تتوارى فلسطين ويشحب حضورها عربياً، وهي القضية المقدسة، مركز النضال العربي من أجل التحرر والتقدم والوحدة، السبب في اعتماد القمة العربية بدءاً من أيار 1963 كلقاء سنوي جامع للمختلفين والمتخاصمين والمتحالفين في قلب الخلاف مع الآخرين.. ويتراجع الاهتمام بها سياسياً وشعبياً بينما تتهاوى مكانتها في الوجدان العربي نتيجة خيبات الأمل التي تجرعها المواطن العربي على امتداد سنوات «النكبة» في العام 1948، التي سرعان ما عززتها «النكسة» بعد عشرين سنة (5حزيران1967)، ثم توالت النكبات والنكسات وما تزال تتوالد من ذاتها حتى اليوم.
ولقد كان مفجعاً أن تتوالى التفجرات والانتفاضات الشعبية على امتداد السنوات الأربع الأخيرة من غير أن تحتل فلسطين، بواجب تحريرها، مركز الصدارة فيها: كيف يكون «ربيعاً» ويكون «عربياً» وليست فلسطين الشرارة والمقصد ومركز الدائرة فيه، ولا تحريرها هو الهدف الذي في هديه ومن أجل بلوغه ترسم خطة السير ويكون التحرك لاكتساب المزيد من الأصـــــدقاء ومحاصرة العدو الإسرائيلي سياسياً واقتصادياً والتشهير بعنصريته التي اعتمدها رسمياً عبر الإعلان أن «إسرائيل دولة يهود العالم» ؟!
توالت المشاهد في تفجرات الغضب في مختلف الجهات العربية، ولكن نادراً ما رُفع علم فلسطين في الموجات الجماهيرية التي ملأت الساحات والشوارع في العواصم العربية: من تونس بداية إلى القاهرة وسائر مدن «القطر المصري» فإلى سوريا فالعراق، رجوعاً إلى ليبيا وصولاً إلى اليمن: كانت فلسطين الغائب الأكبر عن ذلك الانفجار الشعبي الذي بشّر بتغيير في مسار التاريخ، ولو جزئياً، في كل من تونس ومصر وليبيا، وما يزال يفعل فعله في سوريا وإن غمره كثير من الضباب نتيجة الاختراقات المتوالية التي أخرجت «المشروع الثوري» من إطاره الشعبي كمطلب للتغيير بوصفه حقاً شرعياً وحوّلته إلى حرب أهلية تدمر الدولة وتهدد وحدة الشعب… وأما العراق فالوضع فيه أكثر تعقيداً من اختزاله بكلمات، فهو يحتاج مجلداً لإعادة تحديد معنى «الوطنية» و «العروبة» وسط الموجة العارمة لإعادة بعث الهويات العرقية للأقليات بوصفها «قوميات» والتحريض المتواصل لإغراق العراقيين في بحور من دمائهم بالفتنة.
…وها هو تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يجتاح الكيانات الدول الهشة بأنظمتها المتهالكة، ويدفن الأحزاب العقائدية التي انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد ولم تجد من يواريها في متاحف التاريخ كشواهد على الانسياق وراء إغراء السلطة إلى حد تدمير الكيان والدولة، والأخطر: وحدة الشعب.
فلسطين اليوم «يتيمة» كما لم تكن في أي يوم، فالأنظمة العربية متباعدة إلى حد الخصام، متهالكة لا تجد عندها من القدرة ما تستطيع أن تواجه به بضعة آلاف من المقاتلين رافعي راية الإسلام، المنادين بدولة إسلامية يستقدمون مثالها بالسيف والدبابة والمدفع والذبح وتدمير المدن والقرى من خارج التاريخ.
ولقد شملت غزوات «داعش» حتى اليوم العراق وسوريا، مع قفزة إلى شمالي أفريقيا باتخاذ ليبيا قاعدة ومنطلقاً إلى روما التي تروّج «داعش» أنها كانت في «الخريطة الأصلية» لمشروع الفتح الإسلامي..
وعلى امتداد ثمانية شهور من المعارك والإعدامات والحرائق المدبرة للمدن والقرى، ومحاولة إقامة الركائز «للدولة» العتيدة كما في الموصل وتكريت ومدن عراقية أخرى وفي الرقة وبعض ريف دير الزور والحسكة في شمالي وشرقي سوريا، فإن «داعش» لم يذكر كلمة فلسطين في أي بيان.. بل إن «خطبة البيعة» التي ألقاها «الخليفة أبو بكر البغدادي» في المسجد الكبير في الموصل قد خلت من الإشارة إلى فلسطين، وبالتالي إلى العدو الإسرائيلي من قريب أو بعيد. ويبدو أن المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، بل ومجموع الأرض الفلسطينية المقدسة (والمحتلة) لا تشغل بال الخليفة والتنظيم ذي الشعار الإسلامي المقلّد للراية التي رُفعت في فجر الإسلام.
اللافت أيضاً أن السلطة الفلسطينية وكذلك المنظمات على اختلاف توجهاتها قد اعتمدت الصمت سياسة تجاه هذا التنظيم الآتي من الجاهلية، ربما لأنها تفضل عدم الاشتباك معه، «وطالما أنه لم يعلن الحرب علينا فلماذا نبادئه بالحرب» ؟!
الواضح أن قيادة السلطة تتابع مجهوداتها الديبلوماسية من أجل المحكمة الدولية لإدانة إسرائيل بجرائمها العنصرية…وأن «حماس» مشغولة بمحاولة تدبير مصادر تمويل لإعادة بناء ما هدمته الحرب الإسرائيلية الرابعة أو الخامسة على هذا القطاع الفقير بأرضه وبموارد سكانه الذين يشكل «مغتربوهم» و «العاملون في الجزيرة والخليج» أهم مصادر كلفة الحياة في هذا القطاع، غزة هاشم.
(لا يمكن تناسي الحصار الذي فرضته السلطات المصرية على هذا القطاع من ضمنها حربها على تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، بعد إسقاط حكمه في القاهرة، معتبرة أن تجريم التنظيم يشمل أعضاءه جميعاً وفي أي مكان تواجدوا…ثم إن السلطة في مصر ظلت حتى الأمس القريب تعتبر أن «حماس» بوصفها «إخوانية» العقيدة لا بد شريكة مع إخوان مصر في التواطؤ على الحكم الجديد ولا بد من إنزال العقوبة بها، خصوصاً وأن مسألة «الأنفاق» التي كانت أهم مصادر السلاح لمقاتلي «حماس» قد تجاوز من حفرها مهمة تعزيز المجاهدين في غزة بالصواريخ وسائر أصناف السلاح إلى الإفادة منها من أجل إدخال البضائع والمؤن بتعزيز خطوط التهريب. ويبدو أن بعض التنظيمات الأصولية التي كانت موجودة في سيناء، في جوار غزة القريب، قد أفادت من هذه الأنفاق وشحنات السلاح المهربة من ليبيا عبر السودان، فعززت قدراتها الميدانية و «تفرغ» المجاهدون لمطاردة نقاط السيطرة العسكرية المصرية محدودة العديد والتسليح، بحكم معاهدة كامب ديفيد وقبلها نتائج حرب 1967 فقتلت العديد من الضباط والجنود، مما زاد من استرابة السلطات المصرية في قيام «تواطؤ» ما بين «حماس» والتنظيمات المسلحة ذات الشعار الإسلامي في سيناء.
في هذا السياق لم يكن مستغرباً أو مفاجئاً أن تعلن هذه التنظيمات توحدها في «الجهاد» ضد النظام المصري، ثم أن تبايع «الخليفة أبا بكر البغدادي» معلنة انخراطها في «دولته»…
وهكذا تجاوزت حدود الخلافة المستحدثة والطارئة على التاريخ بلاد العراق والشام إلى سيناء (تمهيداً لدخول مصر)! ثم إلى ليبيا، الذي أعلن هذا التنظيم السفاح بيعته «للخليفة البغدادي» عبر مذبحة فظيعة أعدم خلالها واحداً وعشرين من العمال المصريين الذين ذهبوا إلى ليبيا يبيعون عرق جباههم من أجل إعالة أهلهم في مصر، وقد تقصّد «داعش» أن يكون ضحاياه من الأقباط المصريين، في جهد إضافي من أجل إشعال نار الفتنة في مصر.
اللافت أن هناك ما يشبه معاهدة عدم اعتداء بين العدو الإسرائيلي وتنظيم «داعش» …فلا هو تعرض لدولة العدو، ولا لسفاراتها في أي دولة في الخارج. بل إن بعض التنظيمات التي تقاتل النظام في سوريا رافعة الشعار الإسلامي، قد بادرت مؤخراً إلى إعلان بيعتها لتنظيم «داعش» الذي لم يصدر عنها، كما عن «جبهة النصرة» التي كانت تنسب نفسها إلى «القاعدة» أي بيان يشير إلى العدو الإسرائيلي من قريب أو بعيد.
لكأن هذا النوع من التنظيمات الإسلامية ذات النزعة الانتحارية من أجل إعادة الخلافة وذات الرغبة في «هداية» المسلمين، مرة أخرى، إلى الدين الحنيف، تعتبر المسيحيين عرباً وأشوريين وكلداناً وإيزيديين في منزلة بين منزلتي أهل الذمة أو الكفار الواجبة هدايتهم والمبرر سبي نسائهم وتجنيد أطفالهم في جيوش أمير المؤمنين، أما رجالهم فمن آمن سلم أما من أبى واستكبر فرضت عليه الجزية، هذا إذا منّ عليه بالحياة.
] ] ]
من الأخبار القليلة التي تخفف القلق أن بعض محاكم القاهرة قد برأت، قبل أيام، تنظيم «حماس» من الاشتراك في الجرائم التي اتهم بارتكابها بعض الشبكات التي تجاهر بانتمائها إلى تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، والتي أدين أفرادها وحكم على كثير منهم بالإعدام.
لقد اعتبرت هذه التبرئة خطوة أولى في اتجاه ترميم العلاقة مع «حماس» إن لم يكن من أجل مصالحة شاملة فعلى الأقل من أجل فك الحصار (المصري الآن) عن هذا القطاع المتروك أهله للريح.
ولكم كان مهيناً أن تتقصد إسرائيل الظهور بمظهر المشفق على أهالي غزة، التي قتلت الآلاف من أطفالهم ونسائهم وشيوخهم والرجال، ودمرت عمرانهم بيوتاً ومساجد ومدارس ومستشفيات ومنشآت تابعة لمنظمات دولية
] ] ]
هل من الضروري التذكير بأن ليس من دولة عربية يشغل بال قيادتها الآن مصير القضية الفلسطينية، في ظل تهالك السلطة التي تجهر بإفلاسها مالياً، بينما يشحب وجودها السياسي وقدرتها على خدمة القضية المقدسة…
ومع أن الإدانات المتوالية والصادرة عن هيئات دولية معنوية (إنسانية أساساً) تفضح الممارسات الإسرائيلية وتؤكد شيئاً من التعاطف مع هذا الشعب الممنوع من أن تكون له دولة فوق أرضه، ولكنها لا توقف إسرائيل عن التمادي في «استيراد» المستوطنين، ولا هي توقف مصادرتها لأراضي الفلسطينيين (حتى تلك التي يفترض أنها تحت حكم السلطة)..
كذلك فإن الاعتراف المتأخر بمشروع الدولة الفلسطينية والذي أقدمت عليه بعض دول الشمال الأوروبي، كالنروج مثلاً، يعطي دفعاً معنوياً السلطة بتذكير العالم بحق الشعب الفلسطيني في بعض أرضه.
ولكن المسألة أكثر تعقيداً، بشهادة المناورات ووجوه التآمر التي شهدها مجلس الأمن الدولي عندما تقدمت منه السلطة طالبة بعض حقوق الدول فرفضت الأكثرية معززة بالفيتو الأميركي.
خلاصة الكلام: أن فلسطين المنقسمة «سلطاتها» على ذاتها، والتي يصل الانقسام بينها إلى حدود المخاصمة التي تكاد تصير عداءً معلناً في حالات معينة، لا يمكن أن تحقق حلم «الدولة» في ظل هذه الأوضاع العربية، حيث تعيش شعوب عربية عديدة حالة من الخوف الجدي على «دولها» المتهالكة، والتي تذهب في طلب النجدة لمواجهة «داعش» إلى دول الاستعمار قديمه والجديد…وهي هي التي استولدت ورعت الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين.
إن العرب بمجموعهم في حالة من التيه..
والتيه لا يحمي دولاً قائمة ولا يمهد لإقامة دولة على أرض فلسطين في ظل الاحتلال الإٍسرائيلي: الحليف الأعظم لـ «داعش» وسائر تنظيمات الإسلام السياسي التي تعتمد القتل الجماعي وسيلة للتبشير بالدين الحنيف.
إن الحكام القائمين بالأمر في العديد من الدول العربية لا يفكرون بأكثر من حماية أنظمتهم…وتجيء أنت لتحدثهم عن فلسطين؟!