لا يمكن قبول الافتراض الجاري العمل لترويجه عالميا وكأن الحركة الصهيونية تنتج الآن المشروع المتمم لدولتها، اسرائيل، بإقامة ستار فلسطيني واق تحت لافتة »دولة« على بعض اراضي الضفة الغربية (من دون القدس) وغزه (من دون المساحة التي تحتلها المستوطنات لتعزل فلسطين عن مصر).
واذا كان المسؤولون الاسرائيليون يتولون الآن الترويج لمشروع »الدويلة الفلسطينية« وكأنها شرط حياة لدولة اسرائيل، فإنهم بالمقابل لا يتوقفون عن محاولة استئصال مخاطرها المحقة سلفا، وتطمين الذات بعزلها عن المحيط العربي، ومنع اتصالها المباشر به، برا بالاساس ثم بحرا وجوا، اضافة الى تجريدها من السلاح ومن المقومات الاقتصادية التي تكفل الكفاف لأهلها،
ومهما تعاظمت التنازلات التي تقدمها القيادة الفلسطينية يظل صعبا على الحركة الصهيونية الادعاء بأن مشاركة الفلسطينيين ارض »الوطن القومي اليهودي« كانت بين مخططاتها،
بالمقابل لا بد من القول انه يصعب على اي عربي القبول بالواقع الذي يتكرس يوميا على الارض والذي يقدم مشروع »الدويلة الفلسطينية« وكأنه سور امامي يحصن ويحمي دولة المشروع الصهيوني من الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما، يرفض اي عربي ان يتصور ان الحركة الصهيونية تنتج الآن مشروع »الدويلة« المتممة لدولتها.
كما يصعب عليه ان يتصور انه بعد 82 عاما من وعد بلفور الانكليزي بإقامة الوطن القومي اليهودي فوق ارض فلسطين، وبعد تحول هذا »الوطن« الى »دولة عظمى« في المنطقة، فإن الفلسطيني قد »انتزع« من الاسرائيلي الوعد بدولة له، مستعينا بدعم مفتوح من الاميركي كلينتون.
على انه قد يصح التأريخ لهذه »الدويلة« التي يرشحها او يقبلها الاسرائيلي مفترضا انها ستقوم بدور المخفر الامامي لحراسة اسرائيل، بهذا اللقاء الجنائزي في اوسلو، على »نية شهيد السلام الاسرائيلي« اسحق رابين، والذي شارك في احيائه الغرب كله: الولايات المتحدة الاميركية بشخص رئيسها، والاتحاد الاوروبي بشخص رئيسه الفنلندي، وروسيا التي لم تعد »سوفياتية« و»شيوعية« كما لم تعد »شرقية« بل هي مشتبكة حتى القتل مع جناحها المسلم الذي كان يضفي عليها مسحة شرقية تعزز ارثوذكسيتها ككنيسة شرقية.
ولقد يرفض اكثر العرب، في اعماقهم، هذا التحول الذي يكاد يتجسد الآن على الارض: من الكفاح المسلح والمقاومة والانتفاضة من اجل التحرير الى »حرس حدود فلسطيني« للكيان الصهيوني. من القضية المقدسة والصراع العربي الاسرائيلي المفتوح الى مشروع مواجهة بين »العرب« وبين »الفلسطينيين« تذهب بالقضية وقدسيتها، وان ظلت الراية المرفوعة تحمل اعلام »الثورة العربية الكبرى« اي ألوان ما كان يسمى »العلم العربي« المتطابق مع بيت الشعر الشهير: »بيض صنائعنا، خضر مرابعنا، سود وقائعنا، حمر مواضينا«.
ولقد ترفض كثرة من الفلسطينيين كما من سائر العرب هذا التحول الخطر: الفلسطيني من طليعة للنضال القومي من اجل التحرير والوحدة يتحول عبر قيادته الى »عازل« و»قوة صدم« تحمي اسرائيل من خطر عربي محتمل… بالتحرير، او بالوحدة!!
اكثر من ذلك: سيكون هذا »الفلسطيني«، الذي يبدو وكأنه خسر اي خيار آخر فاستكان لقيادته »التاريخية« وهي تجره من وهم الوطن الى وهم الدولة، مستبدلاً احلامه بالاقرار »الرسمي« بهوية له وجواز سفر، وخصوصاً ان الرصيد المعنوي الدولي الذي حققه بتضحياته الغوالي قد تبدد عبر رحلة الركض وراء اوهام »السلام«، وهي اوهام ساهم في صنعها »رفاق سلاحه« العرب ليتخلصوا من اعباء قضيته الثقيلة، فعززوا نزعته الى التفرد التي قادته الى الالتحاق بعدوه تحت شعارات مضللة تبدأ »بالقرار الوطني المستقل« مروراً بالاقرار بمنظمة التحرير »الممثل الشرعي والوحيد« للشعب الفلسطيني، انتهاء ب»نرضى للفلسطينيين ما يرتضونه لانفسهم« و»لن نكون ملكيين اكثر من الملك.. الفلسطيني«!!
… سيكون هذا الفلسطيني »مجبراً« على القيام بدور المبرّر والمروّج والمسوّق للمشروع الاسرائيلي في طوره »الكوني« الجديد باعتباره »سيد الشرق الاوسط«.
الكيانية تستسقي الكيانية.. وفي الكيانيات يتساوى »العربي« و»الاسرائيلي« فهما متماثلان في »العنصرية«، وفي العداوة للرابط القومي«!
غداة ارهاصات التنبه العربي إلى الهوية القومية كافأ البريطانيون »حلفاءهم« العرب بوعد بلفور للحركة الصهيونية،
ومع التراجعات المريعة للحركة القومية، وسقوطها في هوة الهزيمة والعجز، انفكت عرى »الرباط المقدس« بين العرب، وخرج كل منهم في طريق، وذهب الفلسطيني الذي بقي وحده في عراء اللجوء والتشرد بعيداً بعيداً وهو يسعى الى »كيان« له، حتى تلقفته اسرائيل منهكاً، مستوحداً، يائساً وها هي الآن تحاول توظيفه ضد نفسه وضد وطنه وضد أمته،
من وعد بلفور الى وعد كلينتون: مسيرة هزيمة قومية، لا يكفي لتبريرها ادانة الطرف الفلسطيني، وان كان منطقياً لافتراض انه سيحاول كل يوم تبرير نفسه مما سيؤدي الى ايذاء »اخوته« السابقين، من الفلسطينيين اساساً كما من سائر العرب، مع وعيه بأن »وهم الدويلة« داخل القفص الاسرائيلي لن يوفر له الأمان ولا الكرامة ولا حصانة »المواطن« ولا »سيادة الدولة« التي نخشى جميعاً ان تقوم على حساب فلسطين ارضا ًوشعباً وقضية، وكبديل منها، وليس كخطوة واسعة في اتجاهها.
طلال سلمان
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان