صارت فلسطين تعني العروبة، بقدر ما تعني الهوية الوطنية لكل عربي من أي »قطر« جاء ولأي أرض انتمى.
صارت شرطاً لوطنية اللبناني، السوري، العراقي، الإماراتي، القطري، البحريني، السعودي، اليمني، المصري، السوداني، الليبي، التونسي، الجزائري، المغربي، الموريتاني وحتى ابن جيبوتي المضيّعة والصومال الممزّق بالفتنة وحرب التدخل.
إلى ما قبل الانتفاضة ومن ثم الحرب الإسرائيلية الجديدة كان الشعور الوطني ومن ثم القومي في أدنى مستوياته، تحت ضغط اليأس وافتقاد الرجاء أو القدرة على تغيير القدر المعقّد والمفروض متمثلاً بأنظمة العجز العربية الخاضعة أو المخضعة للضغوط الأميركية ومن ثم للابتزاز الإسرائيلي الدائم والمفتوح.
وحدها فلسطين كانت قادرة على اجتراح المعجزة: إعادة العرب المخدّرين بأوهام السلام الأميركي إلى الوعي بحقائق الصراع الأصلي مع المشروع الإسرائيلي الذي يستهدفهم في وجودهم ذاته، فضلاً عن طموحهم وسعيهم إلى مستقبل أفضل خارج قوقعة التخلف المحصورين والمحاصرين فيها.
ففلسطين من قبل، والآن، ومن بعد هي كلمة سر الوجود العربي: هي الرباط المقدس بين هذه الملايين المتناثرة على الرقعة الهائلة الامتداد بين المحيط والخليج.
إن كلمة فلسطين تختزن الأمل كما تختزن الحلم بمستقبل أفضل.
ثم ان فلسطين متغلغلة حتى أعمق أعماق الوجدان والفكر والذاكرة، لا تمّحي ولا يمكن إسقاطها مهما تراكمت فوق صورتها أوهام الحلول المنفردة أو الاستقواء بعوامل الزمن لاستدراج النسيان واعتبارها بعض الماضي الذي لن يعود.
لقد أثبتت الحروب الإسرائيلية المتكررة، والتي باتت بعد 11 أيلول، أميركية صريحة، ان فلسطين هي صورة مقرّبة للغد العربي: التراجع عنها أو فيها تسليم بالقدر الإسرائيلي واستسلام للهيمنة الأميركية، وبالتالي خضوع لأنظمة العجز العربية وهي تتردى في وهدة الانحراف مأخوذة برعبها إلى حد التواطؤ على شعوبها.
بهذا المعنى تصبح فلسطين القضية الداخلية لكل قطر عربي: فالديموقراطية تؤدي إليها وحقوق الإنسان تبدأ بها، والعروبة تتجسد فيها، والسيادة والاستقلال والكرامة والانتفاع بالموارد الطبيعية والثروات المختزنة في الأرض العربية، والحق في غد أفضل عبر اللحاق بركب التقدم، كل ذلك يصبح متضمناً في هذه الكلمة السحرية الصغيرة: فلسطين.
وها هي فلسطين تحتل الشارع العربي الآن، وتفرض نفسها على مراكز القرار.
لقد فجّرت فلسطين دمها فصحا العالم من غيبوبة الخضوع للهيمنة الأميركية، وانتبه العرب في مختلف مناطق وجودهم إلى ما يتهددهم في مستقبلهم نتيجة للمشروع الامبراطوري الإسرائيلي الذي وانطلاقاً من انتصاره عليهم في فلسطين يكاد يلغيهم، دولاً وشعوباً، والذي لم تنفع معه المهادنة أو معاهدات الصلح المنفرد أو حتى عروض بعضهم بالاستسلام الطوعي بغير أن يكونوا مهددين مباشرة في سلامة أنظمتهم أو في ثروات أوطانهم التي نهبوها وادّعوها لأنفسهم.
وكالسحر، استطاعت فلسطين أن تعيد الروح إلى الشارع العربي، بأن اعادت إليه »الجماهير« التي كان قد غيّبها القمع أو ضللها عنه سراب السلام المتوهَّم، أو اليأس من أنظمتها المتخاذلة التي لم تضيّع وقتها فزرعت الشارع بالعسس وشرطة مكافحة الشعب والخوف من الاعتراض الذي يأخذ إلى الجوع وذل الحاجة وكلاهما أصعب من السجن.
لقد فضحت فلسطين المتوهجة بدمها المسفوح غيلة وظلماً وهم الأمان الذي كانت الأنظمة قد روّجت له عبر الترويج للتسوية التي ستفتح طريق مستقبل الرخاء!
وبغير قصد أو افتعال اتخذت الحرب الإسرائيلية الجديدة موقعها الطبيعي كجولة جديدة من حروب المشروع الامبراطوري الإسرائيلي ضد الأمة العربية.
هي تتمة طبيعية لحروب 1948 و1956 و1967 التي استهدفت العرب جميعاً عبر فلسطين، وحاولت عزلها بعيداً عن أهلها بدءاً بمصر جنوباً ومرورا بالمغرب وبسوريا ولبنان في الشمال وانتهاء باليمن، والتي كانت حرب 1973 محاولة شجاعة لإعادة الربط لكنها انتهت أو أنها أنهيت عمداً بمحاولة تثبيت الانفصال عنها… هذا الانفصال الذي أكدت إسرائيل بمشروعها التوسعي استحالة تثبيته.
على هذا فمن الطبيعي ان تستعيد المعركة سياقها الأصلي، وان تستعيد بالتالي شعارها الصحيح وصور الأبطال الذين قاتلوا لوقف الاجتياح الإسرائيلي للأمة العربية انطلاقاً من فلسطين دائماً.
»ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة«.
ذلك هو الشعار الذي لا يلغيه أو يسقطه الضعف أو الاستضعاف أو الإضعاف الراهن، والذي أوصل أنظمة العجز العربية إلى حد استجداء السلامة ولو عبر التضحية بفلسطين كلها، ومعها »سيادتهم« على أقطارهم ذاتها.
طوى »الجمهور« الذي أعاده جنون القتل الإسرائيلي والصمود البطولي لشعب فلسطين المستفرد إلى وعيه، كل شعارات مرحلة الاستكانة والخنوع تحت لافتة أوهام السلام الممكن بين قوة إقليمية متعاظمة تطمح إلى دور كوني في ظل التماهي بين إسرائيل أرييل شارون وأميركا جورج بوش على قاعدة العداء المشترك للعرب كلهم (وللمسلمين جميعاً)…
ومع عودة الوعي كان لا بد من استعادة الشعار الصحيح ووجهة السير الصحيحة.
لهذا عادت صورة جمال عبد الناصر إلى الارتفاع بعد دهر من التشهير والطمس ومحاولة مسح أي أثر لدوره التاريخي في حركة النهوض بالأمة وتوكيد حقوقها في أرضها وثرواتها ومستقبلها الأفضل.
لقد أقر جمال عبد الناصر، سنة 1967، بأنه أخطأ التقدير، وبأنه تغافل عن تعاظم الانحراف والتبلد داخل نظامه، مما أدى إلى الهزيمة الساحقة والمهينة في الحرب التي أسمتها إسرائيل »حرب الأيام الستة« تحقيراً للعرب عبر قيادتهم ذات الرصيد الشعبي العظيم، ممثلة بجمال عبد الناصر وثورته التي أعادت مصر إلى العروبة.
لكنه عاد إلى الميدان مقاتلاً ممتازاً بعد أيام من هزيمة 5 حزيران واستمر فيه حتى يوم رحيله في 28 أيلول 1970، وبعدما كان قد أعاد بناء الجيش القادر على احراز النصر، وإن كان السادات قد حرمه من تحقيق هذا الانجاز العظيم لأنه كان قد »باع« نتائج هذه الحرب، سلفاً، للخصم الأميركي بذريعة انه يملك 99$ من أوراق الحل.
أن يعود جمال عبد الناصر مع فلسطين إلى الوجدان وإلى الميدان وإلى الذاكرة فهذا أمر طبيعي.
إنها الحرب، مرة أخرى، ومفتوحة دائماً، على فلسطين بعروبتها وعلى العرب جميعاً عبر فلسطين.
واستعادة جمال عبد الناصر وسيرة نضاله »الفلسطيني« هي استعادة لصورة القائد العربي المحارب لحماية الأمة من خطر يتهددها في وجودها ومصيرها، بديلاً من صور سلاطين الهزيمة والتسليم بها وكأنها قدر لا مفر منه.
عودة جمال الناصر تجيء إعلاناً عن عودة الجماهير العربية إلى وعيها، عودتها إلى ميدان القتال الأصلي من أجل حقوقها في غد الحرية والكرامة، والعنوان دائماً فلسطين، فلسطين التي تختزن الثورة والعروبة وحلم الغد العربي الأفضل.
»جفن الأرق«: »الشرقيّ« شاعراً!
البداية جدول يشق مجراه الضيق في قلب السهل، ويستنبت الصفصاف والحور وشجيرات بلا أسماء، ويعطي الصبيان فرصة لدرس أول في السباحة، وفسحة للمواعيد مع الحب الأول، بعيداً عن عيون العواذل.
هكذا هي بداية الليطاني: جدول بسيط، بل جداول بسيطة سرعان ما تتلاقى في مجرى واحد في منبسط السهل ليتدرّج من الشرق إلى الغرب قبل أن ينعطف جنوباً حيث يصير نهراً يستولد الكهرباء ويخصب الأرض الموات ويسقي العطاش تحت اسم مختلف هو »القاسمية«..
وبالرغم من الشح في مائه فإن هذا الجدول تسبب في قسمة »بلاد بعلبك« إلى »شرقي« و»غربي«… ربما لأن الناس عطفوا الانقسام من حول مجرى النهر على الواقع الجغرافي لسهل البقاع الذي يشكل »انخسافا« بين سلسلة الجبال الغربية والسلسلة الشرقية.
ولأن للبيئة تأثيرها على السكان فقد كان أهل »الغربي« يرون في أنفسهم الأكثر تقدماً، والأكثر تعلقاً بالعلم، والأكثر استعداداً لتقبل التحولات واللحاق بالعصر من أنسبائهم وجيرانهم أهل »الشرقي«، الذين اشتهروا بشيء من القسوة وشدة البأس والإفادة من وقوعهم على الحد حيث يسهل »الأخذ والعطاء« بين سوريا ولبنان بغير حاجة إلى الأختام الرسمية.
لماذا هذه المقدمة الطويلة؟
هل هي لتبرير بزوغ شاعر من أهل »الشرقي« ومن النبي شيت تحديدا، وهي البلدة التي اشتهرت بمقام »النبي شيت« التي تحمل اسمه، ومن ثم بالمجاهدين من استشهد منهم في معركة التحرير ومن ينتظر، وعلى رأسهم »سيد شهداء المقاومة عباس الموسوي«.
… ولكن الزميل علي الموسوي ليس أول شاعر من »الشرقي« ولن يكون الأخير، وإن كان قد فاجأنا نحن في »السفير« بديوانه الأول »جفن الأرق«، في حين أننا عرفناه محررا قضائياً يحترف الأرق وهو يتابع المحاكمات والأحكام في مختلف المحاكم، لا سيما العسكرية منها والمتعلقة »بالمتعاملين« و»المتعاونين« من ضحايا مرحلة الاحتلال الإسرائيلي لبعض الجنوب والبقاع الغربي.
الإهداء لافت: »إلى صديقتي نسرين نصار الموسوي: لا ينضج ذوق عيني إلا عند رؤيتها« ونسرين »تحتل« علي كله، ناثرا وشاعرا، صحافيا وزوجا ورب أسرة وعاشقا لا يتعب من عشقه ولا من »موضوعه« خصوصا وقد صارت رفيقة العمر.
هي المحاولة الأولى، وهو الحب الأول والدائم، لذلك فالتقييم الفني مرجأ وإن كانت الالتماعات تبشر، وخصوصا أن علياً غير متعجل… فالديوان الأول حصيلة عشر سنوات من التنقل بين العواطف والأوزان، بين الشعر الجاهلي والشعر الحديث أو بعض تلاوينه:
»قد يمتطي الطلل الأسفار والمطر/ ليبعث الروح في أنفاس ماضيه«
»لا ينبت الحب إلا في معاركه/ كما انسياب ظلال الورد في عبق..«
علي الموسوي »بحاثة في لغة العسل« و»شيب القمة حلم معبد بشعث اليقظة/ كأنه جفن الأرق/ وأنا بين يدي عمري أجير/ حظي غيم/ بصارة حدسي ناحت/ في دربه بحر تنقصه الأمواج«.
وهو يقارب »الحكمة« أيضا: »ما كل سكان السماء ملاك/ فكيف بواقع الأرض«.
لكن الأمة »مستكينة كالريف« فليذهب الشعر إلى الحب وإلى سوسنته التي هي منبعه ومصبّه.
وارث الجدين: حسن الحسن
»ذات يوم اندفع الى غرفة مكتبي في مجلس النواب كمال جنبلاط. كان في حالة ثورة نفسية، فأمرني ألا أخرج من مكتبي أبداً وألا أُدخل إليه أحداً، وأخذ يردد: »مش معقول، ما كان لازم يصير ما صار«… جاء حسن الزين ووقفنا مشدوهيْن ونحن نرى دمعة تنساب على خد الرجل الكبير، فمسحها بكفه قائلاً: »لعنة الله على الشيطان..«.
»بعد فترة عرفنا السر وراء ذلك كله: كان شجار قد وقع في قاعة المجلس بين كمال جنبلاط وبين عبد الله اليافي، وكان رئيساً للحكومة آنذاك، فرشقه بكوب ماء..
وبعدما هدأ روع كمال جنبلاط عاد إلى القاعة لينهي الإشكال باعتذار«.
هذه واقعة بسيطة تجيء عبر سياق »الذكرى الدائمة« لحسن الحسن وعمن عرف من »الكبار« لمناسبة مرور خمس سنوات على وفاته، وقد أصدرته أسرته بتقديم لابنته السيدة إيمان الحسن غندور.
ولقد عرفت الدكتور حسن الحسن في بداية الستينيات، وقد كان مديراً للإذاعة، وككل من عرفه فقد كان مستحيلاً قطع العلاقة معه لدماثته ولياقته وحرصه على صداقاته ومعارفه. كان فيه شيء من والده السيد محمد الحسن، قاضي الشرع، ومن جده لأبيه المجتهد الكبير السيد حسن يوسف، أول من بنى مدرسة أهلية على المناهج العصرية في جبل عامل سنة 1881… وكذلك شيء من جده لأمه الشيخ أحمد رضا أحد رواد التحرير في جبل عامل وعضو المجمع العلمي في دمشق وصاحب معجم »متن اللغة«.
والكتيّب يقدم تعريفاً بحسن الحسن، صاحب المحاولات الشعرية، ومدرّس القانون الدستوري، وقد ألّف فيه غير كتاب، والخبير الممتاز في حقل الإعلام والعلاقات العامة وكذلك في مجال السياحة، وقد كان متميزا في التنويه بصناعتها المستقبلية.
كذلك فإن الكتيّب، وربما بعض الشعر فيه، يشير الى قصة حبه التي امتدت سبع سنوات على قارتين، بين بيروت وصيدا في لبنان والقاهرة المحروسة في مصر، وهي التي انتهت بالخاتمة السعيدة: الزواج.
بعد خمس سنوات يظل طيف حسن الحسن معنا، مثالاً للرقة والدماثة والإنتاج المتنوع، ولعل في هذا بعض العزاء عن غيابه المبكر.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أخطر ما في الحب أنه يبدأ هادئاً كالعاصفة. أخطر ما في الحب أنه يجعلك تعيش الأمان المطلق في قلب العاصفة. أخطر ما في عاصفة الحب أنك إن قاومتها اقتلعتك وإن اندفعت معها غيّرت الكون.