناصر، الذي أوعز به مؤسّسها طلال سلمان الذي رحل في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، لكنّ كادرها الأوّلي حوى أعضاء في “منظمة العمل الشيوعي” التي لم تكن ناصرية، بل كانت تقريباً من ارتدادات على عبد الناصر وعلى هزيمة حزيران/ يونيو. كانت الجريدة لذلك ما لم تعدّ نفسها له، وما لم يُصمّمه مؤسّسوها.
في ما بعد حزيران، وما بعد عبد الناصر، كان الوقت للمقاومة الفلسطينية التي سرعان ما تمركزت في لبنان، وكان الوقت لذلك لما سُمّي حينها “الحرب الشعبية”. مع ذلك، لم يكُن زمن عبد الناصر قد انتهى فحسب، بل كان كلّ ما عناه المشروع الناصري، وما لحقه من مشاريع مُوازية، حملها عسكرٌ أسّسوا ثورات بالاسم، وأقاموا حكومات مُنفصلة عن الشعب، ودعَوا إلى حروب لم يكونوا في مستواها، ولم تكن لديهم مقوّماتها. لم يكن الأمر مُختلفاً لدى من تلاها، فـ”الحروب الشعبية” انقلبت إلى حروب أهلية، وإلى دُويلات فعلية سرعان ما وجدت نفسها ذات كيانات مخابراتية.
لكن ما عناه ذلك لـ”جريدة السفير”، لم يكن كلّه محاباة أو قبولاً أو دعاوى. الجريدة التي استقبلت برحابة يساراً جديداً، لم تكن غريبة عن هذا اليسار، الذي تابع دعوته إلى “الحرب الشعبية”، لكن غير غافل عن أنّ من يتنطّحون لهذه الدعوة يحملون غالباً أيديولوجيات موروثة وتقليدية وسياسات تتبعُها في تحالفات بذات الصفة. كانت المنظّمات هذه تتلقّى ذات النقد الموجّه لحكومات وأنظمة، التي لا تقوم فقط على القمع، بل تؤسّس أجهزة منفصلة، تزوّدها به قشرة اجتماعية، ويتكوّن في الأساس منها.
رحل مؤسّس “السفير” طلال سلمان بعد أن كانت الجريدة قد توقّفت، وغالباً في وقتها. لقد عايشت الحرب الأهلية اللبنانية وكانت في مواجهتها، لكن من جهة ثانية، كانت تقريباً جريدة اليسار الجديد، بكلّ تنويعاته وانعطافاته. ورغم أنّ الجريدة كانت لها سياسة تُجاه ما يجري، خلاصتُها دعم الطرف الإسلامي الفلسطيني اليساري، إلّا أنها لم تكُن مغلقةً عن تلاوين يسارية في الغالب، ذات موقف نقدي تُجاه هذا الطرف. كان لي، وأنا في الجريدة، حظّ من هذا النقد، لم يتوقّف بعد انتهاء الحرب الأهلية، بل استمرّ بعده تُجاه الطرف الشيعي. لم يكن طلال سلمان ولم تكن جريدته في هذا السياق، لذا بدت مقالاتي معارضة للجريدة من داخلها.
تركني سلمان أُعبّر على هواي، وتركني لمقالاتي التي استفزّت في حينها أنصار هذا الطرف، وهم غالبية الشيعة. تركني لمقالاتي، فهو صحافي أولاً، ويترك ولو من بعيد، مجالاً لتنوّع في الآراء، ولأكثر من كلمة. لم يكن طلال سلمان جُندياً في الثكنات التي أيّدتها جريدته، بل كان صحافياً أوّلاً، وكصحافي كان يُصغي لأكثر من رأي، ولا يُمانع بأن يجد له تلاوين شتّى. لم يكن حزبيّاً بأيّ شكل. كان يعرف نِسبية الأمور، ويفهم أنّ مهنته تفرض عليه أن يُشرك أكثر من اتجاه، وإنْ أبقى الصفحات الأولى لداعميه، لكنّه لم يُمانع أن تحوي الصفحات الداخلية كلاماً أكثر حرّية، ولو كان مضادّاً. أمرٌ كهذا لم يُكن معتاداً، وربّما كان وراء اختفاء الجريدة، في حين لم يعُد للصحافة بعد مفهومها العميق.
* شاعر وروائي من لبنان
جريدة العربي الجديد