سيتعذّر على إسرائيل، برغم تفوّقها العسكري، أن تنقل مأزقها السياسي الخطير في فلسطين إلى سوريا، بالطائرات الحربية الأسرع من الصوت وصواريخها التي يمكن إطلاقها من على بُعد أربعين كيلومتراً.
بل إن هذه الغارة التي شنّها الطيران الحربي الإسرائيلي، أمس، على مخيم »عين الصاحب« الفلسطيني، القريب من العاصمة السورية، وعبر اختراق الأجواء اللبنانية قد أكدت خطورة هذا المأزق السياسي الذي يضغط على دولة العدو ويكشف عجزها عن حسمه عسكرياً.
فالمأزق بعنوانه الأصلي وبطبيعته التي يعرفها العالم كله ينبع من إصرار إسرائيل على إنكار حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، بل هي الآن تكاد تنكر عليه حتى حقه في الحياة، مجرد الحياة.
ولو أن التفوّق العسكري وحده يمكن أن يحسم قضية سياسية من الدرجة الأولى تتعلق بحقوق الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني في أرضهم، لكانت إسرائيل المنتصرة في أول الحروب (1947 1948)، وفي »آخر الحروب«، كما كانت تفترض ويفترض معها بعض الانهزاميين من العرب، في مثل هذه الأيام من العام 1973، لما كان الإسرائيليون يعيشون اليوم داخل »مجتمعهم« المركّب والهجين أزمة مصير مفتوحة دائماً على المزيد من الخطر، كما تعبّر »النخبة« في هذا »المجتمع« مدنيين وعسكريين.
في أي حال، فرُب مصادفة خير من ميعاد: لقد وفّر العدو الإسرائيلي بغارته الجديدة على ما يعتبره »هدفاً فلسطينياً« داخل الأرض السورية وعبر الأجواء اللبنانية، فرصة لكي يتحقق »المسالمون« بأي ثمن، من أن إسرائيل لن تخلع في المدى المنظور ثياب الحرب، وأنها ستستمر في حربها المفتوحة هذه، ولن توقفها كما أوقفوها ولن تعتبرها كما اعتبروها محطة أخيرة على طريق »استسلام« الشجعان!
بل هي لا تعتبرها حرباً ضد الفلسطينيين وحدهم، بل ضد كل من تعاطف معهم بدافع الأخوة، بل حتى بدوافع بحت إنسانية، فوفّر لهم دار لجوء، وفرصة لمواصلة الحياة، ولو في ظروف بائسة، في انتظار »الحل السياسي« الذي لا يمكن أن تأتي به الهزيمة، كما لا يمكن أن يؤدي إليه الاستسلام.
لنشعل شمعة في ذكرى شهداء حرب 6 تشرين التحريرية، حرب العبور العاشر من رمضان… فإسرائيل ترى أن »حرب عيد الغفران الكيبور« لم تنته في خيمة الكيلو 101، ولا في اتفاقات فك الاشتباك مع سوريا، ولا في الصلح المنفرد مع مصر السادات قبل ربع قرن، ولا حتى في اتفاق أوسلو الذي وقعته قبل عشر سنوات والتي تكرّر محاولاتها لقتله كل يوم.
إنها غارة سياسية تستهدف إيذاء سوريا في دورها القومي، وفي قدراتها العسكرية، وتصويرها كأنها عاجزة ليس فقط عن حماية من لجأ إلى حمايتها، وعن تأمين أجوائها وأرضها ضد عدوها الإسرائيلي.
وهي غارة تستهدف عبر إيذاء سوريا، باعتبارها (مع لبنان) المضيف الأخير (؟) للمناضلين من أجل حقهم في بلادهم، تهديم معنويات الفلسطينيين داخل فلسطين، والذين يفتقدون العون والمدد من أخوانهم العرب، والذين تبقى سوريا في وجدانهم الملاذ ورافعة راية الصمود، الرافضة لمعاهدات الصلح المنفرد واتفاقات الإذعان، والخروج نهائياً من مربع الصراع والتسليم بأنه إسرائيلي فلسطيني فقط، وأن المتدخل فيه »إرهابي« يحل عليه العقاب!
ثم إنها غارة سياسية مباشرة على الرئيس السوري بشار الأسد، تستهدف امتحان كفاءته في التعامل مع أحداث على مثل هذه الخطورة، وإلى أي حد أخذ عن أبيه القدرة على الحساب الدقيق بحيث يقدم بلا تهوّر، وبتوقيته الخاص، وبعد قراءة دقيقة للظروف المحيطة، دولياً وعربياً.
وبالتأكيد فإن »الاستسلاميين«، وقد غدوا الآن كثرة بأصوات فاجرة، سيرفعون عقيرتهم »مؤنبّين« القيادة السورية على عنادها وإصرارها على حماية المقاومة، وعلى الاعتراض بما في وسعها على المشروع الإسرائيلي، وكذلك الاعتراض ولو هادئاً ومتدرّجاً على الاحتلال الأميركي للعراق.
ذلك أن اللوم في العصر الإسرائيلي الأميركي بات من نصيب الوطني المتمسك بحقوقه في أرضه، إذ يتهم بعدم قدرته على فهم التحولات، وما زال يعيش في الماضي.
وكثيرون سيرون في ما تضمنته رسالة وزير الخارجية السورية فاروق الشرع الى مجلس الأمن، أمس، تطرفاً لا مبرّر له… فكيف يجوز لدبلوماسي محنّك مثله أن يستخدم »عبارات مستفزّة« من نوع: إن سوريا ليست عاجزة عن خلق توازن مقاوم ورادع يلزم إسرائيل بإعادة حساباتها… وبالتوقف عن تصدير أزمتها الداخلية إلى عموم المنطقة وتعريضها لمزيد من التصعيد والتفجّر؟!
لا تفسير منطقياً للغارة من خارج الأزمة العنيفة التي تواجهها إسرائيل، بمختلف مؤسساتها، وهي تطارد بالموت شعباً لا يريد أن يستسلم أو يختفي عن سطح الأرض، لكي يريح عدوه!
من أقوال »النخبة« الإسرائيلية يمكن اقتباس عبارات من نوع: لا خيار أمام إسرائيل إلا أن تعيش على حد السيف! أو: هذه الحرب ليست ضد أشخاص بعينهم بل هي ضد مجتمع بأكمله!
ومنها: لا حرب، لا سلام، ليس حتى النهاية. العمليات تستمر، اليأس يتعمق، الكابوس لا ينتهي!
هل يراد تعبير عن الأزمة أكثر من موقف الطيارين الإسرائيليين، الذين أعلنوا أنهم قد ملّوا من قتل النساء والأطفال وتدمير البيوت؟
ثم إن الإدارة الأميركية قد أعطت إسرائيل أكثر ما تستطيع: وفّرت لها الغطاء السياسي وهي تواصل عمليات الاغتيال بالطائرات، أمدّتها بالأموال لبناء جدار الفصل العنصري، ساعدتها في حصار عرفات وفي محاولة عزله عن العالم، طوت خريطة الطريق التي كانت قد »منّت« بها على الشعب الفلسطيني، من قبل أن تكتمل ملامحها وتتحول إلى مشروع سياسي جدي.
… أما جائزة الترضية الإضافية فكانت الوعد الأميركي لإسرائيل بأن تفتح لها أبواب العراق تحت الاحتلال، تبيع فيه وتستثمر وتنهب ما تيسّر من خيراته، وتنشئ فيه مراكز لمخابراتها وشركاتها الطامحة إلى دور »الشريك« في الجزيرة والخليج.
إنها غارة سياسية تحاول الإيحاء للفلسطيني بأنه لم يعد له أي ملاذ آمن إذا هو أصر على فلسطينيته.
فحسب المنطق الإسرائيلي يحق للفلسطيني أن يكون فلسطينيا في المنافي البعيدة، ولكنه ممنوع من أن يكون فلسطينيا في فلسطين…
وممنوع على سوريا أن تسمح للفلسطيني بأن يبقى فلسطينيا فيها، وأن يظل يظهر تمسكه بأرضه وحقه في العودة إليها.
كثيرون من »العرب« اليوم ستأخذهم العزة بالإثم وهم يتوجهون بالشماتة نحو سوريا.
كثيرون سيدّعون أنهم قد »نصحوا« سوريا بالتخفف من تطرفها فما استمعت إلى نصائحهم، وعليها أن تتحمل بالتالي نتائج هذا الموقف الذي يجعلها على »قائمة الإرهاب« أو قائمة »مناصريه« بأي تعديل.
وبالطبع فإن هؤلاء سيتجاهلون أن هذه الغارة الإسرائيلية في جملة معانيها ودلالاتها تعيد توكيد هوية حربها ضد الفلسطينيين باعتبارها حربا ضد العرب جميعا، من خرج من حومتها بالصلح المنفرد، ومن خرج منها مستسلما من قبل أن يدخلها (قطر، مثلا) ومن وجد لزاما عليه أن يستمر فيها مقاوما بالنار أو بالموقف… خصوصا ان العدو يرفض وقفها إلا مع من يلغي نفسه تماما.
ولن تعدّل الغارة الإسرائيلية في ميزان القوى.. فالمأزق الإسرائيلي أثقل من أن تحمله الطائرات الحربية لتلقيه في مكان آخر.
وفلسطين باقية في أرضها وأهلها فيها… والحرب مفتوحة، حتى لو هرول كثرة من أهل الاستسلام خارجين منها!